د. عماد بوظو/
لا يوجد عبارة استغلها المتطرفون وأساؤوا استخدامها مثل "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، التي ورد ذكرها في القرآن عدة مرات: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" آل عمران 104؛ "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، آل عمران 110؛ وفي الحديث، عن أبي سعيد الخدري أن الرسول قال عن حقّ الطريق: "غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" متفق عليه.
رغم أن المعروف يعني "الفعل المتعارف عليه للخير والإحسان" فقد كان فهم المتطرفين لأمر الأطفال بالمعروف هو توجيههم للصلاة والصوم من عمر سبع سنوات، وأمرهم بهما عند سن العاشرة فما فوق، وللولي أن يضربهما إن تخلّفا، اعتمادا على حديث منسوب للرسول "مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر".
وهي الطريقة نفسها التي يرون اتباعها لزجر الأطفال عن المعاصي، كما شمل نفس هذا الأسلوب بالأمر بالمعروف المرأة إذ حسب رأيهم، "من النساء من لا ترتدع إلّا بالضرب"، ورغم أن بعضهم يستدرك بأن الضرب هو آخر الطب بعد الوعظ والهجر، لكن الإمام ابن باز يؤكّد بأن هناك ترخيص من الله لممارسته عند اللزوم. وذهب بعضهم إلى أن للزوج أن يضرب زوجته على تركها لحقوق الله مثل الطهارة والصلاة أو إغلاق الباب دون الزوج، "رفض ممارسة الجنس معه"، وتتساوى المرأة في طريقة التعامل هذه حسب رأيهم مع الخادم والدابّة.
كما رأوا أن هناك ضرورة لإتباع وسائل أكثر تشددا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمعات هذه الأيام نتيجة ظهور "المعاصي والبدع والشرك وانتشار الشرور والفساد وكثرة دعاة الباطل"، وكانت وسيلتهم لتنفيذ ذلك هي "الإنكار باليد"، أي إراقة أواني الخمر وكسر آلات اللهو واستخدام كل الوسائل لدفع العامّة وخاصة النساء للتقيد باللباس الإسلامي وإلزام الناس بالصلاة، وإقامة الحدود والتعزيرات الشرعية حتى يستقيم الناس ويلزموا الحق، كما شددوا على أن تكون العقوبات علنية حتى يتعظ الناس، أو بمعنى أوضح حتى يخافوا.
أما عندما لا تسمح لهم الظروف بتنفيذ ذلك بالقوة، فعليهم الاكتفاء بدعوة الناس باللسان لإتباع أحكام الله، حيث يعظوهم ويتحرّون عن ما يقومون به من أفعال غير مقبولة حتى ينهوهم عنها. وابتكروا لذلك أساليب جديدة، مثل تقديم مساعدات وحوافز في المدارس والجامعات وأماكن العمل لكسب الشباب ولدفع الفتيات والسيدات للتقيد بالحجاب، أو حتى إغراءات مالية لسيدات مشهورات لارتداء الحجاب أو النقاب والترويج لذلك باعتباره انتصارا لتصورهم عن الإسلام، كذلك تقديم عروض مالية أو شراء الأمكنة أو المتاجر التي تعرض فيها منتجات يعتبرونها لا تتناسب مع الشرع أو النوادي المختلطة أو التي تقدم فيها مشروبات كحولية لتحويلها إلى مشاريع "حلال"، وغيرها من الحالات التي يستخدمون فيها أموال الجمعيات والجماعات الإسلامية لفرض نمط حياة اجتماعي واحد والقضاء على التنوع الذي تميزت به مجتمعات الشرق الأوسط طوال تاريخها، بحيث يصبح المختلف حالة شاذة معزولة.
كما ظهر ذلك في دول مثل مصر بأن يبحث أشخاص ليس لهم أي صفة رسمية عن تصريح لأحد المثقفين أو تدوينة على مواقع التواصل أو ما تضمنه أحد الكتب من أفكار أو ما ارتدته إحدى السيدات من ثياب لا تتماشى مع رؤيتهم للدين، لتقديم بلاغات للنيابة أو إقامة دعاوى قضائية، وتوجيه اتهامات لهم بازدراء الدين الإسلامي أو الخروج على عادات وتقاليد المجتمع أو الفجور، وشاركت مؤسسة الأزهر في بعض هذه الدعاوي وتعرّض بعض المستهدفين من هذه القضايا للسجن لأن لهم آراء أو ممارسات يعتبرها رجال الدين هؤلاء غير مقبولة.
كما ابتكروا استخداما جديدا مختلفا للحسبة، وهي بدعة لا وجود لها في القرآن أو الحديث الصحيح، كانت تستخدم في العصر العباسي للإشارة إلى الأشخاص الذين يراقبون غش المكاييل أو الأسعار في الأسواق، وجعلوا منها مسؤولية يمنحها الحاكم لرجال دين ليقوموا بمراقبة أخلاق وتديّن المجتمع، حيث يقوم المحتسب بحثّ الناس على أداء عباداتهم ومحاربة البدع و"الرذائل" مثل اختلاط الرجال بالنساء، ويعمل على عدم "هتك مبادئ المجتمع المسلم وأعرافه وآدابه العامة"، لأنهم يخشون من أن اعتبار الخروج على هذه المبادئ حرية شخصية قد يسهل على العصاة إغراء الصالحين بسلوك نهجهم! وحتى يستطيع المحتسب القيام بواجبه على أكمل وجه عليه التجسس على سلوك الناس في الطرقات والأسواق وداخل منازلهم لمعرفة درجة التزامهم بالتعاليم الدينية.
ونتيجة لاقتناع هذا النوع من رجال الدين بأن هناك عقاب إلهي على من يشاهد المنكرات ولا يفعل شيئا لمنعها، فقد جعلوا وظيفة المحتسب متاحة للعموم، أي يحق لكل مسلم بل من واجبه مزاولتها، ولعب دور المدعي العام بالشكوى على من يخرج عن القواعد الاجتماعية والدينية السائدة، كما أن من صلاحياته اقتحام أي مكان يظهر فيه المنكر أو يهجر فيه المعروف ليقوم بواجب الأمر والنهي، بإزالة كل ما لا يتماشى مع الدين، وتنفيذ "الوعد والوعيد" وهو إنزال العذاب بالمخطئ.
وخلال العقود الماضية كشف هذا النمط من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن وجهه الحقيقي في إيران والسعودية، على يد الباسيج في الأولى والمطاوعين في الثانية. وهذه عبارة عن أجهزة أمن تلعب دور شرطة دينية وظيفتها مراقبة الناس في الأماكن العامة من ناحية المظهر كعدم تغطية النساء لشعرها أو وجهها بشكل محكم أو أن تكون زينتها ظاهرة بما فيها وضع عطر أو طلاء أظافر، أو أن تكون العباءة غير واسعة بحيث تظهر بعض معالم جسمها، وكذلك مراقبة من لم يذهب للصلاة لدفعه بالعصا إلى المسجد، والتجسس على الناس داخل بيوتهم خصوصا إذا خرج منها صوت موسيقى أو شوهد دخول رجال ونساء إليها، أو صدر منها رائحة توحي بمشروبات كحولية أو عدم الصيام في رمضان وغيرها لتقدّم الشكل الأكثر تشددا للرقابة على التفكير والسلوك ولزرع الخوف في قلوب الناس، لتوضّح إلى أي حد يمكن أن يتمادى رجال الدين المتطرفين في قمعهم بشكل لا يختلف أبدا عن ممارسات داعش والقاعدة.
قامت الحضارة الحديثة على حرية الإنسان في تفكيره ومعتقداته، التي تتماشى مع الآية 256 من سورة البقرة "لا إكراه في الدين"، وتتضمن هذه الحرية حسب المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان "حق أي فرد أو مجموعة بشرية في إظهار دينها أو معتقداتها وممارسة شعائرها بما فيها حرية تغيير الدين أو عدم إتباع أي دين"، والذي اعتمدته أغلبية دول العالم وكانت مصر وسوريا والعراق وإيران من أوائل الموقعين عليه.
وفي هذا العصر ليس مسموحا ضرب الأطفال أو الزوجات تحت أي ذريعة، ولا يحق لأي شخص أن يتجسس على محيطه ولا سؤال أي شخص عن درجة تدينه أو مدى التزامه بعباداته، ولم يعد مقبولا فرض قيود على الحرية الشخصية التي لا تلحق أذى بالآخرين، ومن حق الإنسان أن يؤمن بما يعطيه السكينة والسلام الداخلي، أي أن كل ما قام به دعاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلال العقود الماضية أصبح مرفوضا في عالم اليوم.
اقرأ للكاتب أيضا: أردوغان.. ازدواجية المعايير بين الأرمن والأويغور
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).