لا يعلمون على وجه الدقة كم مر عليهم من السنين، بعضهم لا يعرفون عمرهم ولا تواريخ الأعياد والمناسبات، يعاكسون الزمن ويعيشون على أنقاض ذكريات مضت، يفعلون ذات الشيء كل يوم، الساعات أشبه بالأيام والأيام أشبه بالشهور والأعوام، لتصبح حياتهم مجرد ترقب وانتظار للموت.
هم مغاربة في أرذل العمر، لم يظنوا أنهم سيعيشون رفقة أشخاص سيتخلون عنهم أو يختطفهم القدر في لحظة من اللحظات، ليجدوا أنفسهم مجبرين على البقاء في مكان لم يختاروه، ومع غرباء يتقاسمون معهم سنوات من العزلة.
"أصوات مغاربية" التقت عددا منهم في دار العجزة بمدينة القصر الكبير (شمال المغرب)، من بينهم مي رحمة ومي فطوم، صديقتان غالبا ما تتحدثان اللغة الإسبانية كي لا يفهمهما باقي النزلاء، تأكلان معا وتخرجان معا لكن لكل واحدة منهما قصة مختلفة.
زهد في الحياة
مي رحمة، سيدة سبعينية، كان لديها ابن وحيد متوفي اسمه عبد العزيز، كل يوم تنده باسمه متمنية لقاءه، وتحكي عن ذكريات 50 عاما برفقته، في محاولة منها لتبقي علاقة تنبض بالحياة رغم موت صاحبها. تحكي مي رحمة أن زوجة ابنها لم تستحمل حالتها فطردتها من المنزل، ثم لجأت لإخوانها لكنهم قرروا وضعها في دار العجزة.
تقول مي رحمة بصوت ينضح حزنا "ليس لدي أحد.. دخلت هنا مرغمة ونويت أني لن أخرج منه إلا محمولة على الأكتاف، قنعت من الحياة ولم أعد أهتم بأي شيء، عشت ما يزيد عن 70 عاما مرت بحلوها ومرها، وربما اقتربت تلك اللحظة التي سأودع فيها الجميع، لا أعتقد أن جنازتي سيحضرها الكثيرون ربما فطوم فقط وبعض العاملين بالخيرية".
خيم الصمت على المكان لبضع دقائق قبل أن تنفجر مي رحمة ضاحكة وتقول "لا يهمني سوى فطوم وأصدقائي هنا". ولم تكد تمر بضع دقائق حتى تمنت من جديد رؤية ابنها عبد العزيز.
رغم حزنها على فقدان ابنها إلا أنها تجد مي فطوم لتؤنس وحدتها. صديقتها التي لم تتزوج ولم تنجب أولادا، الزواج بالنسبة لفطوم "لا يفيد في أي شيء ولا وجود للرجل المناسب". وتضيف بابتسامة ساخرة "لازلت شابة وأبلغ من العمر 35 سنة". رغم أنها تجاوزت التسعين من عمرها.
تقول مي فطوم، التي كانت تشتغل عريفة في السجون المغربية، "كل ما أريده هو الأكل والشرب واللباس وأن لا يزعجني أحد". عاشت حياة سعيدة رغم ألم الوحدة واختارت بنفسها الذهاب إلى دار رعاية المسنين، ولم يقف سنها المتقدم حائلا أمام إرادتها في المحافظة على عقل سليم ولغة إسبانية تعلمها لبعض العاملين في الخيرية.
أربعون عاما من العزلة!
أمام جناج المسنات، يجلس عمر 81 سنة، أب لثلاثة أبناء وبنت، قدم من مدينة زايو في الأربعين من عمره إلى القصر الكبير، واختار العيش في الخيرية بعد أزمة نفسية تعرض لها جراء صراعات مع عائلته وتركه للعمل.
"حين يزورني ابني الأكبر أحضنه حتى أؤلمه ويقول لي أفلتني يا أبي، أقبله وأمسح على شعره كالطفل الصغير حتى ينام بين ذراعي، ثم أقبله مرة ثانية ويقول لي اتركني يا أبي أريد أن أنام، هو لا يفهمني وأنا أعذره وسأظل أقوم بنفس الشيء في كل مرة يأتي فيها لزيارتي"، يحكي عمر بمرارة.
العم عمر يبكي كل ليلة ألما وحسرة بسبب بعده عن أولاده، وفي الوقت نفس يرفض زيارتهم، يقول "إنهم لا يهتمون به"، كما يرفض السكن مع ابنته لأنه يعرف مسبقا أن "زوجها سيطرده ففضل البقاء مع أصدقائه". وليطفئ حر شوقه يستيقظ ليلا ويطبطب على وسادة خاصة بأحد أبنائه، يشم رائحتهم ويتذكر معها أجمل اللحظات التي عاشها معهم.
جو أسري مفقود
"لا شيء يعوض لهم الدفء الأسري"، تقول المساعدة الاجتماعية غزلان الواشيحي، وتضيف "أقول لهم اعتبروني ابنتكم.. لكني أحس أن لديهم فراغا عاطفيا لا يملؤه غير أولادهم، ورغم الجهود التي نقوم بها في الخيرية فدائما لديهم نقص".
تقول الواشيحي إن "عددا من أبناء النزلاء يشعرون بالندم بعد موت آبائهم وأمهاتهم هنا، الندم حينها لا ينفع ولا يوجد مبرر لمن يتخلى عن والديه"، تؤكد الواشيحي في تصريح لـ"أصوات مغاربية"، مطالبة السلطات بتحمل مسؤوليتها تجاه هذه الفئة.
المصدر: أصوات مغاربية