"بطريقة بشعة مازالت صورها عالقة بذهني، مددوا أبي على الأرض كالشاة، مرروا السكين على رقبته ثم حشروا شقيقتي في زاوية الغرفة لتواجه المصير نفسه".
ليست هذه المشاهد من وحي فيلم خيالي، بل هي حقيقة مأساوية عاشتها عائلة "زدام" في حي بن طلحة سنوات "العشرية السوداء".
ففي ليلة 21 من نوفمبر سنة 1996، ارتكبت مجموعة إرهابية جريمة قتل بشعة راح ضحيتها 22 فردا من الحي المذكور، بينهم أفراد عائلة محمد زدام.
يقول محمد بحسرة إن :الإرهابيين لم يكتفوا بقتل والدي وأختي، بل ذبحوا أمي أيضا بينما كانت هي تحاول حماية حملها، لكن المجرمين بقروا بطنها، استخرجوا الجنين وذبحوه أيضا".
"قفة بلا يدين"
يتذكر محمد أيضا أنه في اليوم الموالي، قدمت خالته وعمته وابنة عمته إلى بيت العائلة، لكنهم لقوا مصرعهم أيضا، بعد انفجار قنبلة تركها المتطرفون.
وقتها، كان محمد لا يتجاوز ربيعه 22 وشقيقه لم يبلغ بعد 10 سنوات، لكن تفاصيل الحادثة المأسوية ما زالت تسكنه إلى اليوم.
يقول "لا أقدر أن أنسى، ففي كل زاوية من البيت أرى أرواح والدايّ وشقيقاتي تتجول في المكان".
وما يجعل هذه الذكرى المأساوية لاتفارقه أيضا هو أسماء أبنائه التسعة، لأنهم يحملون أسماء أفراد عائلته الذين بطش بهم الإرهاب.
ويشعر محمد بوحدة قاتلة لفراق أهله "فبين ليلة ونهار حوّلنا الإرهابيون إلى قفة بلا يدين".
بعد مرور 22 سنة على الفاجعة، لم يتغير حال محمد، لم يستفد لا من سكن كغيره من ضحايا الإرهاب ولا من وظيفة قارة في المؤسسات العمومية.
بحوزته دبلوم في الطبخ، مكنه من فتح مطعم للمأكولات السريعة ببيت عائلته، لكن عمله هذا يعد مخالفا للقانون، كونه لا يمتلك سجلا.
"لا يمكنني الحصول على سجل لعدم توفر وثيقة المحل، ذلك أن كل وثائق البيت احترقت يوم فجروا البيت بقنبلة، ومنذ ذلك الحين أحاول تجديد الوثائق لكن في كل مرة تواجهني عقبات"، يشرح محمد.
حال محمد لا يختلف عن شقيقه، الذي كان يحصل على "منحة ضحية الإرهاب"، غير أنه بعد بلوغه 18 سنة توقفت المنحة، وبقي اليوم عاطلا عن العمل.
يتحسّر محمد على مستقبله ويقارنه بمن كان ماضيهم ملطخا بالدماء، مشيرا إلى أنهم "يتمتعون بقوانين خاصة توفر لهم الحماية ومنح شهرية".
ذاكرة تأبى النسيان
مازال التوجس من الغرباء سائدا في كل زاوية من زاوية حي بن طلحة، فسكانه لا يفتحون كتاب ذكرى مأساتهم لأي كان، حتى بعد مضي أكثر من 20 سنة على أبشع مجزرة شهدتها الجزائر.
فصول هذه المجزرة جرت أطوارها في حيي بودومي والجيلالي الكائنين بالملحة الإدارية لبن طلحة، التابعة إداريا لبلدية براقي شرق العاصمة الجزائر.
يقدر عدد سكان بلدية براقي اليوم أكثر من 250 ألف نسمة، منهم 47 ألفا تقطن ببن طلحة، بعدما كان تعداد سكانه لا يتجاوز 3000 سنة 1997.
كريم (43 سنة)، من أبناء حي بودومي الذي ارتكبت فيه جريمة قتل بشعة "راح ضحيتها أكثر من 63 فردا أغلبهم نساء وأطفال في عمر الزهور".
كان كريم أول الشباب ممن تطوعوا لمحاربة الإرهاب، رفع السلاح في سن مبكرة وهو لم يتجاوز بعد ربيعه 18، عام 1995.
مازالت بقايا صور المآسي تسكن بذاكرته، ويحكي لـ"أصوات مغاربية" أنه في إحدى ليالي شهر سبتمبر من عام 1997 اقتحمت مجموعات من الإرهابيين الحي.
"كان بعضهم يرتدي بدلة عسكرية والباقي بلباس أفغاني، قبل تسللهم إلى الحي، قاموا بقطع الكهرباء عنه، لتبدأ المذبحة" يتذكر كريم.
وبحسب المتحدث فإن هؤلاء الإرهابين قاموا بتفجير قنابل يدوية، واقتحموا بيوت الحي ونكلوا بجثث قاطنيه، ولم يسلم من حدّ سكاكينهم لا طفل ولا امرأة.
ورغم أن قوات الأمن كانت غير بعيدة عن المكان، لكنها لم تتدخل، ويقول كريم "لو تدخلت القوات لكان عدد الضحايا أكثر، فكيف يمكنهم التفريق بين مدني وإرهابي في الظلام الدامس".
ووفق كريم، فإن المجزرة انطلقت على الساعة 11 ليلا وتوقفت في الخامسة صباحا، وتم نقل بعض الضحايا إلى المستشفيات والبعض الآخر تم تجميعهم في ساحة العلم بابتدائية جمعة بشير.
قتلى وسبايا
على بعد أمتار من حي بودومي، كانت فصول أخرى من المجزرة ترتكب في حي الجيلالي.
لم تتغير ملامح الحي اليوم عن ملامحه في التسعينات، إذ كل زاوية فيه تذكر أهله بحادثة مؤلمة وقعت خلال "العشرية السوداء" التي عاشها المكان.
فؤاد هو أحد الناجين من تلك المذبحة التي "أسفرت عن قتل 350 شخصا من سكان الحي، بينهم والدتي وابن شقيقتي، إضافة إلى اختطاف 18 امرأة بينهن شقيقتي".
لحظة بداية المجزرة، فرّ فؤاد رفقة عائلته إلى بيت الجيران، محاولين النجاة من سكين الإرهاب، غير أن الجماعة المتطرفة تفطنت لعائلته على الساعة الثانية صباحا وذبحتها.
بينما بقي فؤاء مختبئا طوال ليلة كاملة خلف باب الجيران وهو يردد آيات من القرآن علّه ينجو من القتل والتنكيل الذي تعرض له جزء من سكان الحي.
يكشف فؤاد في حديثه لـ"أصوات مغاربية" أن أغلب الإرهابيين ممن ارتكبوا المجزرة ينحدرون من الحي ومن المناطق المجاورة.
وفي اعتقاده، أن الجماعة التي نفذت المذبحة تابعة للجماعة الإسلامية المسلحة المعروفة اختصارا بـ"الجيا" بقيادة عنتر زوابري.
بعد المجزرة مباشرة، قرر فؤاد أن يتطوع في صفوف المتطوعين للدفاع المشروع المعروفة باسم "الباتريوت"، الذي استحدثته وزارة الدفاع سنوات التسعينات.
البحث عن رد الاعتبار
لم يكن خيار الانتساب لهذا الجهاز المستحدث قرار فؤاد وحده، بل كان قرار مجموعة من شباب الحي آنذاك، من بينهم العم سعيد (54 سنة).
يقول العم سعيد في تصريح لـ"أصوات مغاربية" إنه "بعد المجزرة رفعت السلاح متطوعا لمحاربة الإرهاب كغيري من شباب الحي للدفاع عن شرفنا وعن الوطن".
المتطوعون في نظر العم سعيد كانوا نوعان، فئة قليلة تطوعت دون منحة، والأغلبية كانوا يتقاضون منحة تقدر بـ97 دولار شهريا، بعدها ارتفعت إلى 220 دولارا سنة 2010.
ما يحز في نفس العم سعيد كغيره من "الباتريوت" هو أنهم لا يملكون بطاقات التأمين على المرض وتعويض الأدوية، فضلا عن هزالة منحة التقاعد التي لا تتعدى 130 دولارا شهريا.
يقول العم سعيد "نحن نبحث عن رد الاعتبار، من خلال إبراز دورنا في القضاء على الإرهاب سنوات الجمر، كأقل تقدير".
وبحسبه، فإن فئة "الباتريوت" ضحت بحوالي 5600 عنصرا من عناصرها وسجلت 11 ألف إصابة في صفوفها، "لكن ما يندى له الجبين هو أن عائلات الضحايا لا تستفيد من أية منحة".
ويختم العم سعيد "لا أحد يمكنه أن ينكر أن انتسابنا للباتريوت كان عن قناعة ودفاعا عن شرف عائلاتنا وتضحية بالنفس من أجل أن تبقى الجزائر واقفة".
المصدر: أصوات مغاربية