حين يطابق وجع الفن وجع الحياة، وحين تفضح السينما اللبنانية ما أراده المجتمع والسياسيون أن يبقى وراء الستار، يصبح الحديث عن فيلم "كفرناحوم" لنادين لبكي كإنجاز على المستوى الداخلي والدولي ومحطة تستحق التكريم في حفل جوائز الأوسكار هذا الأحد.
لم تختر لبكي في "كفرناحوم" الطريق السهل بالصور والكلام المبسط عن لبنان ومشاكله. فلا حروب ولا إطلاق نار، ولا تسخيف وتجريد لأهله أو سياسته كما رأينا في أفلام أخرى بينها "بيروت" للمخرج براد أندرسون الذي لم يزر بيروت لتصوير فيلمه.
"كفرناحوم" أو الفوضى، كما قالت لبكي، يخوض في أعمق مشاكل البنية الاجتماعية اللبنانية بعد الحرب، ويتحدث عن آفات اجتماعية واقتصادية لا تنحصر بالضرورة بلبنان، إنما يرفض اللبناني كشفها والحديث عنها.
أول هذه المشاكل هي أحياء الفقراء في بيروت التي يدخلها قلة من السائحين المتجهين إلى "سويسرا الشرق" لالتقاط الـ"سيلفي" بين الجبل والبحر من دون التمعن بمآسي مئات الآلاف العالقين بينهما.
في هذه الأحياء نتعرف إلى زين (زين الرفيع)، ابن الاثنتي عشرة سنة، وهو يدفع عربة صغيرة بها قوارير غاز وماء تارة، ويبيع العصير تارة أخرى. في زواريب بيروت الفقيرة، تكشف لبكي عبر زين، عن مشاكل المخدرات، العنف المنزلي، زواج الأطفال، وعدم تحديد النسل وكيف دمرت هذه العوامل مجتمعة حياة كثيرين من جنسيات مختلفة عالقة في ذلك الواقع.
"كفرناحوم" يسلط أيضا الضوء على مشاكل العاملات في الخدمة المنزلية ومعاناتهن في بلد لا يقر بأدنى حقوقهم المدنية. معاناة العاملات تلخصها حياة "راحيل" العاملة الإثيوبية والتي تلعب دورها يوردانوس شيفراو، في مواجهة مشاكل الحرمان من الأمومة، المتاجرة بالأطفال، السجن والإساءة في العمل.
ويأتي لقاء الصدفة بين "زين" و"راحيل" لتتقاطع خلاله مآسي الطبقة المهمشة والفقيرة في لبنان. فلا أوراق ثبوتية لأي منهما أو لابنها يوناس ولا عقد إيجار ولا حتى ضوء في المنزل (الغرفة) في أحد المخيمات. الضوء الوحيد هو في شخص "آسبرو" (علاء شوشنية) التاجر الحذق والمهرب الماكر الذي أوهم "راحيل" بالأوراق الثبوتية وخدع "زين" بإمكانية الإبحار إلى تركيا أو حتى السويد.
يستعرض الفيلم مشاكل السجون في لبنان والفوضى والإهمال في سجن رومية والذي يشهد منذ فترة إشكالات أمنية، وقد وعدت وزيرة الداخلية الجديدة ريا الحسن بالنظر فيه وبواقع السجون عموما. وهو يطرح أسئلة حول واقع اللاجئين السوريين، ولو أن "زين" ابن عائلة لبنانية، ومستقبلهم في لبنان من دون أوراق عمل أو أفق تأهيلي أو خطط ولو في المدى القصير لاستياعبهم في المجتمع.
أجمل ما في فيلم "كفرناحوم" هو أنه واقعي لدرجة أنه اعتمد على شخصيات من واقع الحياة وليس على ممثلين. فزين الرفيع، اللاجئ السوري من درعا، لعب دور زين؛ ويوردانوس، اللاجئة من أريتريا، لعبت دور راحيل. عدا عن جائزة مهرجان "كان" ومشاركات في مهرجانات عدة، فإن نجاح "كفرناحوم" الإنساني هو في انتشال عائلة زين الرفيع من أزقة بيروت إلى أقصى الشمال في هامرفيست في النروج وإعطائه فرصة لأن يكون طفلا ويلتحق بعد 13 سنة بالمدرسة.
حين تدخل لبكي وفريقها قاعة الأوسكار يوم الأحد، ستملأ التناقضات المشهد بجلوس اللاجئين على منصة هوليوود وإمكانية فوز أول مخرجة لبنانية وعربية بجائزة الأكاديمية. إنما حتى إذا لم يفز "كفرناحوم" فهو حقق انتصارا بالخروج عن السرب التقليدي، واستعرض بشجاعة آفات مجتمع وأوجاع طبقة مهمشة من الفقراء والمسنين.
ليس بالمفاجئ أن تستفز هذه الحقائق الشوفينيين وأصحاب الشعارات الفارغة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في لبنان. وبعض هؤلاء حاول كم أفواه المخرجين والصحافيين ورسامي الكاريكاتير ظنا منهم أن التسلط يساوي الانتصار.
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن)