Logos

أصوات مغاربية الآن علي موقع الحرة

اضغط. هنا لزيارة موقع الحرة

كتاب صحيح البخاري
كتاب صحيح البخاري

محمد المحمود/

على امتداد القرنين: الأول والثاني للهجرة؛ كانت الأحاديث النبوي تُروى شفهيا بلا قيد ولا شرط، إلا الثقة الشخصية المتحيّزة بين هذا الراوي وذاك، وكانت كل فرقة تبتكر لنفسها من الأحاديث ما يعزز موقفها ويشرعن خياراتها الفكرية/ العقائدية، وكانت التيارات السياسية تفعل مثل ذلك وأكثر، مما لا يستع المجال لتفصيله، بل وكان الأفراد يبتكرون أحاديث لحساباتهم الخاصة، استجابة لدوافع متنوعة؛ حتى تضخمت الأحاديث من العشرات إلى مئات الألوف، ويكفي أن نتذكر أن البخاري ـ وفق ما يذكر مدونو سيرته امتداحا له ـ اختار صحيحه (سبعة آلاف حديث تقريبا) من (600،000 حديث تقريبا)، أي أن البخاري ـ رحمه الله ـ اختار 1 في المئة من الأحاديث التي كان يحفظها ليضعها في كتابه بوصفها أحاديث صحيحة السند عن الرسول. ويعني هذا أيضا أن هناك (593،000 حديث تقريبا) حفظها البخاري ولكنه لم يرها جديرة بأن ترقى لمرتبة الصحيح.

هذا بلا شك يعكس مستوى الفوضى النقلية العارمة التي استمرت لأكثر من قرنين، والتي كان البخاري وغيره من كبار المحدثين يحاولون ـ وفق قدراتهم الخاصة آنذاك، ووفق تحيزاتهم الخاصة أيضا ـ لملمت أطرافها، والحد من كارثيتها التي كانت تتضخم مع كل يوم من أيام ذلك العصر المتخم بالصراع على المقدس (لأن من يملك الديني/ المقدس؛ يملك الدنيوي/ المدنس!). كان الزمن ينتج كل يوم أحاديث شتى، معقولة وغير معقولة، تنبت على أطراف ألسنة المحدثين ورواة السير والقصاصين وحماة العقائد المناضلين والزعماء السياسيين؛ فضلا عن الحانقين على الدين الجديد المنتصر، الذي أعاد ترتيب الواقع؛ فوجد كثيرون أنهم في عداد الخاسرين.

الإسلام ونبي الإسلام ومستقبل المسلمين أهم من بقاء معصومية البخاري؛ لو يعقل التقليديون المتعصبون!

​​كان الفقهاء وكبار رجال الدين المعنيون بالشأن الديني قلقون من هذه الفوضى العارمة التي تكاد تعصف بمصداقية خطابهم من أساسه، تلك الفوضى المرتبطة بالطابع الشفاهي للرواية. ولهذا كان يستقبلون كل جهد تدويني توثيقي بكثير التأييد (طبعا، كل فرقة تعزز وتؤيد المدونات التي تدعم وجهة نظرها، فلا وجود لتوثيق محايد)؛ لأن هذا سيمكنهم من صناعة مرجعية مكتوبة يحيلون إليها دينيا، ويحتكمون إليها عند النزاع. ولم يكن احتفاؤهم بكتاب/ صحيح البخاري أو كتاب/ صحيح مسلم يخرج عن هذا السياق، إذ هما قد قاما ـ بمنطق التوثيق غير المعلن ـ بتأطير وجهة نظر التيار الذي يمثلونه، وكان من الطبيعي أن يعمد هذا التيار إلى ترفيع هذا الجهد إلى درجة العصمة؛ ليعصم مقولاته التي كانت تفتقد إلى الحسم في النص القرآني.

لهذا استمر صحيح البخاري يحصد جوائز السبق، ويكتسب مزيدا من القداسة بمرور الوقت. صحيح أن رفقاءه في الدرب، بل وبعض شيوخه، صعب عليهم أن يظفر بهذا المجد وحده، إلى درجة أن بعضهم رماه بالبدعة ودعا لعدم الأخذ عنه بكل صراحة وحزم. لكن، مع اختفاء الجيل المنافس من جهة، وانتهاء دواعي المنافسة بموته هو من جهة أخرى، اتجه التيار الأثري الذي كان يمثله إلى ترفيع الكتاب ليكون ـ كما يؤكدون ـ أوثق كتاب بعد كتاب الله/ القرآن.

في ظل الصراعات العقائدية والفقهية التي شهدها التاريخ القروسطي الإسلامي، كانت درجة قداسة الكتب الحديثية تتصاعد، وبخاصة "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم"، وحاول كبار رجال الدين طوال ذلك التاريخ صناعة إجماع عليهما داخل المذهب السني، وقد تحقق لهما ما أرادوا إلى حد ما؛ فبات إخضاعهما للنقد (النقد الحقيقي، وليس النقد التبجيلي) يعد نوعا من الهرطقة التي تنتهي بصاحبها إلى النبذ؛ ليجد نفسه خارج نطاق المشروعية التي ينتمي إليها بحكم الولادة والنشأة والبيئة الاجتماعية التي تضع حدود الإمكانيات، وتحدد مساراتها.

أيا كان الأمر، تأسست هذه القداسة وازدهرت، ولعل من الملفت للنظر أنها تصاعدت إلى درجة خرافية في عصور الانحطاط (ما بين 600هـ ـ 1300هـ) حتى بدأ الناس يتبركون بتلاوة صحيح البخاري أكثر مما يتبركون بتلاوة القرآن، وأصبح الحلف على صحيح البخاري من أوثق الأيمان، فقد يكذب العامي إن حلف بالقرآن، ولكنه يرتعد ولا يستطيع الكذب إن حلف بالبخاري، وكانت البوارج العثمانية تقرأه قبل مغادرتها الموانئ ليحفظها الله ببركته، وأصبح من يُلام على خطأ ما؛ يقول معتذرا عن خطئه: ماذا في ذاك؛ هل أخطأت في البخاري؟...إلخ تمظهرات التقديس الغالي.

لكن، بانفتاح آفاق العقل المسلم نسبيا؛ نتيجة تأثره بالتطورات المعرفية المعاصرة؛ بدأ صرح هذه القداسة يتصدع، حتى عند بعض أولئك الذين ينتمون ـ بشكل أو بآخر ـ إلى التيار السلفي. فمثلا، وجدنا الباحث السلفي/ رشيد رضا يشير إلى أنه ما من مذهب فقهي إلا وأهله يتركون العمل ببعض ما في البخاري ومسلم، وأن هذه القداسة للبخاري ومسلم متأخرة، وكان رشيد رضا من أوائل من نبه إلى ما اعترى منهج المحدثين القدامى من خلل حين ركزوا نقدهم على السند دون المتن، وبناء عليه نقد الحديث الوارد في البخاري أن الشمس تذهب لتسجد تحت العرش (الحديث النبوي، محمد حمزة، ص210/222).

كان البخاري في زمنه محل أخذ ورد، وكذلك مسلم؛ فضلا عن غيرهما

​​إن الذهنية التقليدية المعاصرة لا تطيق تجاوز مسلماتها التي تأسست بفعل عوامل تاريخية بشرية؛ لا علاقة لها بالمتعالي. إنها تقدس ما قدّسه التاريخ/ تاريخها القريب، دونما نظر إلى مراحل تطور هذا المقدس في تاريخها البعيد. فإذا كان متوقعا منها أن تزوّر عن الانتقادات المعاصرة لبعض ما في هذه الكتب المصححة، وتعدها عدوانا على تراثها الديني الخاص، فإن الغريب أنها لا تعرف، وإن عرفت؛ لا تعترف، بالانتقادات التي وجهها كبار شيوخ الحديث في القديم لهذه الكتب قبل أن تكتسب قداستها التي وصلت بها ـ الوعي العام/ العامي ـ إلى مرتبة الاجتهاد المعصوم.

لقد كان البخاري في زمنه محل أخذ ورد، وكذلك مسلم؛ فضلا عن غيرهما. لم يكن الجميع يسلم للبخاري بالمجد الذي أصبح فيما بعد علما عليه. يذكر الباحث المغربي/ رشيد أيلال في كتابه (صحيح البخاري، نهاية أسطورة، ص146/147) أخبارا كثيرة في هذا المضمار، فمنها ما ينقله عن الذهبي أن أبا زرعة وأبا حاتم (وهما من كبار المحدثين زمن البخاري) تركا حديث البخاري عندما كتب لهما محمد بن يحي الذهلي أن البخاري أظهر بنيسابور أن لفظ القرآن مخلوق. فالذهلي هنا ـ وهو موثوق عند كبار المحدثين ـ يتهم البخاري في عقيدته. وأبو زرعة قال عن البخاري ومسلم بعد تأليفهما كتابيهما: هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه فعملوا شيئا يتسوقون به ألفوا كتابا لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رئاسة قبل وقتها. وهنا تظهر طبيعة التنافس بين الأقران، حتى داخل التيار الواحد، فالدوافع ليست في كل الأحوال علمية ومحايدة، وإنما يدخلها ويتقاطع معها كثير من الدوافع الذاتية التي قد لا تكون واضحة لأصحابها في كل الأحوال.

إن هذه الانتقادات ـ وأمثالها كثير ـ التي وجّهها معاصرو البخاري له؛ أيا كانت دوافعها وأهدافها، تنفي الإجماع المزعوم على صحة كل ما في البخاري؛ خاصة وأنها صدرت من رموز معتبرة في التراث النقلي، بل إن بعضهم من شيوخ البخاري ومسلم، ويتأكد هذا النفي بالنظر إلى بعض ما قاله أعلام الفكر المعاصر، الذين وإن أقروا بالجهد الكبير الذي بذله كل من البخاري ومسلم، إلا أنهم وضعوا ذلك في سياقه الطبيعي كجهد بشري قابل للإصابة، كما هو قابل للخطأ، وأن تكريم النبي الأعظم ـ ص ـ يستلزم التوقف عند كثير من أحاديث البخاري لمراجعتها، ولن يستطيع أي عاقل ـ مهما كانت تقليديته ـ تصحيح أحاديث تُناقض أبجديات التعقل الإنساني، كحديث أن "الفأر أمة من بني إسرائيل"، وحديث أن الشمس إذا غربت تذهب لتسجد تحت العرش، وحديث أن القردة اجتمعت على قِرْدة فرجمتها لأنها زنت وهي متزوجة، وأن الأشجار تتحدث؛ تسلم وترد السلام...إلخ، فالإسلام ونبي الإسلام ومستقبل المسلمين أهم من بقاء معصومية البخاري؛ لو يعقل التقليديون المتعصبون!.

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

مواضيع ذات صلة

Tunisians queue outside a polling station to cast their votes during the presidential elections, in the capital Tunis, Tunisia,…
يترقب التونسيون نسبة المشاركة النهائية في الرئاسيات

أغلقت مراكز الاقتراع في تونس أبوابها في الساعة السادسة مساء، اليوم الأحد، تمهيدا ببدء عملية فرز الأصوات.

وكان رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بتونس، فاروق بوعسكر، في ثاني مؤتمر صحافي خلال يوم الاقتراع، كشف أن نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية في الخارج بلغت 10 بالمئة، حتى الساعة الواحدة ظهرا.

وأفاد بوعسكر أن عدد المصوتين في الخارج وصل إلى 64 ألفا و315 ناخبا.

 

وكان رئيس هيئة الانتخابات أعلن، في مؤتمر صحافي قبل الأخير، أن نسبة المشاركة في الرئاسيات بلغت 14.16 في المئة إلى حدود الساعة الواحدة زوالا بالتوقيت المحلي.

وأفاد بأن عدد المصوتين داخل تونس وصل إلى مليون و381 ألفا و176 ناخبا حتى حدود الواحدة زوالا.

معطيات الرئاسيات

وشرع التونسيون الأحد في انتخاب رئيسهم الجديد من بين ثلاثة مرشحين يتقدّمهم الرئيس المنتهية ولايته قيس سعيّد، في أعقاب حملة انتخابية غاب عنها حماس التونسيين بسبب الصعوبات الاقتصادية.

وبدأ الناخبون المسجلون البالغ عددهم 9,7 ملايين، الإدلاء بأصواتهم في الساعة الثامنة صباحا (7,00 ت.غ) في أكثر من خمسة آلاف مركز لاختيار رئيسهم للسنوات الخمس المقبلة، على أن تستمر عمليات التصويت حتى الساعة السادسة مساء بالتوقيت المحلي، وفقا لهيئة الانتخابات.

ومن المنتظر أن تعلن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات النتائج الأولية "على أقصى تقدير" الأربعاء المقبل، وتظلّ إمكانية الإعلان عن النتائج قبل هذا التاريخ واردة.

ويتنافس سعيّد (66 عاما) مع النائب السابق زهير المغزاوي (59 عاما)، والعياشي زمال، رجل الأعمال والمهندس البالغ من العمر 47 عاما والمسجون بتهم "تزوير" تواقيع تزكيات.

ولا يزال سعيّد، الذي انتُخب بما يقرب من 73% من الأصوات (و58% من نسبة المشاركة) في العام 2019، يتمتّع بشعبية لدى التونسيين حتى بعد أن قرّر احتكار السلطات وحلّ البرلمان وغيّر الدستور بين عامي 2021 و2022.

وبعد مرور خمس سنوات من الحكم، يتعرّض سعيّد لانتقادات شديدة من معارضين ومن منظمات المجتمع المدني، لأنه كرّس الكثير من الجهد والوقت لتصفية الحسابات مع خصومه، وخصوصا حزب النهضة الإسلامي المحافظ الذي هيمن على الحياة السياسية خلال السنوات العشر من التحوّل الديموقراطي التي أعقبت الإطاحة بالرئيس بن علي في العام 2011.

وتندّد المعارضة، التي يقبع أبرز زعمائها في السجون ومنظمات غير حكومية تونسية وأجنبية، بـ"الانجراف السلطوي" في بلد مهد ما سمّي "الربيع العربي"، من خلال "تسليط الرقابة على القضاء والصحافة والتضييق على منظمات المجتمع المدني واعتقال نقابيين وناشطين وإعلاميين"، وفقها.

ويرى الخبير في منظمة "الأزمات الدولية" مايكل العيّاري أن "نسبة المقاطعة ستكون على ما يبدو كبيرة"، على غرار ما حصل في الانتخابات التشريعية التي جرت في نهاية العام 2022 وبداية 2023، والتي بلغت نسبة المشاركة خلالها 11,7% فقط.

ويشير إلى أن "المواطنين ليسوا متحمسين للغاية لهذه الانتخابات، ويخشى الكثيرون من أن ولاية جديدة لقيس سعيّد لن تؤدي إلا إلى تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي والانجراف الاستبدادي للنظام".

وفي خطاب ألقاه الخميس، دعا سعيّد التونسيين إلى "موعد مع التاريخ"، قائلا "لا تتردوا لحظة واحدة في الإقبال بكثافة على المشاركة في الانتخابات"، لأنه "سيبدأ العبور، فهبّوا جميعا إلى صناديق الاقتراع لبناء جديد".

حملة هادئة

في الطرف المقابل، حذّر الجمعة رمزي الجبابلي، مدير حملة العياشي زمال، في مؤتمر صحافي "في رسالة موجهة إلى هيئة الانتخابات إيّاكم والعبث بصوت التونسيين".

وكانت الحملة الانتخابية باهتة دون اجتماعات أو إعلانات انتخابية أو ملصقات، ولا مناظرات تلفزيونية بين المرشحين مثلما كان عليه الحال في العام 2019.

ويعتقد العيّاري أن الرئيس سعيّد "وجّه" عملية التصويت لصالحه "ويعتقد أنه يجب أن يفوز في الانتخابات"، حتى لو دعت المعارضة اليسارية والشخصيات المقربة من حزب النهضة إلى التصويت لصالح زمال.

أما المنافس الثالث فهو زهير المغزاوي، رافع شعار السيادة السياسية والاقتصادية على غرار الرئيس، وكان من بين الذين دعموا قرارات سعيّد في احتكار السلطات.

وتعرّضت عملية قبول ملفات المرشحين للانتخابات من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لانتقادات شديدة وصلت الى حدّ اتهامها بالانحياز الكامل لصالح سعيّد حين رفضت قرارا قضائيا بإعادة قبول مرشحين معارضين بارزين في السباق الانتخابي.  

وتظاهر مئات التونسيين في العاصمة تونس الجمعة للتنديد بـ"القمع المتزايد". 

وطالب المتظاهرون في شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي في العاصمة بإنهاء حكم سعيّد، وسط حضور أمني كثيف.

وتشير إحصاءات منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى أن "أكثر من 170 شخصا هم بالفعل محتجزون لدوافع سياسية او لممارسة الحقوق الأساسية" في تونس.

 

المصدر: وكالات