"بدون المغرب ما كنت لأصبح كاتبا"، هذا ما قاله في واحد من حواراته، غير أنه في الوقت نفسه لا يعتبر نفسه كاتبا مغربيا، بل فرنسيا، وكثيرا ما يتساءل بحرقة لماذا لا يصنف كاتب مثل "بالزاك" ككاتب "فرنكفوني" في حين يصنفه البعض هو وآخرين من الكتاب الذين ولدوا خارج فرنسا في خانة "الفرنكفونية"، التي شببها في إحدى تصريحاته بـ"الغيتو".
الأمر يبلغ بالكاتب المغربي الفرنسي، الطاهر بنجلون، حد اعتبار ذلك التصنيف نوعا من "الميز العنصري"، فهو يرى أنه من البديهي أن يحمل صفة "الكاتب الفرنسي" ما دامت لغة كتاباته هي الفرنسية.
إنها واحدة من النقط محط الخلاف والجدل بشأن هذا الكاتب الذي تُرجمت إنتاجاته الأدبية للعديد من اللغات وصارت تدرس في الكثير من المدارس والجامعات.
"تلك العتمة الباهرة"
في أحد صباحات سنة 1947، رأى الطاهر بن جلون النور في مدينة فاس، ومثله مثل أغلب الأطفال في ذلك الوقت، بدأ مشوار التعلم من الكتاب القرآني، قبل أن يلج وهو ابن الست سنوات المدرسة الابتدائية حيث تلقى تعليما مزدوج اللغة، الفرنسية صباحا والعربية مساء.
من فاس إلى طنجة، حيث انتقل رفقة الأسرة سنة 1955، وتابع دراسته إلى أن حصل على الباكالوريا سنة 1963، لينتقل مجددا إلى الرباط لدراسة الفلسفة.
سيتوقف مشواره الدراسي اضطراريا وبشكل مؤقت لنحو سنة ونصف، هي المدة التي قضاها رفقة طلبة آخرين في معسكر تأديبي تابع للجيش، للاشتباه في تنظيمهم المظاهرات الطلابية التي شهدتها عدد من مدن المغرب في مارس من عام 1965.
استمر الاعتقال من يوليو عام 1966 إلى غاية يناير عام 1968، فاستأنف بمجرد إطلاق سراحه دراسته ليعين بعد ذلك بأشهر قليلة أستاذا للفلسفة.
تلك العتمة الباهرة، الطاهر بنجلون. pic.twitter.com/GKm3Q6VAqt
— abdullah (@ampronq) April 9, 2019
وقد كان لتجربة الاعتقال التي مر منها بنجلون في المغرب دور في بلورة موهبة الكتابة لديه، إذ نشر قصيدته الأولى بعد الإفراج عنه، في حين لم يرو تفاصيل تجربة الاعتقال نفسها سوى بعد سنوات طويلة.
وبالحديث عن تلك الفترة التي توصف بـ"سنوات الرصاص"، يعاب على بنجلون أنه لم ينح منحى عدد من المثقفين الذين كانوا، وفي أوج عهد الحسن الثاني، يرفعون أصواتهم لفضح الانتهاكات التي كانت تحدث، إذ انتظر حتى عام 2000، ليصدر "تلك العتمة الباهرة" المستلهمة من شهادة عزيز بينبين، أحد المعتقلين السابقين في "تازمامارت".
أما عن تجربة اعتقاله، فلم يتطرق إليها إلا في سنة 2018، أي بعد أزيد من خمسين عاما، وذلك من خلال كتاب اختار له "العقاب" عنوانا.
"ليلة القدر"
"كان ذلك خلال تلك الليلة المقدسة، ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، ليلة نزول القرآن، الليلة التي تكتب فيها أقدار الكائنات، حين استدعاني أبي، المحتضر وقتذاك، إلى جوار سريره وحررني".
لقد كانت "ليلة القدر" أو "الليلة المقدسة"، الليلة التي كُتب فيها لبطلة الرواية حياة جديدة، كما كتب لصاحب الرواية أن يبدأ محطة جديدة في مشواره، إثر فوزه بـ"الغونكور" الجائزة الفرنسية الأرفع من "النوبل"، بنظره.
مع ذلك، ورغم فوزه بتلك الجائزة منذ ما يزيد عن الثلاثين عاما، ورغم كونه عضوا في أكاديميتها منذ نحو 10 سنوات، ورغم أنه حاصل على الجنسية الفرنسية، والأكثر من ذلك، رغم أنه كاتب باللغة الفرنسية، إلا أنه لا زال يصطدم بحاجز التصنيف، حيث عبر قبل نحو تسع سنوات عن استيائه لكونه وجد كتبه تباع في المكتبات الفرنسية وهي مصنفة في خانة "الأدب الأجنبي".
تصنيفه يثير آراء مختلفة وكل رأي منها له ما يبرره، فالصحافي والكاتب والمترجم، محمد جليد، يرى أن الطاهر بن جلون "كاتب مغربي باللغة الفرنسية وليس كاتبا فرنسيا"، موضحا في الوقت نفسه في حديث مع "أصوات مغاربية" أن "التوجه العام للكتابة هو أنها تسعى لأن تكون كتابة كونية تعكس قضايا الإنسان بصرف النظر عن انتمائه وعن جنسيته".
أما الشاعر والكاتب محمود عبد الغني، فيرى أن "الطاهر بنجلون كاتب فرنسي وليس كاتبا مغربيا"، ويفسر هذا الأمر ضمن تصريح لـ"أصوات مغاربية" بكون "الكتابة تتعلق باللغة" وما دام بنجلون يكتب بالفرنسية فهو "ينتمي مباشرة ودون نقاش إلى البلد أو الثقافة التي يكتب بلغتها" ينضاف إلى ذلك أنه "يعيش في فرنسا والدولة الفرنسية تتبناه كما منحته أهم الجوائز التي هي الكونغور".
"حين تترنح ذاكرة أمي"
الكاتب والصحافي، الطاهر الطويل، من جانبه، يستحضر مضمون كتابات بن جلون، خاصة الروائية، والتي "تعكس البيئة المغربية ومنظور الكاتب لهذه البيئة"، وانطلاقا من ذلك فهو يرى أنه "مرتبط بالأدب المغربي وأنه جزء من هذا الأدب رغم كتابته بالفرنسية شأنه شأن العديد من الكتاب المغاربة الذين يكتبون بهذه اللغة".
من"الليلة المقدسة" مرورا بـ"حين تترنح ذاكرة أمي"، وصولا إلى "الأرق"، يلاحظ القارئ لروايات بن جلون، ارتباط مضمونها الوثيق بالبيئة المغربية، وذلك على مستوى فضاء الأحداث وشخوصها والقضايا التي تطرحها.
فرغم أنه يكتب بلغة أخرى غير العربية التي قال إنه "غير قادر على الكتابة بها" وأن احترامه لها جعله لا يكتب بها حتى لا "يشوهها" بحسب تعبيره، في إشارة إلى عدم تمكنه منها، إلا أنه ظل مرتبطا على مستوى الموضوع بالمغرب، وهنا أيضا تبرز تهمة لطالما لاحقته وهي أنه يروج صورة "فلكلورية" عن المغرب.
"ما يعاب عليه أنه يكتب بمسحة استشراقية" يقول الصحافي والكاتب والمترجم، محمد جليد ، ويضيف موضحا أن "أسلوبه أو اختياره في الكتابة يذهب في الغالب إلى البحث عن ذلك الشاذ في المجتمع المغربي أو المغاربي والبحث عن أشكال فلكلورية وغرائبية في المجتمع المغربي والكتابة عنها" متوقعا أن تكون "الغاية من ذلك هي إثارة القارئ الفرنسي الذي يبحث في الغالب عن شيء مختلف".
من جانبه، يقول الشاعر والكاتب محمود عبد الغني تعليقا على تلك التهمة "جميعهم قاموا بذلك، سواء الصفريوي أو الشرايبي أو غيرهما، جميعهم كتبوا عن المجتمع المغربي التقليدي في فترة من الفترات، وهي مسألة موجودة حتى لدى كتاب مغاربة يكتبون بالعربية".
وحسب المتحدث ذاته فإنه حين يكتب مغاربة بالعربية عن تلك الموضوعات لا يثير الأمر حفيظة أحد، ولكن "بمجرد ما تتم الكتابة عن ذلك بالفرنسية يتصف بالفلكلور".
"الإسلام كما نشرحه لأطفالنا"
يعيش الطاهر بنجلون اليوم بين المغرب وفرنسا، وعيشه في فرنسا التي سافر إليها في بداية سبعينات القرن الماضي، وراءه قصة.
ففي سنة 1971، وبعد أقل من سنتين على تعيينه أستاذا للفلسفة التي كانت تدرس بالفرنسية، صدر قرار تعريب تلك المادة، الأمر الذي دفعه إلى ترك وظيفته والتوجه نحو باريس ليتابع دراسته العليا في علم النفس.
تكوينه الأكاديمي ذاك يبرز من خلال "الإسلام كما نشرحه لأطفالنا"، "الإرهاب كما نشرحه لأطفالنا"، "العنصرية كما شرحتها لابنتي"، وهي كلها كتابات يطرح من خلالها، كما هو ظاهر في عناوينها، قضايا حارقة، خاصة بالنسبة للمهاجرين، وإن كان هناك من يرى أنها تدخل في سياق "قانون الطلب والعرض".
ففي سنة 2016، تناقلت العديد من وسائل الإعلام تصريحات منسوبة إلى بنجلون ينتقد فيها المصوتين على حزب العدالة والتنمية، بأسلوب أثار غضبا واسعا.
الإعلامي المغربي، علي أنوزلا، خرج حينها، ومما جاء في مقال له بشأن تلك التصريحات أنها "تأتي في سياق قانون الطلب والعرض" بحسب تعبيره، مضيفا "تبدو مادة نقد الإسلام والإسلاميين وتخلف (وجهل) شعوب الدول التي تدين بهذا الدين على رأس القائمة في بورصة المواضيع الأكثر استجابة لغرائز القارئ الغربي".
ويستحضر أنوزلا في السياق نفسه الكتابات السالفة ويعلق عليها قائلا "عندما كان موضوع العنصرية يحتل صدارة النقاش في فرنسا، كتب الطاهر بنجلون كتابا أسماه (العنصرية كما شرحتها لابنتي)". وعلى إثر الهجمات الإرهابية التي شهدتها فرنسا أخيرا، كتب بنجلون كتابه "الإرهاب كما نشرحه لأطفالنا"".
انتقاده للمصوتين على العدالة والتنمية لم يكن الموقف ذي الطبيعة السياسية الوحيد الذي جلب له الانتقادات، بل إن هناك مواقف أخرى لبنجلون تدفع للتساؤل عما إذا كان على المثقف عموما التحفظ بشأن التعبير عن مواقفه بشأن مواضيع ذات طبيعة سياسية.
محمد جليد يرى أن "المثقف لا يكون كذلك إلا إذا عبر عن رأيه الفكري أو السياسي في الفضاء العمومي"، مبرزا أن هذا الأمر هو ما يميز المثقف عن الباحث أو الأكاديمي.
وحسب جليد فإن "الطاهر بن جلون يمارس دور المثقف من خلال المقالات التي يعبر فيها عن مواقفه الفكرية والسياسية وهذا من حقه"، غير أنه ينبه في الوقت نفسه إلا أن ما قد يعاب عليه في تلك الحالة "أن تكون مواقفه لا تنسجم مع سلوكاته."
حين نتحدّث عن روايات الطاهر بنجلّون، فإنّ السِّمة الأولى التي تتبادرُ إلى أذهاننا هي تعمّقه في الحديث من خلال شخصيات رواياته عن ذلك الوجع العميق الذي يترك الإنسان في مأزقٍ وجودي لا فكاك منه أبدًا. pic.twitter.com/AuB36fcWAK
— ميساء هاشم (@__maysa__) March 1, 2019
بعيدا عن التصنيف (مغربي أم فرنسي)، بعيدا عن تهمة ترويج صورة "فلكلورية" للمغرب، وبعيدا عن مواقفه السياسية والفكرية المثيرة للجدل، لا يختلف أحد بشأن الطاهر بنجلون كأديب نجح في ضم اسمه إلى قائمة أهم الأدباء الذين كتبوا بالفرنسية في عصره، والذي نجح في الوصول إلى العالم بألسنة مختلفة.
"بالنسبة لي هو كاتب عظيم" يقول محمود عبد الغني، "منتج باستمرار ومترجم لعدد من اللغات، كما لا يمكن الحديث عن الأدب أو الرواية الفرنسية أو الروائيين الفرنسيين من أصل مغربي دون الحديث عنه".
وبدوره يؤكد جليد أن ما يجب النظر إليه بشأن بنجلون هو "الأثر الذي يخلقه عند قارئه، وأعتقد أن له انتشارا كبيرا بالنسبة لقراء الفرنسية أينما كانوا" وهو ما يعني أنه "نجح في مشروعه الأدبي والفكري".
- المصدر: أصوات مغاربية