بقلم حافظ المرازي
بقدر رفض العديد من النخبة الليبرالية المصرية لأفكار وممارسات الإخوان المسلمين، سواء في السنة التي حكموا مصر فيها ولو رسميا (2012-2013) أو السنوات الـ30 السابقة على ذلك، والتي شهدت عقد صفقات سياسية انتهازية مع نظام مبارك، إلا أن المرء لا يمكنه سوى التعاطف والشعور بالأسى للظروف الصعبة لوفاة مرشدهم العام السابق محمد مهدي عاكف بمحبسه الصحي عن عمر قارب 90 عاما، وبعد فشل نداءات الإفراج الصحي عنه، أو نقله لمستشفى مناسب لتوفير رعاية طبية لائقة لمن في سنه. إنها مشاعر مراعاة الإنسانية من ناحية واحترام شخصيات بارزة في تاريخ مصر اجتهدت في الدفاع عن هذا البلد ولم تكن متعصبة مع شركاء الوطن، حتى مع مواطني بلده من يهود مصر، رغم أنه شارك مع تنظيمات مسلحة إخوانية ومصرية ضد تنظيمات يهودية في فلسطين عام 1948.
وفاة المرشد السابق للإخوان ذكرتني بقصة طريفة رواها لي عنه حين كنت أعد حلقة في برنامجي "بتوقيت القاهرة" في قناة دريم المصرية عن يهود مصر (منذ خمس سنوات) السيد ألبير عارييه (أو آرييه)- أطال الله لنا في عمره- وهو من مواليد القاهرة 1930، التي لم يتركها حتى الآن إلا سجينا في واحات مصر عام 1953 في عهد عبد الناصر.
كان ألبير مسجونا سياسيا وقتها ضمن تنظيم شيوعي مصري عارض الانقلاب العسكري عام 1952 واكتشف زيف شعارات ضباطه المؤيدة للفقراء من الفلاحين والعمال حين أعدموا اثنين من زعماء العمال المصريين (خميس والبقري) لقمع أي إضراب عمالي منذ الأشهر الأولى لاستيلائهم على السلطة.
وقتها كان ناصر وزملاؤه الضباط متحالفين مع الإخوان المسلمين، ورغم أنهم حلوا كل الأحزاب والتنظيمات السياسية فور إنهائهم الحكم المدني لمصر الذي كان قائما منذ دستور عام 1923، فقد أبقوا على تنظيم الإخوان عامين، حتى اصطدموا معهم عام 1954 وأرسلوهم للحاق بالشيوعيين في السجون والمعتقلات، ومنها سجن الواحات في أقصى غرب صحراء مصر، حيث التقى الشاب اليهودي الشيوعي ألبير آرييه (24 سنة وقتها) بالناشط الإخواني محمد مهدي عاكف (27 سنة آنذاك).
وكما روي لي ألبير، لم يكن هذا لقاءهما الأول وإن كانت العلاقة كزملاء عنبر سجن واحد قد توثقت، لأن عائلة مهدي كانت جارة لعائلة عارييه في حي السكاكيني الذي سكنه أغلب اليهود من الطبقة الوسطى في القاهرة. بل وزاد المعرفة بين الشابين، أن مهدي عمل في بداية حياته مدرسا للتربية الرياضية (مفضلا التخرج من كلية التربية الرياضية على الكلية الحربية التي حثه أبوه على دخولها) وكان يتردد على أشهر محل تجاري بمصر وقتها لبيع المستلزمات والأدوات الرياضية في وسط القاهرة (ميدان سليمان باشا). أما صاحب المتجر فلم يكن سوى عائلة عارييه اليهودية المصرية، وبالتالي تعرف الابن ألبير وهو يساعد والده في المحل على محمد مهدي عاكف منذ ذلك الوقت. ضحك ألبير وهو يتذكر معي تردد عاكف عليهم لشراء مستلزمات التمارين الرياضية بقوله "لم أكن أعرف وقتها إن كان يستخدمها للتلاميذ أم لتدريب تنظيمات إخوانية في معسكرات للمشاركة في أعمال عنف ضد يهود في فلسطين أم لا!"
بالنسبة لألبير، اختيار مصر ورفض كل دعوات الهجرة لإسرائيل مسألة وطنية لا تقبل نقاشا مثلما تطوعه لمديح أخلاقيات مهدي عاكف على المستوى الإنساني والوطني رغم اختلافهما سياسيا، تدل لي على نبل أخلاقيات ألبير بالمثل.
وأذكر في عام 2012 ببرنامجي التليفزيوني بمصر وقتها أن سألت عبر الهاتف المرشد السابق للإخوان مهدي عاكف عن ذكرياته مع ألبير عارييه فأكدها ضاحكا، حين أثرت له شكوك ألبير في ما كان مهدي يستخدم الأدوات الرياضية ضدهم وقتها. واستعاد بدوره كيف كانت علاقات المصريين رائعة وإنسانية وهم في حي السكاكيني مسلمين ويهودا كجيران في تلك السنين.
ألبير الذي امتدح تحضر وسلوك مهدي عاكف ونوعية وثقافة زملائه في مكتب الإرشاد ممن سجنوا معه في الخمسينيات، أخبرني وقتها عن رواية كنت أشك في دقة ما أبلغني في سياقها من غرابتها، لكني بحثت فوجدته بالفعل يكررها أيضا حتى بعد مرور عامين على الإطاحة بالإخوان من الحكم في مقابلة مع صحيفة اليوم السابع (25 يونيو/حزيران 2015):
س: سمعنا أن يهوديا أنقذ مرشد الإخوان الأسبق مهدى عاكف من الموت.. ما مدى صحة هذا الأمر؟
ألبير : نعم وهو بنفسه اعترف بذلك في مذكراته، والقصة كانت تتزامن مع قضية لافون عام 1954، وبالمناسبة «عاكف» هو من حكى لي هذه القصة، وقالّي إن ربنا بعتله يهودي من السماء هو اللي أنقذه، وداواه وخفف جروحه وقتها وأنقذه من الموت، وفي كل مناسبة كنت بأقابل عاكف بيحتفي بيا جدا رغم خلافنا الأيديولوجي.
محمد مهدي عاكف رحل عن عالمنا هذا الأسبوع محبوسا بعد تأخر تحويله لمستشفى صحي مناسب، ولم يكن محظوظا مرة اخرى في سجنه مثلما حدث معه قبل 63 عاما مع ذلك "اليهودي"الذي كان محبوسا معه في السجن الحربي المصري واسمه روبير دعسا الذي كان معتقلا وقتها ضمن خلية الشباب اليهودي الذي كان سيقوم بتفجيرات في مصر في ما عرف بفضيحة لافون. وتم ترحيل روبير بعدها لإسرائيل حيث عمل لفترة في التلفزيون الاسرائيلي واحضره معه الى مصر مناحم بيجن خلال زيارة للسادات. حظ عاكف أن هذا الشاب اليهودي كان متروكا يتجول داخل السجن الحربي بعد الإدلاء باعترافاته وقرب ترحيل مجموعته، ووجد عاكف بين الحياة والموت بعد عملية تعذيب قاتلة.. ويروي عاكف انه لولا اهتمام روبير به وهو ملقى على الأرض وإحضاره ماء ليشربه لنفق بعد دقائق ولفظ انفاسه الأخيرة!
-----------------------------------
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)