يُختصَر مفهوم من الحرية في يومنا الحالي بمسألة تنوع الخيارات.
كلما ازدادت إمكانياتنا على الاختيار نصف قُطْر، كلما خفت قيودنا، وتحسّنت فرصنا في اختيار الوظيفة ومكان السكن والسلع الشرائية وأنماط الحياة، وربما حتى شريك الحياة. كلما استطعنا أن نسافر أبعد، وأن نستهلك أكثر؛ بالتالي، كلما كنا أكثر حرية.
هذه هي بالضبط، الحرية المهيمنة بمعناها الشائع والمتداول في عالمنا المعاصر الحالي. لكن، هذا المفهوم "الكمي" للحرية، له مزالق ومشاكل كثيرة. إذ تصبح الطبيعة، وفقا لهذا المفهوم "الكمي" للحرية، عبارة عن ساحة من أجل تحقيق رغباتنا. وإذا حاولت الطبيعة أن تقاوم رغبتنا في تحقيق هذه الحرية الكمية، نقوم بترويضها وإخضاعها وإيذائها بالتكنولوجيا.
إذ كلما اشتدت الرغبة في زيادة الخيارات، زادت قبضة التحكم في البيئة والعالم، من أجل التقليل من "أثر البيئة المزعج". ولا يسوء الموقف من الطبيعة فحسب بسبب الحرية الكمية، بل يدمر حس التعاطف الإنساني أيضا، إذ أن الناس الذين يأتون إلى الغرب، من أجزاء أخرى من العالم، خاليي الوفاض، وفارغي الأيدي، هاربين من الحروب والأزمات، يصبحون في دول النموذج الكمي للحرية، مصدرا لتهديد محتمل لأنماط حياتهم ونزعاتهم الكمية.
ربما هذا ما يفسر، ولو بشكل جزئي، تركيز اليمين الصاعد حديثا في سياق وقوفه ضد الهجرة على "قيم الحرية"، إذ أن المقصود بها، غالبا، هو هذه الحرية الكمية بالذات، أي أنها عنصرية "الحرية الكمية". لذلك، فإن النضال من أجل الحرية الكمية المحضة يكون لدى أولئك الذي لا يسعون إلى الحرية بشكلها الحقيقي، وإنما لزيادة قدرتهم على تنويع الخيارات.
يؤكد الفيلسوف من جامعة تورينغن في ألمانيا، كلاوس ديريكس ماير، على أن الليبرالية مهددة في معقلها بـ"الموت الأخلاقي البارد". إذ أن أولئك الذين كانوا يدافعون عن القيم الليبرالية، أو ما يسميها ماير بـ"الحرية النوعية"، صاروا يتخلون عن الحرية النوعية (الليبرالية)، بمجرد أن تتحقق شبكة مصالحهم بشكل أفضل مع الحرية الكمية (النيوليبرالية).
ويشير ماير بأن مكمن الخطورة، هو في صعود أنظمة سياسية، وأنماط اجتماعية في الغرب، تقدم أهمية الحرية الكمية على الحرية النوعية. بل تنتصر لسيادة الأولى على حساب إهمال الثانية. وهذا بالضبط ما يسميه بـ"الموت الأخلاقي البارد".
ويكمل ماير بأن الحرية الكمية شديدة الفردية والأنانية، وهي مدمرة للبيئة وغير قادرة على التفكير في أفق إنساني أوسع، وهي فئوية وخاصة، ومن الممكن جدا أن تصبح سندا أيديولوجيا للأفكار القومية واليمينية، وهي تغرق الفرد في فوضى دوافعه وغرائزه بسبب لهاثه لإكثار الخيارات.
أما الحرية النوعية فهي تطلعية نحو مصير العالم أجمع، ومستقبل البشرية والبيئة، وهي متواضعة و"متقشفة" بل تسعى إلى تقليل الخيارات لتخفيف الاستهلاك والتحكم بحرقة غريزة الشراء، وبالتالي زيادة أعداد الأفراد المتنعمين بالحرية النوعية.
الحرية الكمية تتحول إلى هوية ضدية مغلقة، أما الحرية النوعية فهي عبء والتزام أخلاقي، وتسعى إلى كرامة الاستقلال الذاتي لكل فرد على سطح هذه الأرض.
السؤال الأساسي الحاسم حول فلسفة الحرية، هو ليس عدد الخيارات التي أمتلكها، بل هو عدد الأشخاص الذين يمتلكون بعدالة نفس الخيارات؛ حتى لو كان هؤلاء الأشخاص يعيشون في أمكنة بعيدة عنا.
فهل العالم الذي نعيش فيه يتجه حول انتشار هذه العدالة؟ النظرة إلى منطقتنا وبلداننا لا تبدو متفائلة. لربما يبادر أي منا إلى جواب سريع: النقاش الدائر في بلداننا لا يزال في مرحلة البحث عن الحرية، ولا ترف في التمييز بين حرية "نوعية" و"كمية". هذا صحيح في الشكل، لكن في المضمون، إن ما تقدمه الأنظمة المختلفة في بلداننا من خيارات ينحصر بين القمع الشديد وصولا إلى نوع من الحرية الكمية. حرية ترتبط بالاستهلاك لا بالقيم والخيارات السياسية والاجتماعية.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).