استطاع هذا الدكتور الجزائري، الذي بدأ حياته العلمية عصاميا، أن يراسل الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور، حيث كتب له محتجّا على عدم إدراج القضية الجزائرية في الأمم المتحدة، ولم يبخل عليه الرئيس أيزنهاور بردّ قال له فيه "إن أميركا لم تعارض الإدراج، ولكنها حافظت على تماسك الهيئة الأممية..".
الحديث هنا عن أستاذ العلوم السياسية في جامعة باتنة، شرق الجزائر، الراحل الدكتور رابح بلعيد، فمن يكون هذا الرجل؟
من إيطاليا إلى أميركا
وُلد رابح بلعيد ذات 20 نوفمبر 1927 في قرية دوّار السبت بولاية عين الدفلى، غرب الجزائر.
كغيره من أبناء الجزائريين، لم تسمح له فرنسا بالدراسة، فاشتغل في الرعي والمزارع ثم انتقل إلى العاصمة رفقة عائلته وهو في الـ12 أين عمل ماسح أحذية، وكان انتقاله إلى العاصمة نقطة التحول الرئيسية في حياته.
عن هذا التحول، قال مرافقه وناشر كتابه "الحركة الوطنية 1945-1954"، فارس بوحجيلة "تعرّف رابح بلعيد على جنود أميركيين في العاصمة بمناسبة إنزالهم سنة 1942، وحافظ على تواصله معهم وتعلم الإنجليزية منهم، وهنا فكّر في الهجرة من الجزائر".
ويضيف بوحجيلة متحدثا لـ"أصوات مغاربية" إن رابح بلعيد "ركب، بطريقة غير شرعية، سفينة أميركية متجهة من وهران إلى إيطاليا سنة 1944، وكان يريد الانتقال من هناك إلى أميركا، لكن البحارين عثروا عليه، فأزلوه في ميناء مدينة روما".
بقي بلعيد سنتين في إيطاليا إلى أن وجد الفرصة للهجرة إلى أميركا، بطريقة غير شرعية أيضا.
الجامعة.. والاحتجاج على أيزنهاور
وصل رابح بلعيد إلى الولايات المتحدة سنة 1946، وساعده أميركيون ليعمل على متن البواخر طباخا، باعتباره لاجئا غير شرعي ولا يمكنه الحصول على وثائق الإقامة، وسمح له هذا العمل بأن يزور أغلب دول العالم، مثلما يحكي هو عن نفسه.
"كان رابح بلعيد يداوم على الدراسة بالإنجليزية عن طريق المراسلة، وفي سنة 1953 تمكن من النجاح في مسابقة للدخول إلى جامعة سان فرانسيسكو للعلوم السياسية، وكانت أول مرة يدخل فيها إلى حجرة درس وعمره يومها 25 عاما، والمثير أنه نجح هو ومترشح باكستاني فقط من بين عشرات المترشحين، وقد حصل على الليسانس سنة 1957"، يقول فارس بوحجيلة.
كان بلعيد ناشطا متطوعا من أجل الثورة الجزائرية، فكان يعرّف الطلاب الأميركيين وغيرهم على القضية الجزائرية، كما انتقل إلى نيويورك ليحتك بالأوساط السياسية في الأمم المتحدة.
قبل حصوله على الليسانس، وتحديدا في سنة 1955، اعترضت الأمم المتحدة على إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمالها، فغضب بلعيد وراسل الرئيس الأميركي وقتها، دوايت أيزنهاور، استغرب فيها من اعتراض الولايات المتحدة خاصة وأنها دولة ترفع لواء التحرر والدفاع عن الشعوب المستعمرة.
لم يتوقع بلعيد أن الرئيس الأميركي سيجيبه برسالة عن طريق مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، خاطبه فيها باسمه رابح بلعيد، قال له فيها إن الولايات المتحدة "تتعاطف مع الجزائر لكنها تريد أن تحافظ على تماسك مجلس الأمن ولم تعارض إدراج القضية الجزائرية من حيث المبدأ، باعتبار فرنسا عضوا في مجلس الأمن هددت بالانسحاب من المجلس"، حسب ما يرويه رابه بلعيد.
النضال.. والمعارضة
ظل رابح بلعيد يبحث عن أسرته، التي غادرها منذ سنة 1942، إلى أن تعرف على أميركية خلال محاضرة في أميركا "هاجم فيها محاضر مغربي الملك محمد الخامس، الذي كان منفيا وقتها، وسوّق المحاضر لأطروحة فرنسا الاستعمارية في المغرب، فقاطعته قائلا بإنه لا يقول الحقيقة ولابد أن تستمعوا لوجهة النظر الأخرى"، يقول بلعيد متحدثا عن هذه الواقعة.
ويستطرد بوحجيلة، من جهته، قائلا "خلال المحاضرة اتصلت تلك السيدة الأميركية برابح بلعيد فعرّفها على نفسه وأخبرها بأنه يبحث عن عائلته، فأخبرته أنها تعرف سياسيين جزائريين وسلمته عنوان أحدهم، فاتصل بهذا الرجل، وهو العربي دماغ العتروس، وكان وزير الثقافة في الحكومة الجزائرية المؤقة، وهو الذي مكّن بلعيد من العثور على عائلته في الجزائر".
لم يشأ رابح بلعيد مواصلة دراساته العليا وفضل الانخراط في النضال من أجل استقلال الجزائر، فدخل إلى المغرب سنة 1958 ومنه انتقل إلى القاهرة، أين عمل إطارا في الحكومة الجزائرية المؤقتة إلى غاية 1962، السنة التي استقلت فيها الجزائر.
بقي بلعيد في القاهرة ولم يدخل الجزائر إلا في 1980، وعن أسباب طول غيابه عن الجزائر، قال بوحجيلة "عارض بلعيد انقلاب جوان 1965، الذي قام به العقيد هواري بومدين ضد الرئيس أحمد بن بلة وجهر بمعارضته، وهو ما كلفه البقاء بعيدا عن الجزائر إلى غاية وفاة بومدين".
وفي القاهرة استأنف أطروحته للماجستير عن تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ونالها سنة 1976.
واصل بلعيد دراساته العليا، فتحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، بعد مناقشته لأطروحة عن هوية الجزائر العربية الإسلامية سنة 1990.
الاصطدام.. ومذكرات لن ترى النور
رفع رابح بلعيد لواء الدفاع عن أب الحركة الوطنية في الجزائر مصالي الحاج، وهو ما جرّ عليه مشاكل كبيرة أبرزها "الاصطدام" بالحزب الحاكم، حزب جبهة التحرير الوطني.
يقول مرافقه فارس بوحجيلة "الدكتور كان أول من أسس قسما للعوم السياسية بجامعة باتنة، وقد طلب تنظيم ملتقى حول مصالي الحاج سنة 2000 ولقي فعلا الرعاية من فخامة رئيس الجمهورية، لكن مناضلين في الحزب الحاكم منعوه من تنظيم الملقى ورفعوا دعوى قضائية ضده، فتوقّفت إجراءات تنظيم الملتقى رغم أنه ربح القضية في العدالة..!".
ألّف الدكتور بلعيد عدة كتب منها ما لم يطبع وكان سببا في غضب الحزب الحاكم، وعلى وجه الخصوص كتاب "هكذا خطفت جبهة التحرير الثورة من مصالي الحاج"، أما كتاب "الحركة الوطنية الجزائرية 1954-1945"، فقد نُشر بعدما حققه وأعدّه للنشر فارس بوحجيلة.
ويختم بوحجيلة حديثه عن الأيام الأخيرة للدكتور رابح بلعيد قائلا "لقد عانى من التهميش بسبب مواقفه، التي لم تكن تعجب البعض، فالدكتور كان يقرأ التاريخ قراءة خاصة مبنية على ما استخلصه من بحث".
توفي الدكتور رابح بلعيد سنة 2014، قبل أن يضع آخر حروف مذكّراته في كتاب سيبقى غير جاهز للنشر بسبب وفاة صاحبه.
المصدر: أصوات مغاربية