جرت العادة أن يُشاهد البهلوانات في السيرك والحفلات وملاهي الأطفال، يرقصون أو يركبون دراجاتهم الهوائية أحادية العجلة.
قد يبرزون أحيانا في شوارع المدن ينتزعون ابتسامات المارة مقابل بعض الدراهم. لكن من غير المألوف مشاهدتهم في قرىً مغربية نائية.
"ماذا اقترف صغار وكبار تلك القرى من ذنوب حتى تُغيِّب قساوة الجغرافيا الابتسامة عن وجوههم؟".. سؤال طرحه يوسف، شاب مغربي في 23 من العمر، قبل أن يقرر تكريس كل فترات راحته وعطله لاقتحام جبال بحثا عن أطفال يسعون إلى لحظة فرح.
يكشف يوسف لـ"أصوات مغاربية" أنه قطَع مئات الكيلومترات على قدميه. بات في الخلاء وأماكن مقفرة، وقاوم الجوع، وتعرض لاعتداءات. أحداث أتعبته، لكنها كانت سببا في إسعاد سكان تلك القرى المعزولة كما يقول، وكما تُظهر صور ينشرها على حسابه على فيسبوك.
الرحلة الأولى
القصة بدأت في صيف 2016. انطلق يوسف، الطالب بالسنة الثالثة في مدرسة للفنون الجميلة من الدار البيضاء في اتجاه قرية "زاوية إفران"، نواحي مدينة إفران وسط المغرب.
هناك ارتدى لباس البهلوان وأكسسواراته وصبغ وجهه بالألوان وأعد حقيبته الخاصة بالسفر، ليسير 80 كيلومترا على قدميه، قضى خلالها ليلتين في الخلاء، متنقلا من قرية إلى أخرى كان آخرها دوار "أكلمام"، نواحي مدينة خنيفرة.
"عانيت كثيرا خلال تلك الرحلة. لم أعتد على قطع تلك المسافات الطويلة مرتديا لباس وأكسسوارات المهرج ومتزينا بماكياجه. حقيبة السفر كانت ثقيلة جدا أيضا"، يقول يوسف.
لكن معاناة هذا الشاب خلال تلك الرحلة كانت سببا في إسعاد آخرين. هذا ما يكشف عنه بالقول: "في البداية، فرَّ الأطفال بعدما رأوني، لكنهم معذورون فتلك أول مرة في حياتهم يرون فيها مهرجا. استغرق الأمر وقتا قبل أن يألفوا وجودي. لم أترك كبيرا أو صغيرا ممن قابلتهم في الدواوير التي مررت منها إلا وأضحكته".
ويتابع يوسف كلامه قائلا: "رقصت معهم، ووزعت عليهم الحلوى. زرت المدارس أيضا. وكل هذا حدث وسط أغان مبهجة مصدرها مكبر صوت كان يرافقني".
جولة الـ100 قرية
لم تكن تلك الرحلة إلا بداية لرحلة أكبر لا يزال يوسف يقطعها حتى الآن. تلتها 20 رحلة أخرى جاب فيها يوسف أزيد من 100 قرية من قرى مغربية نائية.
بدأ ذلك في صيف 2018، انطلق في رحلة زار خلالها قرى في الجنوب والجنوب الشرقي والأطلس المتوسط مشيا على الأقدام.
دامت الرحلة 3 شهور كاملة، لكنه كان يود أن تطول أكثر. يقول: "لو لم أكن ملتزما بمواعيد الدراسة، لقضيت العام كاملا أتنقل من دوار إلى آخر لإسعاد الناس".
كانت تلك أطول رحلة ليوسف، أما آخرها فقد عاشها الأسبوع الماضي. كانت مختلفة قليلا عن سابقاتها لأنه "تعرض فيها للتعنيف من قِبل أشخاص لمجرد أنه حاول إضحاك أبنائهم"، كما يقول.
"قصدت خلال تلك الرحلة، رفقة مهرج آخر، قرى منطقة الأطلس المتوسط. وفي طريقنا التقينا ثلاثة من رعاة الغنم. وبينما كنا نحاول إضحاكهم بحركات وأساليب تهريجية، أتى آباؤهم وأرادوا ضربنا بحجة أننا نشغلهم عن الاهتمام بالماشية"، يقول يوسف.
ويردف هذا الشاب قائلا: أحدهم وصفني بالمتشبه بالنساء، بسبب اللباس الذي كنت أرتديه. لكن عندما شرحنا لهم الهدف من قيامنا بذلك، أحبونا وأبدوا إعجابهم بنا".
قرية وراء الشمس
من خلال هذه الرحلات، اكتشف يوسف معاناة أطفال القرى النائية كما يقول.
دوار "رْكَُّو" التابع لإقليم تازة وسط المغرب كان أكثر مكان زاره يوسف وتأثر بواقع أهله.
يحكي يوسف هذه التجربة قائلا: "لن تنسى ذاكرتي ذلك المكان أبدا. دوار يقع تحت جبل يحجب عنه الشمس 10 أشهر، فلا تصله أشعتها إلا شهرين في السنة".
لكن للصورة وجها آخر، إذ يقول يوسف: "صحيح هم فقراء لكنهم كرماء".
ويروي يوسف قصة يدعم بها كلامه قائلا: "في أحد أيام رمضان الماضي، كنت متجها إلى مكان يدعى رباط الخير بنواحي مدينة صفرو، رفقة مصور فوتوغرافي لتوثيق الرحلة. أذَّن أذان صلاة المغرب، ولم يكن بحوزتنا سوى حبات تمرٍ".
ويتابع يوسف تفاصيل الواقعة قائلا: "ظل رجل من الرَّحالة يراقبنا من بعيد، قبل أن يدعونا إلى تناول وجبة الفطور مع أسرته. بدت على الأسرة علامات الفقر وكان فطورهم بسيطا. خبز وزيت وحساء وبعض الشواء مصدره خروف من خرفان قطيع الرجل. كانوا كرماء وتقاسموا معنا كل شيء".
المصدر: أصوات مغاربية