بقلم منصور الحاج/
في إحدى حلقات برنامج Pops and Tops الذي كانت تقدمه الإعلامية اللبنانية رزان مغربي على قناة "أم بي سي" في أواخر التسعينيات، اتصل مشاهد للتعليق على أغنية للفنانة الأميركية الراحلة ويتني هيوستن فقال: "الفنانة حلوة بس عبدة". ردت عليه رزان متسائلة: "شو؟" فكرر المتصل: "حلوة بس عبدة عبدة".
تذكرت هذه الحلقة وأنا أتابع فيديو يظهر فيه أطفال أميركيون من أصول إفريقية يتحدثون بفخر عن إنجازات السود قديما وحديثا في نهضة بلادهم ويتمنون لبني جلدتهم مزيدا من التقدم والنجاح بمناسبة حلول شهر شباط/فبراير المخصص للاحتفال بمساهمات السود والاعتراف بالدور البارز الذي لعبوه في تاريخ الولايات المتحدة. وما بين الأطفال الذين يفخرون بإنجازات أسلافهم ومعاصريهم، وهو ما يمثل حافزا لهم للتفوق والإبداع، وما جاء في المداخلة الهاتفية بون شاسع وفارق كبير بين ثقافتين: إحداها تعزز القيمة الإنسانية والجمالية والإبداعية لكل شخص بغض النظر عن لونه وشكله وأصله، وأخرى تنظر إلى الآخر بدونية وترسخ فيهم الشعور بالنقص لكونهم يختلفون عن الغالبية والمعايير التي وضعوها للجمال والثقافة.
إن ما يعيشه السود وغيرهم من الأقليات والفئات في الدول العربية والإسلامية من تمييز ممنهج بسبب لون البشرة أو نوع المهنة أو الانتماء القبلي أو العرقي، أمر مؤسف وظاهرة اجتماعية ذميمة يجب وضع حد لها، خاصة بعد استفحالها وانتشارها على نطاق واسع بحيث باتت أقرب إلى المسلمات. وهذا ما يجعل من مهمة التصدي لها أمرا عسيرا ويتطلب مضاعفة الجهود ووضع خطط بعيدة المدى والاستفادة من تجارب الدول التي قطعت أشواطا كبيرة في هذا المجال.
وتعتبر التجربة الأميركية، من أبرز التجارب والأكثر نجاحا في الانتقال من مرحلة العنصرية الممنهجة إلى مرحلة المواطنة الكاملة لكل شرائح ومكونات المجتمع وترسيخ القيم الإنسانية وتعزيز قيمة الفرد وقدرته على الإبداع والتميز والنجاح وتحقيق أحلامه بالجد والاجتهاد. إنها تجربة مميزة جعلت من التعددية الثقافية والعرقية والدينية مصدرا للقوة ومحل احترام وتقدير، فأصبح الأميركي الأسمر والأسود، العربي والهندي، الإفريقي والصيني يشعر بأنه مميز ومقدر وجميل ومتفوق، وأن أصوله وعاداته وتقاليده محل فخر واعتزاز، وأن دينه ولونه وخلفيته العرقية لن تحول دون وصوله إلى هدفه وتحقيق أحلامه.
وبالعودة إلى التاريخ الأميركي القريب، نجد أن السلطة التي كانت تحرم السود من حقوقهم الأساسية والمجتمع الذي كان يضطهدهم ولا يختلط معهم في المدارس والمطاعم والفنادق ومركبات النقل العامة، تحول في فترة وجيزة إلى مجتمع يعزز مفهوم المساواة ويكافح التمييز والعنصرية من خلال برامج تعليمية وثقافية وتربوية واجتماعية، تهدف إلى خلق أجيال متنورة تتسلح بالعلم والمعرفة والثقافة والثقة بالنفس والإيمان بأن لون البشرة أو الخلفية الثقافية أو العرقية لن تكون حائلا دون تحقيق الأحلام.
لم تصل الولايات المتحدة إلى ما وصلت إليه اليوم عبر ترديد الشعارات أو الافتخار بالمواد الدستورية التي تنص على العدل والمساواة، وإنما من خلال تبني سياسات وبرامج وخطط حرصت فيها على منح الفرص لأبناء الأقليات في الدراسة وتخصيص مقاعد لهم في أعرق الجامعات. وكذلك عبر قوانين تجرم التمييز في طلبات الحصول على عمل بناء على الدين أو اللون أو النوع، بالإضافة إلى تشجيع الأقليات على التمسك بعاداتهم وتقاليدهم ولغاتهم واعتبارها عوامل تميز وإضافات تحسب لصالح من ينحدرون من تلك الفئات وليس ضدهم.
إحدى صور تعزيز التعددية الثقافية في الولايات المتحدة تتمثل في تخصيص شهر شباط/فبراير من كل عام منذ 1976 للاحتفاء بإنجازات السود ومساهماتهم في جميع المجالات. وجاءت فكرة هذا الشهر من "أسبوع تاريخ السود" الذي بدأه المؤرخ الشهير كارتر وودسون ونشطاء آخرون، لتتبناه الدولة لاحقا ويتحول إلى شهر مخصص لمراجعة ما حققوه والاحتفاء بما قدمه الأسلاف والمعاصرون والاعتراف بمساهماتهم في مسيرة التقدم والنجاح لهذه الأمة.
في هذا الشهر، تحتفل أقلية الأميركيين من أصول إفريقية بقادة نضالهم الذي ضحوا من أجل أن ينال بنو جلدتهم حقوقهم السياسية والاجتماعية والإنسانية. ويحرص الآباء على تذكير أبنائهم بالتاريخ النضالي للرموز أمثال القس مارتن لوثر كنغ جونيور وفريدريك دوغلاس ومايا أنجلو وأوبرا وينفري وغيرهم من العظماء.
وعلى الرغم بما يحظى به هذا الشهر من تقدير لدى أقلية السود في الولايات المتحدة، إذ تنظم فيه الفعاليات في الجامعات والمراكز الثقافية والقنوات الفضائية الخاصة بهم، إلا أن هناك من يعارضون هذا التخصيص ويسعون لإلغائه، أمثال النجم السينمائي الشهير مورغن فريمان. يرفض فريمان فكرة هذا الشهر من الأساس ويصفها بالأمر "السخيف"، على اعتبار أن تاريخ السود في أميركا هو تاريخ أميركا نفسها وبالتالي لا معنى لتخصيص شهر لتاريخ السود. وتساءل فريمان في حوار في برنامج "60 دقيقة" لماذا ليس هناك شهر لتاريخ البيض أو اليهود الأميركيين؟
وبالنظر إلى واقع حال السود وغيرهم من الأقليات في واقعنا العربي والإسلامي، نجد أن الموضوع لا يحظى باهتمام السلطات أو وسائل الإعلام، كما لا يتطرق الباحثون إلى التاريخ والتراث الإسلامي وما يحويه من تمييز ضد السود منذ عهد الصحابة وما تبعه من عصور. إن هناك العديد من الوقائع في التاريخ الإسلامي التي توضح أن ثقافة التعالي العرقي كانت سائدة حتى في عهد الصحابة. فعلى سبيل المثال، لم يحظ بلال الحبشي وهو من "السباقين إلى الإسلام" بأي منصب رفيع، وقد واجه مواقف عنصرية نقل لنا التاريخ منها وصف أبا ذر له بـ"ابن السوداء،" كما كانت "فارسية" سلمان الفارسي و"رومية" صهيب الرومي وماضي زيد بن حارثة وشكله، منقصة لهم تطلبت أن يضم الرسول سلمان إلى "أهل البيت" ليرفع من قدره، وملابسات زواج زيد بن حارثة بزينب بنت جحش والأحاديث التي تحث المسلمين على طاعة ولاة أمورهم ولو "تأمر عليهم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة"، وكذلك الآيات التي تذم السواد وتمدح بياض البشرة.
إن أي معالجة حقيقية لهذا الواقع، تتطلب الاعتراف بهذا التحامل والعمل على تصحيح المفاهيم وتبني سياسات وبرامج تتصدى لكل أوجه التمييز والعنصرية، ومنح الأقليات حقوقهم وتشجيعهم على إبراز ثقافاتهم وعاداتهم والدور الذي لعبوه في مختلف المجالات من أجل بناء أجيال واعية ومستنيرة لا ترى في اختلافها عن الأغلبية أي منقصة.
لن يتغير واقع الأقليات العرقية المضطهدة كالسود وفئة "لمعلمين" في موريتانيا (العاملون في الصناعات اليدوية التقليدية) و"البانتو" في الصومال وغيرهم في مختلف الدول العربية والإسلامية إلا بعد أن يحظى موضوع التمييز والعنصرية بمزيد من الاهتمام من قبل الحكومات ووسائل الإعلام والباحثين. حتى ذلك الحين، سوف تستمر معاناة الكبار والصغار معا من أمثال الطفلة ريتال التي رأت أن بشرتها السوداء عيبا فيها يعطي أقرانها الحق في لفظها وتجنبها ومنعها من أن تشاركهم اللعب في المدرسة.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)