اشتهر جويطي بشكل كبير بفضل روايته المغاربة
اشتهر جويطي بشكل كبير بفضل روايته المغاربة

يؤكد الروائي والكاتب المغربي عبد الكريم جويطي، في هذا الحوار مع "أصوات مغاربية"، أنه يكتب للمغاربة بشكل خاص وللمغاربيين بصفة عامة، مشيرا إلى أن الوحدة المغاربية مسألة وقت فقط، لأن هذه الشعوب مكونة من "نفس القبائل" ولديها "نفس الرموز الثقافية"، وعاشت "لفترات طويلة في كنف نفس الدول".

واعتبر جويطي، الذي حققت روايته "المغاربة" تداولا واسعا في المملكة، أن هناك فروقا بين المغاربة والمشارقة بسبب "الجغرافية وطبيعة التجربة التاريخية"، رافضا الانتقادات التي وجهها إليه البعض بتقمص دور الواعظ في الرواية.

وتحدث أيضا عن سبب اختياره شخصية الأعمى في الرواية، ودور المخزن في الدولة المغربية، بالإضافة إلى رأيه في الكتابة من أجل "اقتناص" الجوائز.

نص المقابلة:

برأيك، لماذا نجحت رواية "المغاربة" وحققت تداولا كبيرا في المغرب حتى بين جمهور الشبكات الاجتماعية؟ هل لأن المغربي اصطدم أخيرا بمرآته في الرواية؟

لا أملك جوابا عن هذا السؤال. لدي فقط تخمينات جواب. ربما لأن الرواية تناولت مسألة الهوية في مرحلة مفصلية من تاريخنا. في اللحظات الانتقالية في تاريخ الشعوب، في لحظات موت شيء قديم وتعذر ولادة شيء جديدة، في لحظات القلق والشك وفقدان البوصلة تطرح دوما الشعوب على نفسها سؤال: من نحن؟ الهوية كما تعرف صيرورة مفتوحة، وجواب تاريخي على تحديات معينة. وكلما تغيرت التحديات والرهانات تغيرت الأجوبة.

في حدود معينة يمكن أن يطال ما حكيتُه كل المنطقة المغاربية

​​ربما جاءت رواية "المغاربة" في خضم هواجس طرح سؤال الهوية بإلحاح، بعد ثورات الربيع العربي ومآلاتها الحزينة. لقد أبان المغاربة إبان الثورات بأنهم يريدون التغيير بهدوء، يريدون المطر لا العاصفة المصاحبة، يريدون السير نحو المستقبل بلا رفس الحاضر. وهذا ما جعل كلام الخصوصية المغربية يعود بقوة.

أعتقد أنني كتبت "المغاربة" بهذا القلق العام والتوجس من الآتي. ثم للنصوص قدر عجيب، فهي جزء من كيمياء عجيبة تخلق الإقبال على نص معين أو النفور منه. هناك ما يتعذر تحليله وضبطه، وهذا قدر النصوص.

الأمر أشبه بالسر الذي يحمله وجه معين ويجعل الكل مشدود له رغم أنه محاط بوجوه لا تقل جمالا.

البعض يعتقد أن الرواية مغربية في العمق، فالأحداث والتلميحات تتطلب فهما للذاكرة المغربية، هل كنتَ تكتب للقارئ المغربي فقط؟

أكتب دوما وعيني وقلبي على بلدي. لا أفكر إلا في من أعيش بينهم. أحيانا أكتب لأصدقائي وصديقاتي فقط. أكتب محاولا ترويض ألم خاص او جماعي. أكتب لأجد جوابا لأسئلة تؤرقني.

لا يملك الكاتب إلا حياته والوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه. هما من يشكلان مادة خياله، هما من يمنحانه طاقة الكتابة ويمنحانه أيضا ملح كل نشاط إنساني أصيل: الصدق.

أكتب عن نفسي وعمن أعيش بينهم لكيلا أتصنع ولكيلا ألبس ثوبا لا يناسبني. بني ملال هي نصيبي من العالم وأنا قانع وممتن لهذا النصيب. ولو منحت حيوات وليس حياة واحدة لما توقفت عن النهل من منجم حكايات المدينة.

لا يحترمنا العالم حين نتنكر لأنفسنا وأمكنتنا وأهلنا ويفعل ذلك حين نأتيه بما نحن عليه. العالم يفرح بانتصار الخصوصيات، لأنه تعب من الإجماعات القسرية المصطنعة. وليس كالأدب لجعل العالم يرى نفسه في مرايا عديدة.

لم تخف في الرواية أن هذا الشعب "استثنائي" في طباعه وطريقة تفكيره، ما الذي يجعل المغاربة مختلفين عن المشارقة مثلا؟

هناك فروق كبيرة بين المغاربة والمشارقة وهذا طبيعي. للجغرافية تأثيرها ولطبيعة التجربة التاريخية حكمها.

احتك المغرب في الأندلس مع الشعوب الأوروبية ثمانية قرون. واحتضن جالية موريسكية كبيرة. وخاض صراعا مبكرا مع النوايا الاستعمارية واحتُلّت العديد من مدنه الشاطئية. ولم يعرف في الأزمنة الحديثة حكم العسكر ولا سطوة التيارات الإسلامية.

وعاش المغاربة دوما في كنف تدين شعبي متسامح ومتصالح مع التعبيرات الدينية الأخرى بما فيها الوثنية.

هناك أيضا استمرارية الدولة والمذهب الديني والنواة الصلبة للتراب الوطني ونجاة القبيلة من كل التقلبات وكذلك الزاوية.

كل هذه العوامل تجعل من المغرب تشكلا فريدا في التاريخ.

عندما تتحدث عن المغاربة، هل تقصد أيضا المغاربيين بشكل عام؟

في حدود معينة يمكن أن يطال ما حكيتُه كل المنطقة المغاربية. لكنني كنت أكتب عن المغرب والمغاربة.

نحن شعب واحد. نفس القبائل نفس الرموز، لنا نفس الرموز الثقافية. عشنا لفترات طويلة في كنف نفس الدول، عشنا متعاضدين ملاحم الحصول على الاستقلال، لدينا نفس التطلعات.

مهما طالت الفرقة ستكون المغارب بلدا واحدا

​​لهذا، ورغم أن الكاتب يصرف اهتمامه لقضايا قُطرية، فإننا نجد لها ترددات في الأقطار الأخرى.

مهما طالت الفرقة ستكون المغارب بلدا واحدا. أؤمن بهذا. وعلينا أن نسعى لتحقيقه بكل السبل.

تتحدث في الرواية عن سطوة رجل السلطة في علاقته بالمواطن، هل لا تزال هذه النظرة تنسحب على "المخزن" اليوم؟

منذ الحصول على الاستقلال، بغض النظر عن طبيعة هذا الاستقلال ودرجته، والدولة تعيش صراعا وتنازعا بين قيم الدولة الحديثة وممارسات السلطة العتيقة التي نُجملها في كلمة: مخزن. هناك مراوحة بين الانتماء للماضي في تدبير الشؤون العامة والانتساب للحاضر، وهناك جولات وإقدام ونكوص. وكلما اعتقد الناس بأن المخزن مات تأتي وقائع لتثبت بأنه حي يرزق بل ينعم بصحة جيدة.

الدولة تعيش صراعا وتنازعا بين قيم الدولة الحديثة وممارسات السلطة العتيقة

​​عرف المخزن دوما كيف يغيّر جلده ويتكيف مع الظروف. واستفاد دوما من تاريخه وتجاربه وقدرته على إفراغ كل مستجد من جدته وتوظيفه لصالحه. إنه الفاعل الكبير في حياة المغاربة. يتعب من يناصبونه العداء وهو لا يتعب، يتشرذمون ويبقى محتفظا على أسسه وركائزه وأسره.

منح المخزن المغرب الاستقرار وضربا من الحرية المحروسة التي لا نجدها في دول مماثلة وتمكن بدهاء مِن تجاوز محنٍ أضاعت دولا أخرى، لكنه ضيّع على البلد فرصا كثيرة لبناء عدالة اجتماعية وتنمية مجالية يستفيد منها الجميع.

المخزن أيضا هو ممارسة السلطة بالعرف وبالقوانين غير المكتوبة وبما لا يقال ولكنه يفهم ويعمل به. لذلك ينبغي تفكيكه بهدوء وثبات للذهاب الحثيث نحو دولة المكتوب والمؤسسات وسلطة القانون.

البعض يقارن اهتمامك بالتفاصيل الدقيقة واللغة الرشيقة والنسق السردي الماتع بدوستويفسكي. لقد كان هذا الروائي الكبير مفتونا بتعقيدات الإنسان، إذ يستغرق في وصف الحالة النفسية لشخوصه لدرجة يحصل هناك تقمص بين القارئ والشخصية. في رواية المغاربة، تنقل تجربة بطل الرواية (الطفل الأعمى) بالدقة نفسها حتى ليستغرب القارئ هل كان الكاتب شاهدا على معاناة شخص ضرير في محيطه؟

دوستويفسكي روائي عظيم، نزل لغياهب النفس البشرية ووصل للتخوم المعتمة في أعماق كل واحد منا. كل ما كُتب بعده يدين له بشيء ما. قرأته مبكرا وما زلت أقرأه. إنه المعلم والمرشد الذي تجد عنده كل ما تحتاجه. يعلمك دوستويفسكي تحري الصدق والإخلاص الشديد للشخوص إلى درجة منحها حرية بناء نفسها في النص والتمرد على مسبقات الكاتب تجاهها. معه دخلت الرواية فكرة أن الكتابة الكبيرة مغامرة، تدخلها ولا تعرف أين ستقودك وإلى أين ستنتهي بك.

حين ولدت شخصية الأعمى بداخلي تركتها تحبو وتقف على رجليها وتكبر في قساوة الحياة. وكثيرا ما كنت أتصرف كأعمى في الدار لأحس بما تحس به.

لا موضوع يستهوي الأدب مثلما يستهويه الألم. والعمى هو أقسى وأقصى ألم يمكن أن يعيشه إنسان. رؤية أعمى تحزن وتفقد كل سذاجة في التعاطي مع الحياة. لذلك كتبت عنه بألم صادق وبحس مشاركة جعلني أحس بأنني أعيش التجربة نفسها.

لا أحد يأمن الحياة وكل ما نتمتع به يمكن أن نفقده في لمح البصر. لا شيء يدوم سوى المرارات.

اختيارك لشخصية الأعمى، هل كان المقصود منه هو التلميح إلى أن المغربي يعيش تجربة العمى في علاقته بالماضي والمستقبل؟ 

ما كان يهمني في الرواية هو العمى الرمزي وصناعة العجز المتكررة. عمى عدم رؤية الطريق المسدود والحائط الذي سنرتطم به، عمى تجريب ما جُرب سابقا، عمى عدم انتظار بيضة الذهب كل يوم ونحر الدجاجة للحصول على الذهب كله والعثور على الهباء، عمى الحروب الصغيرة والغايات المنحطة، عمى عنف لا ينتج إلا الأحقاد ويرهن المستقبل، عمى ترك ما هو جوهري في الحياة والجري وراء الأوهام.

العمى هو الظلام وقصر ذات اليد، لذلك لا يعمى الأشخاص فقط بل تعمى أيضا الشعوب في مراحل تاريخية وتنجرّ لمغامرات جنونية وتقودها شعبوية مقيتة.

العمل البشري دائما معرّض للنقد، والبعض قال إن عبد الكريم جويطي سقط في الوعظ والإرشاد وهذا ليس دور الروائي، كيف تردّ على هؤلاء المنتقدين؟

الوعظ والإرشاد يقوم به من يريد أن يقول للناس ما عليهم فعله. الواعظ يضع نفسه في مرتبة أعلى ممن يوجه له وعظه. وأنا أكتب المغاربة لم يكن لدي ما اقترحه على المغاربة.

لا يعمى الأشخاص فقط بل تعمى أيضا الشعوب في مراحل تاريخية

​​أعرف ما ليس على ما يرام ولا أعرف كيفية الخروج منه. لذلك لن تجد جملة فيها وعظا. من قال هذا لم يقرأ الرواية حتما. ربما هناك عيوب في الرواية إلا هذا العيب.

البعض يكتب من أجل اقتناص الجوائز، لكن انتقادك الشديد للشخصية المغربية، وفي بعض المقاطع الشخصية العربية، قد يعتبره البعض زهدا عن الجوائز، لكن رغم ذلك ظهرت الرواية في اللائحة القصيرة للبوكر وفازت بجائزة المغرب للكتاب، ما رأيك؟

ليس العيب في الجوائز وإنما في من يكتب لها. ويكيّف كتابته مع ما يتوهم أنه أفق انتظار لجنة ما وجائزة ما.

قلت دائما بأن الجوائز لا تقتل نصا ولا تحييه. القارئ هو من يفعل ذلك. لست ممن يدعون لمقاطعة الجوائز ولا ممن يهاجمون من حصل عليها. لكنني ضد تحولها لغاية في حد ذاتها.

الجائزة بوابة مشرعة نحو القارئ خصوصا إن كانت ذات مصداقية. وحتى أثبت لك بأنني لا أكتب وفي ذهني جائزة معينة، فقد اختيرت "كتيبة الخراب" ضمن اللائحة الطويلة للبوكر سنة 2008. ولم أصدر المغاربة إلا سنة 2016. هناك من يكتب رواية كل سنة ويجرّب حظه مع هذه الجائزة.

 

المصدر: أصوات مغاربية

مواضيع ذات صلة