أن يُقرر الوزير الأول المغربي الأسبق، والزعيم اليساري، عبد الرحمان اليوسفي، كتابة مذكرات يعرض فيها تجربته السياسية، فذلك أمر يبدأ في إثارة الجدل من لحظة طرح الفكرة قبل حتى خروجها.
فقد أحجم اليوسفي، الذي يحمل خلفه تاريخا يمتد على طول 94 عاما، عن الكلام من لحظة اعتزاله العمل السياسي وابتعاده عن الأضواء، سنة 2003.
حينها، سنة بعد مغادرته الحكومة، اختار تقديم استقالته من منصب الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أحد أبرز الأحزاب المغربية التي عارضت نظام الملك الراحل الحسن الثاني.
أولى البدايات
بداية عبد الرحامن اليوسفي مع العمل السياسي بدأت منذ أربعينيات القرن الماضي، حينما لم يكن عمره يتجاوز العشرين سنة، وسرعان ما برز صيته بانضمامه لجيش التحرير في الخمسينيات، قبل أن يحصل المغرب على الاستقلال سنة 1954.
"قلة من يعرفون اليوسفي جيدا، فله تاريخ طويل من السرية والعمل الفردي"، يقول المحلل السياسي، عبد الصمد بلكبير.
بلكبير، الذي اشتغل لمدة مستشار لعبد الرحمان اليوسفي داخل الوزارة الأولى، يشير إلى أن شخصية الوزير الأول السابق تشكلت خلال "مرحلة النضال الوطني في فترة الاستعمار الفرنسي، والتي تميزت بالسرية".
ويضيف بلكبير أن اليوسفي كان المؤسس الفعلي للعمل النقابي بالمغرب، كما أن تاريخه ارتبط بالعمل الإعلامي، خصوصا مع جريدة التحرير التي كان يديرها الفقيه البصري.
"لاحظنا أنه قلما يُواجه الجمهور أو يُجري حوارات، وغالبا ما كانت تدخلاته كتابية"، يشير المستشار الثقافي السابق لليوسفي، مفسرا سبب إقلال القيادي السياسي السابق في الكلام.
ويتابع المتحدث ذاته أنه، على خلاف عادة رؤساء الدول والحكومات، وحتى الوزراء، في ارتجال الكلمات أو الاعتماد على آخرين يكتبونها لهم، فإن اليوسفي كان دائما يصر على أن يكتب مواقفه، "وهي مواقف موثقة ودقيقة جدا، ولغته ليست أدبية بل قانونية وعلمية، على اعتبار أنه اشتغل في مهنة المحاماة"، حسب بلكبير.
وإلى جانب العمل السياسي والنقابي، يكشف بلكبير عن الجانب الحقوقي في مسار اليوسفي، قائلا إنه "اهتم بتأسيس أولى لبنات العمل الحقوقي في المغرب، من خلال الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
"الناس لا يعرفون أنه هو من فكر ودبر ووجه بصورة خفية، يعرفون فقط أسماء أخرى كعلي أومليل وعبد الرحيم الجامعي وغيرهم، ولكن الحقيقة هي أن اليوسفي كان الكل في الكل، وكان يوجه رسائله بطريقة غير رسمية"، يستطرد المتحدث ذاته.
ويشدد بلكبير على أن اليوسفي "كان رجل دولة أكثر من كونه رجل حزب أو نقابة"، إذ ترك، في البداية، قيادة العمل الحزبي لزعماء كعبد الرحيم بوعبيد والفقيه البصري، "وعندما رحلوا وجد نفسه زعيما رغما عنه، فلم تكن لديه طموحات لكي يكون قائدا".
"وجد اليوسفي نفسه كذلك بالنظر إلى الفراغ الذي كان موجودا، والإجماع الذي كان يتمتع به داخل الحزب"، يردف بلكبير.
لعبة السياسة
إحدى أبرز اللحظات السياسية التي عاشها اليوسفي كانت خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2002، فرغم تصدر حزبه، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لتلك الانتخابات، إلا أن الملك محمد السادس قرر، حينها، تعيين رجل الأعمال، إدريس جطو، وليس زعيم الاتحاديين، عبد الرحمان اليوسفي.
ويوضح الكاتب المغربي ذو الانتماء الاتحادي، لحسن لعسيبي، أن اليوسفي لم يقدم على استقالته من الحياة السياسية إلا بعد الانتخابات الجماعية سنة 2003، خصوصا بعد خسارة حزب الاتحاد الاشتراكي لعمادة مدينة الدار البيضاء، والتي كان يعول عليها كثيرا.
ويتابع لعسيبي، في حديث لـ"أصوات مغاربية"، القول إن اليوسفي تقبل مسألة عدم تعيينه على رأس الحكومة بشكل عادي من الناحية السياسية، لكنه بعد انتخابات 2003، اعتبر بأنه لم يعد مستعدا لتحمل المسؤولية السياسية، كما اعتبر بأن دوره انتهى عمليا على المستوى السياسي.
محمد الطايع، الصحافي وصاحب كتاب "عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض"، يتحدث هو الآخر عن عدد من التفاصيل المرتبطة بعدم تعيين الزعيم اليساري على رأس الحكومة بعد انتخابات 2002، وبالتالي التمهيد لمغادرته السياسة.
ويقول الطايع، في حديث لـ"أصوات مغاربية"، إنه لم يكن فيه أحد يعتقد أن اليوسفي لن يحظى بالثقة، وبالتالي اختياره وزيرا أول لولاية ثانية، لأن حزبه حصل على الرتبة الأولى.
"لقد كان من المنطقي أن يحصل اليوسفي على الوزارة الأولى، لكن عدم تعيينه كان صدمة كبيرة للرأي العام المغربي"، يقول الطايع مضيفا أن تعيين الملك محمد السادس لشخص آخر غير اليوسفي كان سليما، من الناحية الدستورية، إذ لم يكن هنالك نص يُلزم الملك بتعيين الوزير الأول من الحزب الفائز بالانتخابات قبل الدستور الحالي.
ويتفق الطايع أيضا مع طرح لحسن لعسيبي الذي يربط قرار اليوسفي مغادرة الحياة السياسية بما حدث إثر الانتخابات الجماعية سنة 2003.
رهان اليوسفي، حسب الطايع، كان بشكل أكبر، على الانتخابات الجماعية، بالنظر إلى أن هذه الانتخابات تفرز منتخبين يشتغلون، بشكل مباشر، مع المواطنين في نطاق تسيير مجالس بلدية.
"كان الرهان الأكبر هو الفوز بعمادة الدار البيضاء، باعتبارها تمثل قلعة للاتحاد الاشتراكي، وكان شبه اتفاق على أن يتم انتخاب الاتحادي خالد عليوة، لكن بين عشية وضحاها ظهر محمد ساجد، الذي سيصير العمدة"، يستطرد محمد الطايع.
ويضيف صاحب كتاب "عبد الرحمان اليوسفي والتناوب الديمقراطي المجهض" أن اليوسفي "رأى أنه أصبح بدون حكومة ولا جهات ولا حزب"، خصوصا مع وصوله سن 79 عاما، ما دفعه إلى إعلان قرار اعتزال السياسية، والتواري عن الأنظار.
المصدر: أصوات مغاربية