عاشت سان ماو سنوات في الصحراء الغربية، وصورها الموجودة في كنيسة العيون ما زالت شاهدة على ذلك
عاشت سان ماو سنوات في الصحراء الغربية، وصورها الموجودة في كنيسة العيون ما زالت شاهدة على ذلك

حطت رحالها، رفقة زوجها الإسباني خوصيه، في الصحراء الغربية سنة 1974، وقطنت في حي كاتالونيا بمدينة العيون، حيث يوجد بيتها الذي ما زال يزوره، إلى حدود الساعة، صينيون وتايوانيون أثرت فيهم كتاباتها.

​​الكاتبة والرحالة والشاعرة التايوانية، التي يكاد وَضْعُهَا في تايوان والصين، بحسب تقديم لترجمة بالإنجليزية لكتابها ''قصص الصحراء''، يكون أسطوريا.

سردت سان ماو، في هذا الكتاب، تجربتها في الصحراء الغربية، مسلطة الضوء على جوانب معتمة في حياة الصحروايين حينها، بينها واقع ''العبودية'' في تلك الفترة. هذا ما جعلها تدخل في صراع مع السلطات الإسبانية، التي كانت تسيطر على الصحراء في تلك الحقبة الزمنية.

​​الطفل العبد

أثناء إقامتها في الصحراء الغربية، دُعيت سان ماو إلى عشاء في منزل أحد ملاك الأراضي الصحراويين الأثرياء. وفي إحدى اللحظات، ظهر طفل لم يتجاوز الثامنة أو التاسعة من عمره، وانحنى أمام الضيوف بأدب، ثم نهض بعدها ليَرُشَّ العطر على رأس كل واحد منهم، ولم يتوقف حتى أصبح رأس سان ماو مبللا بالكامل.

كان ذلك عبارة عن طقس صحراوي مهم، كما تقول سان ماو في كتابها، مستطردة أن الطفل، الذي ستعرف سان ماو لاحقا أنه عبد، وضع لحم الجمل على حَمَّالَةٍ شواء ليتم شواؤه، وفي الآن نفسه كان يحضر فيها الشاي؛ وقد وضع أوراق النعناع في الماء الساخن، وإلى جانبها قطعا صلبة من السكر، وقدم للضيوف كؤوس الشاي، الذي وصفته سان ماو في كتابها بـ''القوي واللذيذ''.

​​بعد أسئلتها المستمرة حول قيام الطفل بكثير من الأعمال وفقدانها لصبرها، همس زوجها خوصيه في أذنها وأخبرها بأنه عبد، وهو واحد من بين أكثر من 200 عبدا آخرين يملكهم الرجل الغني المُضيف.

وكشفت سان ماو، المزدادة في مارس 1943، في ''قصص الصحراء''، أن العبيد في الصحراء الغربية، في تلك الفترة، كانوا أفارقة يقطنون الصحراء، يتم القبض عليهم وإفقادهم وعيهم، ويُربَطون لمدة شهر حتى لا يهربوا، ويكون احتمال هروبهم ضعيفا إذا تم الإمساك بعائلة بأكملها.

لكن 'الطفل الذي شاهدته سان ماو عند الصحراوي الغني، "لم يكن يعامل بشكل سيء، كما أن أطفالا عبيدا آخرين كانوا يستطيعون الذهاب إلى خيمات عائلاتهم عندما يحل الليل"، يحكي كتاب سان ماو.

التمرد على السلطات الإسبانية

التقت سان ماو في تلك الفترة مسؤولا إسبانيا، فسألته قائلة: ''أتعجب من كون الحكومة الإسبانية تسمح بالعبودية في مستعمراتها''، فأجابها، بعد أن اجتر نفسا عميقا: ''لا نملك وقتا لنجعل الأشرار مسالمين لن نجرؤ على ذلك''.

كلام المسؤول الإسباني جعل الرحالة التايوانية تعتبر أن السلطات الإسبانية في المنطقة تتجاهل الممارسة المذكورة، بل تشارك فيها، من خلال تشغيل العبيد في بناء الطرقات، ودفع المقابل المالي لهذه الخدمة إلى ملاكهم، وهو الأمر الذي وصفته سان ماو بـ''المهزلة''.  ​

سان ماو في الصحراء
سان ماو في الصحراء

​​​​''وما شأنك في هذا''، هكذا أجابها المسؤول بعد نطقها لوصف "المهزلة"، لكنه برر عدم قدرة السلطات على التحرك والحد من العبودية، بكون ملاك العبيد هم قياد للقبائل، متسائلا أمامها: ''ما الذي نستطيع فعله؟''.

حياة الصحراء

كتبت سان ماو، في ''قصص الصحراء''، أنها كانت، إلى جانب زوجها، يقدمان كل يوم أشياءً لجيرانهم الصحراويين، لكن عائلة عبيد، قالت عنها الكاتبة إنها لا تملك حتى أجسادها، هي الوحيدة التي أرجعت إليهما بعضا من تلك الأشياء.

فقد كانت سان ماو قد منحت مالا إلى العبد الذي التقته في بيت الصحراوي الغني، ليعود والده العبد الأصم، لاحقا، ويحاول أن يرجع إليها المال.

حياة سان ماو اعتمدت أيضا على التأقلم مع هذا الوضع الاجتماعي، وأيضا مع مناخ الصحراء القاسي. فقد كانت الحرارة في المنطقة تصل، بحسب المؤلَّف، إلى 55 درجة، وقد اعتبرتها سان ماو كافية "للإيصال إلى مرحلة الجنون".

هذا الأمر كانت تواجهه هذه التايوانية بالاستلقاء على حَصِيرَةٍ، منتظرة حلول المساء ليصل معه النسيم المنعش، وتكون قادرة على الجلوس خارج البيت لوهلة، وهي المتعة الوحيدة التي كانت تأملها سان ماو.

​​وفي إحدى المرات، رأت سان ماو العبد الأصم مرهقا بالشمس الحارقة بشدة، مما دفعها إلى إنقاذه وإدخاله إلى بيتها، فـ''دخل متوترا، لأنه لم يُعامل من قبل باعتباره إنسانا''، تكتب الكاتبة التايوانية.

وبعد إدخاله إلى بيتها، وضعت على مائدته عصير برتقال أخرجته من الثلاجة، وخبزا وجبنا صلبا وبيضة مَسْلُوقَةً، وأغلقت الباب وخرجت تاركة إياه وحيدا، حتى لا يحرج ويكون غير قادر على الأكل أمامها.

وبعد مدة، عادت سان ماو لتذكر العبد الأصم بأنه عليه العودة إلى عمله، خوفا من أن يوبخه مالكوه، فوجدت أنه لم يأكل إلا الخبز ورشف، فقط، رشفة واحدة من العصير، يُورِدُ الكتاب.

فهمت سان ماو من إشاراته أنه يريد أن يترك الأكل لزوجته وأبنائه الثلاثة، طفلان وطفلة، فقامت ماو بجمع الأكل ووضعه في حقيبة، ووضعت إلى جانبه، أيضا، نصف بطيخة وقنينتي "كوكا كولا"، كما فتحت علبة من حلوى "التافيز"، المفضلة عند زوجها خوصيه، وأخذت منها حَفْنَةً ووضعتها في الحقيبة أيضا.

سان ماو أمام بيتها في حي كاتالونيا بالعيون
سان ماو أمام بيتها في حي كاتالونيا بالعيون

​​وختمت سان ماو، التي وافتها المنية في يناير 1991، قصتها حول العبيد في منطقة الصحراء الغربية، بالحديث عما كانت تعطيه لهم، قائلة: ''لم يكن لدينا الكثير من الأكل، وكان العطاء قليلا''.

 

المصدر: أصوات مغاربية

مواضيع ذات صلة