"أدرك الداي حينذاك الفخ الذي نصبه دوفال، فقال لمحيطه: ماذا فعلتُ له؟ لقد لمَستْه ريشة فقط. ثم استدعى بعض الفرنسيين الموجودين بالجزائر، وقال لهم: لم أنوِ أبدا إهانة فرنسا. وأكّد لهم أن محادثته مع الداي محادثة شخصية".
هذا ما كتبه الباحث الجزائري محمد بن مبارك الميلي في كتابه "تاريخ الجزائر القديم والحديث"، وهو يروي ما جرى بين حاكم الجزائر الداي حسين وقنصل فرنسا دوفال، فيما سيُعرف تاريخيا بـ"حادثة المروحة"، التي كانت سببا في استعمار فرنسا للجزائر سنة 1830.
فما الذي حدث بين الرجلين حتى جعل فرنسا تردّ باستعمار الجزائر لأكثر من قرن و30 عاما؟
الديون المتراكمة
ليست حادثة المروحة سوى حلقة متأخرة جدا في مسلسل أسباب احتلال الجزائر، بدأت منذ ما بعد الثورة الفرنسية سنة 1789.
فلقد تسببت تلك الثورة، التي أطاحت بالملكية في فرنسا وجاءت بقيم الحرية والأخوة والمساواة، في عزل فرنسا أوروبيا، إذ خافت الأنظمة الملكية في أوروبا من امتداد الثورة إليهم وبالتالي سقوط أنظمتهم، فقرروا مقاطعة فرنسا تجاريا واقتصاديا، وهو ما كاد يؤدّي إلى انهيار الاقتصاد الفرنسي بل وربما عودة الملكية إليها.
حادثة المروحة29أفريل1827مإنهار اقتصاد فرنسا فقامت الجزائر بإمدادها بالقمحلكن تضاعفت الديونبعث الداي حسين للقنصل الفرنسي فكان رده وقحا فغضب الداي ولوح بالمروحة في وجهه وطردهاعتبرت فرنسا هذا إهانة لها ورفض الداي الإعتذاروكانت سببا مباشرا لإحتلال الجزائر#تاريخ_الجزائر_العريق pic.twitter.com/5WUWB1hHf6
— فطوم🇩🇿الجزائرية (@fatooma_dz) 8 novembre 2017
احتاجت فرنسا إلى شراء القمح فلم تجد أموالا بسبب العزلة التي حاصرتها، فاضطرت لاستيراده من الجزائر واتفقت على تأجيل الدفع، حتى تراكمت عليها ديون كثيرة بلغت 28 مليون فرنك ذهبي فرنسي، وهو مبلغ خيالي في ميزانية دولة في القرن التاسع عشر.
بعد سنوات، كتب الداي حسين، وهو حاكم الجزائر التابع للدولة العثمانية، ثلاث رسائل إلى ملك فرنسا شارل العاشر يطالبه فيها بتسوية دينه، لكن الأخير لم يكن يردّ أبدا، وهو أمر استفز الدّاي.
مهمة القنصل دوفال
أرسلت فرنسا قنصلها بيار دوفال إلى الداي، وطلبت منه أن يستفزه بعبارات تجعله يتصرف تصرفا غير لائق، وهو ما فعله القنصل حرفيا.
زار دوفال الداي حسين في قصره وجرت محاثة بينهما بخصوص الديون، فقال الداي للقنصل إنه أرسل ثلاث رسائل إلى الملك شارل العاشر لكنه لم يرد، وهنا أجاب دوفال "إن ملك فرنسا لا يتنازل لمراسلة داي الجزائر!"، وفق ما يرويه الميلي في كتابه تاريخ الجزائر القديم والحديث.
ويسترسل الميلي "كان الداي جالسا والقنصل واقفا وبينهما مسافة محترمة، فصرخ فيه: أخرج يا رومي، وتحرك الداي حركة غضب وسُخط لمست من جرائها ريشة في طرف المروحة القنصل، فاغتنم القنصل الفرصة وانسحب مهددا بأنه سيبلغ لحكومته".
يقول شيخ المؤرخين الجزائريين، أبو القاسم سعد الله، في كتابه "محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث"، متحدّثا عن هذا القنصل وأخلاقه "كان دوفال يمتاز باتباع سياسة التعفن الاجتماعي والتوريط وإخلاف الوعد".
ويتفق مع هذا الرأي الباحث محمد بن مبارك الميلي، الذي كتب "يكفي أن نسوق ما قاله المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان في القنصل الفرنسي دوفال، إذ يؤكد أنه كان رجلا مشبوها.. اكتسب من المرونة والخنوع المغرض والمناورات أكثر ما اكتسب من خبرة ديبلوماسية.. كان مشهورا في الجزائر بأنه رجل فحشاء.. وكانت الفرقة التجارية بمرسيليا تعتبر أنه ليست له ضمانات أخلاقية كافية لإبرام صفقة معه".
حادثة المروحة؟
كتب شيخ المؤرخين الجزائريين، أبو القاسم سعد الله، عن تفاصيل هذه الحادثة، ما يلي "بمناسبة عيد الأضحى، الذي صادف 29 أبريل 1827، وقعت ضربة المروحة المشهورة. فقد حضر كالعادة القناصل الأجانب ومن بينهم دوفال لتهنئة الباشا. ودار الحديث بين الباشا والقنصل الفرنسي حول رد فرنسا على طلبه، وقد تطور الحديث فاتهم الباشا القنصل بأنه كان السبب في عدم وصول الرد إليه مباشرة، وأمره بالخروج".
ويضيف سعد الله "عندما لم يتحرك القنصل ضربه بالمرحة التي كانت بيده، وقد ادعى دوفال في تقريره إلى حكومته بأنه ضرب ثلاث مرات، أما الباشا فقد قال بأنه ضربه لأنه أهانه، وتذهب رواية أخرى إلى أن الضرب لم يقع أصلا ولكن وقع التهديد بالضرب".
وانتقاما لقنصلها، أرسلت فرنسا سفينة حربية إلى الجزائر وطلبت من الداي اعتذارا رسميا، كما طلبت منه أن يرفع علم فرنسا على كل القلاع الجزائرية وأن تطلق المدافع 100 طلقة تحية للعلم.
رفض داي الجزائر كل شروط فرنسا، كما لم تدفع الأخيرة ديونها، بل أعلن ملكها الحرب على الجزائر وبدأت الحملة الفرنسية لاحتلال الجزائر سنة 1827، التي انتهت بسقوط الجزائر، فيما لا يزال الدين الفرنسي لم يُدفع إلى اليوم.
المصدر: أصوات مغاربية