بقلم مالك العثامنة/
تربطني صداقة خاصة بالأب ميلاد الجاويش، وهو رجل دين كاثوليكي من لبنان يقيم في بروكسل، واسع الثقافة يحمل شهادة الدكتوراه ويؤلف كتبا ويعشق الرحابنة وفيروز ولبنان بكل تفاصيله بلا استثناء.
كثيرا ما أرسل له رسالة نصية أستهلها بعبارة "أبونا الذي في بروكسل" فيجيب عليها بخفة ظل ويدعوني في ساعات ضجري الطويلة إلى محاضرات أو نشاطات ثقافية في كنيسة القديس يوحنا ذهبي الفم التي يرعاها، فألبي الدعوة ممتنا له، وأتابع نشاطات الرعية الكنسية بإشراف هذا اللاهوتي المحترم.
في أحد النشاطات قبل عام، أخبرني أنه سيلقي محاضرة مسائية للتعريف بالمذهب البروتستانتي، ولأنني سألته كثيرا عن المذاهب والفرق المسيحية فقد ارتأى أن يدعوني للحضور، فلبيت الدعوة وكانت محاضرة تثقيفية على منهج علمي محترم، ألقاها "أبونا ميلاد" بسلاسة ورقي وبلا أي إساءة من أي نوع.
بعد المحاضرة، كان هناك حضور كريم من مسيحيي العراق، وهم من عانوا الرعب والأهوال المفزعة من عصابات داعش الإرهابية وقد فروا بدينهم وأرواحهم إلى منافي العالم تاركين أوطانهم للنهب والخراب والفساد.
في مداخلة غاضبة لسيدة عراقية كريمة يبدو أن جرحها لم يلتئم بعد، تعرضت للمسلمين في العالم العربي بإساءة لم تكتمل بسبب مقاطعة حاسمة وحازمة للأب ميلاد، رفض فيها الإساءة لأي كان في دينه، ودخل الحضور مع الأب في نقاش محتدم قاد فيه اللاهوتي المثقف ابن لبنان المنفتح الجميع إلى نقطة قاطعة بأن الدين لله وهذا العالم للجميع.
لا أشك للحظة في صدق الأب ميلاد، وهو الذي في ساعات بوح شفيفة بيني وبينه في جلساتنا "الرحبانية" يسألني عن والدتي، ويرى في إيمانها ـ حسب وصفي لها ولتصوفها الإنساني المدهش ـ إيمانا خالصا نقيا يثير إعجابه كرجل دين.
الأب ميلاد، راعي رعية كاثوليكية عربية، أخبرني ذات مرة أنه ومن صلب إيمانه يرى في كل البشر أبناء الله، وأن الرب الخالق والراعي للجميع بلا استثناء.
♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦
في الأردن، ومع صعود قضية الراحل ناهض حتر، حتى اغتياله في فضيحة أمن دولة مرفوعة الرأس، كان هناك في خلفية الأخبار والتقارير رجل دين مسلم، هو الشيخ مصطفى أبورمان. وهو من أوائل من دافعوا عن ناهض حتر، وأول من زاروه بعد الإفراج عنه، وأول من كان في مقدمة جنازته بعد اغتياله رحمه الله، غير حضوره العلني والشجاع لقداس الكنيسة عن روح ناهض حتر.
أدهشني هذا الرجل السمح، وسألت عنه لأعرف أنه خطيب وإمام جامع ورجل دين مكتمل المعرفة، مكتمل القلب والإنسانية.
قيل لي بعدها أنه تعرض لمضايقات رسمية في نقله من مسجده إلى مسجد آخر بقرارات رسمية!
احتفظت بالمعلومة وربطتها بتحرك خفي في الدولة العميقة في الأردن يسعى إلى توظيف واستخدام الدين لأكثر من غاية.
كان الشيخ مصطفى حالة فريدة، لأن السائد في المجتمع الأردني وعلى كل المستويات هو الفكر الداعشي الذي تسلل عبر سنوات الطفرة النفطية إلى الأردن عبر المغتربين والعائدين والزائرين من صحراء الوهابية الراديكالية، والتحشيد النفطي ـ المخابراتي الذي شمل انتشار ثقافة الكاسيت الشرعي، في خضم الحرب الأفغانية، وبرعاية رسمية لمقاومة المد الشيوعي!
فانتهينا بقاعة تحمل اسم "عبدالله عزام" أحد أمراء الحرب الأفغانية وعراب تأسيس الأفغان العرب، في الجامعة الأردنية، وبدكتور اسمه أمجد قورشة، يلقي محاضراته "برعاية رسمية" على طلاب الشريعة ويبثها على فضاء الانترنت مدركا أنه يخاطب من يريد في العالم كله (يخاطب في منتصف محاضرته مستمعيه حول العالم)، ليحمل كتاب المسيحيين المقدس، وتحت اسم الدراسة العلمية المقارنة، يحاول الحط من شأن الدين المسيحي. ويشير في أحد أمثلته لطلابه إلى أنه لو كان لأحدكم صديق "نصراني" سابقا، فعليه أن يعرف كيف يدحض أمامه عقيدته! إعلان حرب دينية بلا أي مبرر وباسم الله.. جل شأنه.
♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦♦
تابعت بشق النفس وعلى مضض ما استطعت من فيديو السيد أمجد قورشة، متذكرا كيف أفردت له الدولة الأردنية مساحات واسعة من التعبير عن أفكاره في التلفزيون الرسمي وبعض الإذاعات، واستذكرت حادثة دعمه العلني لتنظيم داعش الإرهابي ثم عودته لسلك التدريس في أم الجامعات الأردنية، وقد حقق من الشهرة ما حققه بدهاء يشبه دهاء زميله النائب في مجلس النواب الأردني محمد نوح القضاة، والذي لا يتردد بإطلاق تصريحاته "الدينية" المثيرة للجدل كان آخرها تعنيف غير المحجبات، ونعتهن بالهبل والكفر.
وهذا كله يجعلني أتساءل عن الرعاية الرسمية لكل هؤلاء في منطقة تعلن أنها تحارب التطرف والفكر الإقصائي، وفي دولة مثل الأردن تحاول دوما تقديم نفسها كدولة حداثية عصرية مدنية، فتلك الوصفة بحد ذاتها لبلد محدود الموارد يعاني من أزمة اقتصادية كافية لجلب المساعدات والمنح والدعم.
قصة هؤلاء الدعاة المثيرين للفتنة والجدل لا تقتصر على الأردن، لكنها تنسحب على غالبية العالم العربي المشحون عقائديا وطائفيا إلى حد لم يتبق معه إلا إشعال فتيل الحرب الدينية التي لن تبقي ولن تذر.
منح السيد قورشة نفسه في الفيديو الحرية الكاملة، وبتسجيل حي متعمد يدرك أنه سيصل إلى الجميع، بانتقاد واستهزاء الدين المسيحي عبر تقليبه الكتاب المقدس، وهو ما يجعلني أتساءل عن قدرته على تحمل ذات الموقف من أي شخص غير مسلم لو قلب القرآن بين يديه بدون احترام وصار يفسر آياته بما يريد وعلى هواه، ويتحدث بلغة العصر والعلم عن أحداث قرآنية من الصعب حشرها في منطق المختبرات العلمية.
في المحصلة، لسنا بصدد "مقارعة" الأديان ببعضها البعض، فالأديان حالة شخصية وخاصة في دول تحترم نفسها، وهي علاقة إيمانية خاصة بين الإنسان وما يؤمن به، لكن الأجدى في جغرافيا برميل البارود الذي يعيش فيه العرب أن يلتفتوا أكثر إلى العلاقة بين الإنسان والإنسان، قبل أن ينتهي هذا الإنسان فينا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)