تسمية "الربيع العربي" العمومية، وانتقال عدواها من دولة عربية إلى أخرى، لا تصلح أن تكون دليلا دامغا في النقاش على التشابه بين الأنظمة والمجتمعات العربية. كما أن توصيف "الاستبداد"، وهو توصيف جامع فعلا، يصلح لوصف حال كل الأنظمة العربية، يكون أحيانا حاجبا للفروقات الجذرية بينها، ومدخلا للتهرب من التشريح التفريقي الدقيق بينها.
فرغم أن سوريا ومصر، تشاركتا "الربيع العربي" نفسه، وأناسها يعيشون تحت ظل نظامين توتاليتاريين، إلا أن النظام السوري في آلياته، والمجتمع السوري بتركيبته، يختلفان بشكل جوهري عن النظام والمجتمع المصريين. من نواحي الاختلاف، مثلا، شدة القمع الممارس، ودور الدولة في المسألة الطائفية، وعلاقة الأسرة الحاكمة مع الجيش، والتركيبة الاجتماعية الأهلية، وعمق الحريات الصحافية والإعلامية.
كما أن تونس، البلد الذي عاش التحول الأكثر أمانا والأقل دموية، تختلف أيضا عن سوريا ومصر (مكتسبات التجربة البورقيبية التحديثية، والاحتكاك المبكر مع الثقافة الغربية، ومؤسسة عسكرية وطنية إلى حد كبير، ووجود بنى نقابية مستقلة).
وجدير هنا بالذكر، بأن الثورة البحرينية، لم تتنفس كثيرا، وخنقت بسرعة، بسبب ضعف التعاطف الشعبي العربي معها، وهذا يعود باعتقادي، إلى تأثر المزاج العربي نفسه، بصخب ما يسمى بالنزاع الشيعي ـ السني، والـ"شيعوفوبيا" السائدة والممولة خليجيا، إذ إن شيعة البحرين كانوا العصب الأساسي للحركات الاحتجاجية في المملكة. كما أن التدخل العسكري السعودي ساهم بشكل أساسي في إسكات وقمع تلك الحركة الاحتجاجية المحقة.
أما في اليمن، فتعثر مسار الثورة والتحول الديمقراطي، وصار اليمن ساحة مفتوحة للنزاع السعودي ـ الإيراني.
وبالتالي، نستطيع أن نتحدث عن ثلاث مراحل أساسية من مراحل "الربيع العربي"، في كل الدول العربية، منذ اندلاعه عام 2011، وحتى هذه اللحظة، في مصر وسوريا واليمن وليبيا، وهي: أولا، مرحلة الشباب والأفكار الليبرالية؛ وثانيا، مرحلة صعود الإسلام السياسي؛ وثالثا، مرحلة الثورة المضادة وعودة النظام القديم. علما أن هذا التعميم يحتوي على الكثير من التبسيط القاتل للفروقات، والعابر للسياقات.
أولا، مرحلة الشباب والأفكار الليبرالية
في كل دول ثورات "الربيع العربي"، من خرجوا أولا إلى الشوارع هم شبان وشابات ينحدرون من مختلف الطبقات الاجتماعية والأصول الأهلية الإثنية والطائفية والمدن، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة. إلا أن نسبة جيدة من هؤلاء الشباب، تنحدر من الطبقة الوسطى المتعلمة، وامتازت بدرجة معقولة من الثقافة والتحصيل الجامعي.
ورغم أهمية النقاش حول إذا ما كانت ثورات "الربيع العربي"، ثورات خبز أم ثورات كرامة، وهو النقاش الذي يخوضه ماركسيون ويساريون، يريدون حصر دوافع الاحتجاج كتمثل مباشر من تمثلات الصراع الطبقي في إهمال معطى الحريات السياسية من جهة؛ والليبراليون الذين يختصرون الأمر برمته بسعي الشعوب نحو الديمقراطية، دون أخذ مسألة العدالة الاجتماعية بعين الاعتبار من جهة أخرى؛ إلا أنها كانت ثورات ذات مطالب مركبة "عيش" و"حرية" في مصر، و"خبز" و"كرامة" في سوريا، ولا يمكن اختصار دوافعها في سبب واحد.
تمكن شبان المرحلة الأولى من صياغة وبلورة خطاب، ليس صعبا ملاحظة تأثره بالخطاب الليبرالي الغربي الحديث، كالتركيز على الحريات السياسية، وإبعاد العسكر عن السياسة، وإطلاق سراح المعتقلين، والسماح بالحريات الصحافية والإعلامية، والتوزيع العادل للثروة. طبعا مع الخجل والتحسب من المطالبة بدولة علمانية بسبب سوء سمعة هذا المفهوم في العالم العربي، واقترانه بالإلحاد وأيديولوجية السلطات العسكرية الرسمية العربية التي حكمت المنطقة بعد الاستقلال.
إلا أن ثمة عطب بنيوي، حال دون تحول هؤلاء الشباب إلى قوى سياسية قادرة على المنافسة في اللحظة الانتخابية. مقتل المرحلة الشبابية في "الربيع العربي"، باعتقادي، هو تقديس الوعي النضالي واللحظة الثورية، كوعي أخلاقي طهراني متعال على السياسة، لا يجب تدنيسه في العمل السياسي الحزبي والتنظيمي الأيديولوجي المباشر. ولأن اللحظة الثورية هي لحظة انفعالية وارتجالية ومباغتة، واللحظة الانتخابية هي لحظة حسابية وعقلانية وتراكمية، فإن هذا يفسر، جزئيا، غياب الشباب عن اللحظة الانتخابية، وهيمنة التيارات السياسية التقليدية، أي الإسلام السياسي من جهة، والأحزاب التي تعبر عن مصالح النظام القديم، وفئاته الاجتماعية من جهة أخرى، على تلك اللحظة.
ما ميّز المرحلة الشبابيّة أيضا، هو الطابع السلمي للاحتجاجات وغياب التدخلات الإقليمية والدولية إلى حد كبير، وهيمنة الخطاب الوطني الجامع الذي يتعالى على الحساسيات الطائفية والقبلية والجهوية والإثنية، وتردد وغياب حركات الإسلام السياسي عن المشاركة. الإخوان المسلمون السوريون والمصريون مثلا، لم يعلنوا موقفا واضحا وصريحا من الثورتين السورية والمصرية في مراحلها الأولى. انتهت المرحلة الشبابية من "الربيع العربي"، وصار رموزها إما في المقابر أو السجون أو المنافي.
ثانيا: مرحلة صعود الإسلام السياسي
قامت الأنظمة الاستبدادية العربية، أنظمة ما بعد الاستقلال، بإفراغ كل المجتمعات العربية من السياسة، مع ضرورة التنويه إلى تفاوت سوء الوضع من دولة عربية إلى أخرى. وبالتالي، فإن الطاقة الاحتجاجية التعبوية الوحيدة، التي استطاعت أن تلعب دورا سياسيا، كانت طاقة حركات الإسلام السياسي بكافة تشكيلاتها.
وقد صعدت هذه الحركات السياسية الإسلامية الحديثة، بسبب الطفرة النفطية في دول الخليج، وتصدير الوهابية السياسية علنا في فترة النزاع الأفغاني ـ السوفييتي، إذ كانت الوهابية "طاقة ثورية" كما كان يقول، بريجنسكي، مستشار الأمن القومي لدى الرئيس الأميركي جيمي كارتر. إضافة إلى التأثير الإقليمي المدوي لاندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، وبناء الأصولية الإسلامية الشيعية نظام حكم ثيوقراطي في إيران. إضافة، بالطبع، إلى انهيار المشروع القومي العربي واليساري. إذ لعبت هزيمة يونيو 1967 دورا أساسيا في تشييعه.
بقيت الحركات الإسلامية الطاقة الاحتجاجية الاعتراضية الأكثر تنظيما في كل من مصر وسوريا وتونس. ذروة الصعود الإسلامي، تجسدت بوصول حركة الإخوان المسلمين المصريين إلى السلطة بانتخابات ديمقراطية، في 24 يونيو في عام 2012، وتقلد محمد مرسي منصب رئيس البلاد.
وتزامنت هذه الفترة من صعود الإسلام السياسي بـ"نزعة أوبامية" ما بعد حداثية في السياسة. هذه النزعة هي امتداد للفكر الفلسفي المنتشر في أجواء أوساط واسعة من اليساري الليبرالي الهوياتي في الولايات المتحدة الأميركية، والذي يرى حكم حركات الإسلام السياسي ضربا من ضروب "الخصوصية الثقافية" و"هويات تحتية تعبر عن نفسها". ساد أمل بأن تتمكن حركات الإسلام السياسي العربية من تقليد تجربة حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، والذي صنع نهضة تنموية اقتصادية شاملة في تركيا، والتزم، إلى حد مقبول، بمبادئ اللعبة الديمقراطية التركية. لكن شره السلطة وقلة النقد الذاتي الإيديولوجي والتصلب العقيدي، وعدم وجود برنامج اقتصادي واضح لمصر، بالإضافة إلى غياب المشروع السياسي وبروز المشروع الاجتماعي الذي يدور فقط حول حصر الحريات الفردية عموما وحريات المرأة بشكل خاص لدى الإخوان المسلمين المصريين، أدى إلى تنامي سخط شعبي ضد تجربة الإخوان المسلمين في الحكم.
وفي 3 يوليو من عام 2013، ونتيجة تحرك اجتماعي واسع ضد "الإخوان"، استغل الجيش المصري والنظام القديم هذا الاحتجاج للقيام بانقلاب عسكري ضد الرئيس محمد مرسي الذي زُجَّ في السجن، وبدأت مصر حقبة دخول الثورة المضادة.
في سوريا، تذرى الإسلام السياسي بين إسلام إخواني وقاعدي وسلفي وجهادي وداعشي. وصارت هذه المجموعات الإسلامية مداخل للدول الإقليمية، كدول الخليج وتركيا من أجل التحكم بالشأن السوري، ولعب دور سياسي في سوريا التي تحولت إلى ساحة نزاع إقليمية شرسة، أدت إلى مئات آلاف القتلى، ولجوء أكثر من نصف الشعب السوري إلى خارج البلاد، ودمار البنية التحتية.
في تونس، الحالة مختلفة إلى حد كبير، إذ استطاعت حركة النهضة التونسية أن تضبط نفسها داخل إيقاع الوطنية التونسية، واللعبة الديمقراطية الداخلية. وفضلت مصلحة البلاد العامة على المصلحة الحزبية الخاصة. وخاض رئيس الحزب، راشد الغنوشي، مجموعة من التسويات والمساومات مع مختلف القوى السياسية التونسية، الأمر الذي أدى إلى استقرار نسبي في التجربة.
نستطيع أن نعتبر لحظة الانقلاب العسكري في مصر هي لحظة انتهاء مرحلة الإسلام السياسي في الربيع العربي، وبدء مرحلة الثورة المضادة وعودة النظام القديم.
وقد ارتاحت الدول الغربية إلى عودة النظام القديم، بسبب الأعداد الهائلة من اللاجئين الذين غزوا أوروبا، وتهديد النظام الليبرالي الديمقراطي في معقله بصعود الحركات الشعبويات اليمينية القومية. وسادت إيديولوجية الاستقرار والأمن ومحاربة الإرهاب، مكان أفكار التغيير والديمقراطية لدى النخب الغربية، الأوروبية منها والأميركية.
ثالثا: مرحلة الثورة المضادة
ثمة تحالف ثلاثي يمثل مرحلة الثورة المضادة، وعودة النظام القديم، أطرافه هي الإمارات العربية المتحدة بقيادة محمد بن زايد، والمملكة العربية السعودية بقيادة محمد بن سلمان، ومصر بقيادة عبد الفتاح السياسي. لهذا التحالف السياسي أذرع إقليمية، هي محمد دحلان في الساحة الفلسطينية، وجيش خليفة حفتر (رفيق معمر القذافي في "الثورة" على النظام الملكي الليبي عام 1969) في ليبيا.
لهذا التحالف، أيضا، أجندة سياسية واضحة في المنطقة، وهي قمع أي محاولة احتجاجية تكون امتدادا لثورات الربيع العربي، وقيادة مسار تطبيع تدريجي مع إسرائيل، والترويج لصفقة سلام في الساحة الفلسطينية وهي صفقة قد تتضمن تصفية القضية الفلسطينية، وإعادة تدوير نظام بشار الأسد في المجتمع الدولي (أعادت الإمارات فتح سفارتها في سوريا في 27 كانون الأول من العام الماضي)، والتفاوض معه من أجل تخفيف النفوذ الإيراني في سوريا، والاستمرار في محاربة حركات الإسلام السياسي في المنطقة.
ظهرت النواة الصلبة لهذا التحالف بشكل واضح في جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في 2 أكتوبر من عام 2018. عناصر الثورة المضادة يحاولون الانقضاض على كل مكتسبات الربيع العربي.
هل فشل الربيع العربي؟
أعتقد بأن هذا السؤال غير دقيق، خصوصا بعد نشوب موجة احتجاجات جدية على نطاق واسع في السودان ضد حكم حسن البشير، بالإضافة إلى تظاهرات في الجزائر ضد حكم بوتفليقة. تعثّرت هذه الجولة في التغيير، ولكن التاريخ ليس جولة واحدة فقط. ومهما كان "العقل متشائما"، فإن ثمة "تفاؤلا بالإرادة"، كما قال غرامشي.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).