قرابة 26 سنة مرت على قرار السلطات الجزائرية بتوقيف الدور الثاني من الانتخابات البرلمانية التي فازت بها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، وهو الإجراء الذي أعقبته موجة عنف أدخلت البلاد عقدا دمويا شهد مقتل آلاف الأشخاص، وسمي بـ"العشرية السوداء".
ورغم انقضاء كل هذه المدة، يبقى التساؤل مطروحا لحد الساعة: هل الإرهاب الذي عاشته الجزائر خلال أزيد من عشرية كاملة كان نتيجة هذا القرار السياسي، أم أن الأمر مرتبط بعوامل أخرى هي التي صنعت ظاهرة الإرهاب في الجزائر؟
من الديمقراطية إلى حمام الدّم!
لا يمكن لشهر يناير أن يمر على الجزائريين دون أن يتذكروا ما وقع ليلة الحادي عشر من الشهر ذاته، قبل 26 سنة بالضبط، لما أطلّت عليهم مقدمة الأخبار في التلفزيون الرسمي، صورية بوعمامة، لتطلعهم على قرار اتخذه المجلس الأعلى للأمن يفيد بتوقيف المسار الانتخابي، في وقت كانت فيه التحضيرات جارية على قدم وساق، لإجراء الدور الثاني من هذه الانتخابات.
وبقدر الدهشة التي خلفها هذا القرار على عدد من المتابعين للشأن السياسي في الجزائر وقتها، بقدر ما دفع بعض الجزائريين إلى التساؤل عما سيكون عليه الأمر في قادم الأيام، بالنظر إلى الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت تعرفها البلاد وقتها.
وقد أدى الإعلان عن قرار توقيف المسار الانتخابي في الجزائر إلى تململ وارتجاج في الساحة الجزائرية وقتها، بعد المعارضة التي أبدتها العديد من الفعاليات السياسية، معتبرة الأمر محاولة لوأد المسيرة الديمقراطية التي عانقتها الجزائر منذ سنة 1989، بعد إقرار الدستور الجديد الذي سمح بالتعددية الحزبية في البلاد لأول مرة في تاريخ الجزائر المستقلة.
لكن لم تمض سوى أيام معدودات على هذا التجاذب السياسي حتى بدأت المؤشرات الأولى للعنف في البروز في شكل عمليات مسلحة استهدفت بعض رجال الأمن على مستوى العاصمة.
وطالت هجومات أخرى بعض الشخصيات، قبل أن يتطور الأمر أكثر ويتبين أن جماعات دينية متطرفة، تنضوي تحت حزب "الجبهة الإسلامية للانقاذ"، هي التي كانت وراء تلك العمليات، حسب ما أعلنته جهات رسمية وقتها.
وقد انتشرت الأعمال الإرهابية في الجزائر بشكل لافت مع منتصف التسعينات، عندما طالت مئات المواطنين الأبرياء والعزل في مختلف المناطق الجزائرية، في شكل مجازر جماعية أثارت وقتها الرأي العام داخل الجزائر وخارجها، ودفعت البعض إلى المطالبة بفتح تحقيقات دولية فيما كان يقع في الجزائر.
اقرأ أيضا: حقائق قد لا تعرفها عن أبشع 'مجزرة إرهابية' في الجزائر
وظلت الجزائر تتخبط في أتون هذه المواجهات المسلحة على امتداد أزيد من 10 سنوات كاملة، إلى غاية مطلع الألفية الجديدة، عندما قررت السلطة فتح قنوات حوار مباشرة مع ممثلين عن الجماعات المتشددة.
قبل أن يتم ترسيم هذه الاتصالات باتفاق أصبح يعرف فيما بعد بـ"ميثاق السلم والمصالحة الوطنية"، الذي سمح للعديد من المتشددين بالنزول من الجبال والاندماج مجددا في المجتمع.
وتضاربت الأنباء حول مخلفات هذه الأزمة الأمنية المعقدة التي عرفتها الجزائر، في وقت تؤكد فيه بعض المصادر على أنها خلفت أزيد من 150 ألف قتيل وملايير الدولارات كخسائر مادية ناتجة عن عمليات التفجير والتخريب التي طالب بعض المرافق العمومية والبنى التحتية.
بوابة التشدد
لكن، على كانت أحداث العشرية السوداء فعلا مدخلا للإرهاب بالجزائر؟
يرفض المحلل الاجتماعي والأستاذ الجامعي محمد طيبي تفسير ظاهرة الإرهاب التي عاشتها الجزائر بواقعها الاجتماعي والاقتصادي أو السياسي، إذ يقول، في تصريح لـ"أصوات مغاربية"، إنه "لو كان الإرهاب يفسر ببعض العوامل مثل التسلط والديكتاتورية مثلا لكنا قد وقفنا على نماذج مشابهة في بلدان أخرى كانت تعرف أوضاعا تشبه أوضاع الجزائر أو أكثر منها".
ويضيف طيبي: "الإرهاب في الجزائر هو صناعة فئة من الناس، أو على الأقل حاولت الاستثمار فيه واستعماله من أجل الوصول إلى السلطة"، ثم يردف: "خطابات قياديي 'الفيس' (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) كانت تؤكد وقتها أنهم مقتنعون بالعنف كوسيلة لمغالبة نظام الحكم والوصول إلى السلطة".
ويشير الأستاذ الجامعي إلى "أن السلطة وقتها تتحمل بدورها جزءا من المسؤولية فيما حدث، لأنها لم تعمل على تطوير الثقافة الدينية بالشكل الصحيح، وهو ما سهل وفود قيم دينية جديدة على المجتمع الجزائري وجد فيها بديلا عما كان سائدا".
وبشكل أوضح، يقول محمد طيبي: "إن السماح بانتشار تيارات دينية مثل الوهابية والفكر الإخواني في الجزائر خلال السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي هيج بعض الجزائريين وجعلهم يعتقدون أن أفكارها هي المخلص الوحيد الذي من شأنه الوقوف في وجه الثقافة الغربية".
التطرف.. قصة أقدم
يقول الإعلامي والمحلل السياسي، فيصل ميطاوي، إنه من الخطأ الاعتقاد بأن التطرف والإرهاب في الجزائر كان سببه توقيف المسار الانتخابي يوم 11 يناير 1992.
ويذكر المحلل السياسي أن مجموعة من الشواهد تؤكد جميعها انتىشار الفكر المتطرف في الجزائر منذ الثمانينات، "عندما سمح لبعض التيارات الدينية المتشددة بالنشاط في الجزائر، رغم أن جميع ممارساتها كانت توحي بأن أفرادها لا يعرفون طريقا آخر غير العنف لتحقيق ما يعتبرونه حقا مقدسا هو تطبيق الشريعة الإسلامية في الجزائر".
ويستذكر فصيل ميطاوي، في حديثه مع "أصوات مغاربية"، تجارب عاشتها الجزائر قبل ظهور الإرهاب وانتشاره سنوات التسعينات، عندما "حملت بعض الجماعات الدينية السلاح في وجه السلطة، كما هو الأمر بالنسبة لمجموعة مصطفى بويعلي الذي قضت عليه مصالح الأمن سنة 1985"، حسب توضيحه.
ويضيف المتحدث: "في منتصف الثمانينات، كانت العديد من الجامعات ومؤسسات أخرى في الجزائر تعيش على وقع غليان حقيقي سببه الأول يعود إلى ظهور فكر متشدد يدعو أصحابه إلى الانقلاب على القيم والعادات التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك، بل منهم من استعمل العنف في سبيل تحقيق ذلك".
ويشير ميطاوي إلى ما كان حاصلا في المدارس والمؤسسات التعليمية وقتها، إذ "استولت عليها مجموعات دينية ظلت لسنوات طويلة تعمل على نشر قيم الكراهية والتطرف وتغرسها في عقول التلاميذ والطلبة".
الإرهاب والحسابات الخاطئة!
أما الرئيس الأسبق لحركة مجتمع السلم، أبو جرة سلطاني، فيفسر ظاهرة الإرهاب، وما وقع في الجزائر سنوات التسعينات، بحسابات خاطئة تكون قد وقعت فيها السلطة، عندما هونت من دور الإسلاميين في الخريطة السياسية وقتها.
"عاملت السلطة الإسلاميين على أساس أنهم أرقام هامشية في المجتمع ولم تكن تدرك حقيقة تغلغلهم، فراحت تؤسس لمسيرة ديمقراطية بشكل متسرع"، يردف سلطاني.
اقرأ أيضا: المصالحة الوطنية في الجزائر.. هل قضت على الإرهاب؟
وبشكل غير مباشر يحمل الفاعل السياسي ذاته السلطة جزءا مما وقع، إذ يشير إلى "الاحتكار الذي كانت تمارسه السلطة في عدة مجالات، وبالتالي لم يكن أمام شريحة واسعة من الجزائريين أي متنفس واحد سوى المساجد وما يتواجد فيها من خطابات تختلف بين الاعتدال والتشدد".
ويرى أبو جرة سلطاني، في حديثه مع "أصوات مغاربية"، إلى أن من الأسباب المباشرة التي أدت إلى بروز العنف والإرهاب في الجزائر هو "انسداد قنوات الحوار بين السلطة والتيار الإسلامي وقتها"
المصدر: أصوات مغاربية