أفرشة بالية استوطنها القمل، قوارير تنبعث منها روائح نتنة، ووجوه شاحبة بائسة لم تجد ملجأ غير هذا المكان.. هنا "الفنادق" القديمة بمدينة سلا، قرب العاصمة الرباط.
تنتشر العشرات من هذه الفضاءات المعروفة شعبيا باسم "الفَنْدق" بالمدينة المجاورة للعاصمة المغربية، خصصت في الماضي لاستضافة عابري المدينة من التجار، لكنها اليوم أصبحت ملجأ للمهمشين والأيتام، ممن غدرت بهم صروف الزمن.
قطعة من العذاب
"أرجوك، لا تحدثني عن الماضي أو تسألني كيف جئت إلى هذا المكان، لا أستطيع وإن حاولت قد تنفجر خزانة الذكريات المشمعة في دماغي"، بهذا الرد قابلنا هذا الشيخ الطاعن في السن، لا أحد هنا يعرف اسمه، رغم تواجده بالمكان منذ سنوات، فلا أحد يحدثه، إلا لماما.
سألنا زملائه في الفندق، عمن يكون هذا الرجل البائس، ليخبرنا عبد الكريم، أحد سكان الفندق، أن الشيخ يعاني كسرا أسفل الظهر منذ سنوات، ويعيش يوميا على وقع الألم المتواصل.
في هذا المكان، ليس هذا الشيخ وحده، من يعاني آلام المرض، بل غالبية قاطني الفندق يقتسمون قطعة من العذاب الجسدي، تختلف أماكن الإصابة، لكن ما يوحدهم هو عدم قدرتهم على وضع حد لها، فلا طاقة لهم بأية مصاريف للعلاج.
الوحدة القاتلة
يبدو المشهد مثل تمثيلية مألوفة، ربما لوثائقي صور بمستشفى الأمراض النفسية، فغالبية النزلاء منزوون في زوايا مظلمة، يغطيهم لحاف الصمت، بينما آخرون مستلقون على الأرض في وضعية النائم، هربا من واقع مؤلم.
"أعيش في هذا المكان منذ سن مبكرة، لا عائلة لي، كما هو حال غالبية القاطنين هنا، أعمل صباحا، ثم أعود في المساء للانزواء فيما يشبه الغرفة، بينما الآخرون، كبار السن لا يخرجون إلا للتسول والعودة بما يسد رمقهم"، يقول عبد الكريم، الذي فضل عدم الظهور في الصورة، مستطردا: "الناس هنا تعاني في صمت، والصورة أبلغ من القول".
سعر قضاء الليلة الواحدة في هذا الفندق، الذي يتوسط المدينة القديمة، 5 دراهم (نصف دولار) فقط، لكن شرط النوم على الأرض مباشرة، أو لمن حالفه قليل من الحظ، أن يفترش حصيرا باليا تآكل بفعل الزمن، فيما تتوفر غرف عاينت "أصوات مغاربية" بعضا منها، وكأنها صناديق، يسمح للمبيت فيها مقابل 20 درهما (دولارين).
بعد الخروج من المكان، يشعر المرء وكأنه كان في رحلة عبر الزمن، عاد من خلاها إلى أزمنة تليدة، لا تتوفر فيها الفضاءات المقفلة مثل "الفنْدق" على الكهرباء أو أي أجهزة منزلية، لا أواني للطبخ، فقط قوارير قصديرية وكرتونية فارغة.
ثلة من البسطاء
على بعد أقدام من الفندق الأول، بحثنا عن آخر لم يكن إلا نسخة طبق الأصل؛ أعمدة خشبية تقادمت مع الزمن وبقع مائية راكدة على الأرضية.
"الفندق هو مكان يعيش فيه الفقراء من الناس، الذين ليس أمامهم إلا النوم في الشوارع، يأتون إلينا كي يبيتوا بين أربعة جدران على الأقل، وسقف يقيهم المطر وبرد والشتاء"، يقول التهامي، المشرف على الفندق الأول، هو الآخر قذفت به الظروف للعيش هنا، ليصبح فيما بعد حارسا للمكان.
تصل الطاقة الاستيعابية لهذا النوع من الفضاءات إلى أقل من 20 شخصا، لكن الواقع شيء آخر، فالفندق يستقبل أضعاف ذلك، إذ يصل عدد القاطنين به إلى 60 شخصا، وفق التهامي.
"أغلب من تراهم هنا هم زبناء دائمون لدينا، يعتبرون المكان بيتهم بعدما قضى العديد منهم سنوات طوال هنا، أصبح هذا المكان هو المأوى الوحيد بالنسبة لهم"، يضيف المشرف على الفندق.
إبراهيم: "أنا سوسيولوجي"
لا يرغب غالبية القاطنين بالفنادق، كما عاينت ذلك "أصوات مغاربية" في حكي قصصهم للأجانب، لكن إبراهيم، المستقر منذ سنوات في هذا الفضاء، رغم كونه حاصلا على شهادة الإجازة في السوسيولوجيا، قَبِل إماطة اللثام عن قصته المثيرة والمؤسفة في آن.
"بعدما حصلت على الإجازة، لم أجد عملا في تخصصي، فقررت العمل كسائق لمدة إلى أن أجد البديل، مرت فترة وحصل معي حادث أثناء سياقة الحافلة، لم يتعرض الركاب لأي أذى ونجى الجميع ما عداي"، يتوقف إبراهيم لبرهة معيدا تركيب نقطة التحول في حياته.
قبل أن يعود للاستطراد: "أصبت بكسر في يدي وفقدت نسبة كبيرة من قدرتي على البصر، وفوق كل ذلك حملتني الشركة المشغلة مسؤولية ما وقع، ليتم سحب رخصتي إلى الأبد، هكذا بدأت أولى خطواتي نحو هذا المكان".
قصة إبراهيم، واحدة من عشرات القصص خلف جدران الفنادق القديمة بمدينة سلا، يعقد أصحابها ألسنتهم، خوفا من فتح جراح اكتوت بنار الفقر والبؤس المحيطة بالمكان.
المصدر: أصوات مغاربية