استطاعت تونس أن تنحت قصة نجاح وتميز بعد ثورة الياسمين عام 2011، وربما تكون تونس النموذج الوحيد في العالم العربي من البلدان التي شهدت ثورات "الربيع العربي" الذي لم يقع أسير ردة وفوضى وعودة إلى عهد ما قبل الثورة.
رغم قصص النجاح التي سجلتها تونس حتى اعتبرتها منظمة "فريدم هاوس" الأميركية في مؤشرها العالمي الدولة العربية الوحيدة "الحرة" والديمقراطية، فإن ذلك لا يخفي أصوات الغضب في الشارع من أزمة اقتصادية متناسلة أوجعت الناس، وزادت من معدلات الفقر والبطالة، ومست حياتهم المعيشية، وباتت ككرة الثلج تتدحرج وتكبر ولا يمكن إيقافها، ومؤذنة بانفجار وشيك.
تونس تغيرت بعد الثورة، هذه حقيقة دامغة لا يمكن نكرانها. وحقبة الرئيس الأسبق بن علي التي اتسمت بقبضة أمنية شديدة ولت إلى غير عودة. ومن يعرف تونس قبل الثورة وبعدها، يدرك أن أكبر، وأهم مكسب للتونسيين لا يمكن أن يتخلوا عنه هو امتلاكهم لحريتهم.
الأزمة الاقتصادية التي توجع الناس بالشارع يمكن تلمسها ببساطة بسؤال المواطنين عن حياتهم اليومية، وتسمع مرّ الشكوى عن غلاء فاحش لم يعرفوه إبان الحُكم السابق، يبدؤون بسرد قصصهم البسيطة ويسألونك هل تعرف كم سعر كيلو الطماطم والفلفل؟
قد يستغرب البعض التركيز على الطماطم (البندورة) والفلفل تحديدا، ولكن تترك حالة الاستغراب إذا عرفت أن أهم مكون على مائدة التونسيين في كل وقت وكل يوم "الهريسة"، وهي مصنوعة من الطماطم والفلفل الحار وتُسمى بدول المشرق العربي "الشطة".
لا تريد أن تسمع باقي الشكوى عن أسعار اللحوم والأسماك حتى يزول الذهول أن الأزمة الاقتصادية ضاربة، وأن تزايد مديونية تونس، ودخولها في مفاوضات اقتصادية للاقتراض مع صندوق النقد والبنك الدولي يلقي بتداعياته السياسية على المجتمع، وحتى على القوى السياسية التي تحكم.
لم تتعاف تونس من إرهاب منظم ضربها، وأضر بأهم مصادر دخلها الوطني وهي السياحة، ففي السنوات الماضية تعرضت لسلسة عمليات إرهابية بدأت بعملية إرهابية في مدينة سوسة الساحلية، وامتد الإرهاب بعد ذلك إلى متحف باردو بالعاصمة، وآخر هذه المآسي ما حدث بمهاجمة باص يُقل الأمن التونسي في شارع الحبيب بورقيبة.
العمليات الإرهابية لم تضعضع السياحة في تونس فقط، وإنما أشعلت عاصفة سياسية حين استهدف الإرهاب زعيمين سياسيين بارزين هما شكري بلعيد ومحمد البراهمي، المحسوبين على التيار الديمقراطي العلماني، وهو ما دفع البعض إلى توجيه اتهامات قاسية إلى حزب "النهضة" بأن "تنظيمه السري" وراء اغتيال المعارضين السياسيين، وهي اتهامات لم تثبت حين ظهر أن وراء الاغتيالين جماعات سلفية إرهابية؛ ولكن هذا فاقم الأزمة السياسية وعجل برحيل الحكومة التي كان يقودها حزب "النهضة".
السؤال المقلق في تونس الآن ماذا ينتظر ويخبئ المستقبل لأهلها، بعد أن اقتربت المواعيد للانتخابات البرلمانية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام 2019، ويتبعها بشهر أي في شهر تشرين الثاني/نوفمبر انتخابات رئاسة الجمهورية؟
وفي التفاصيل هناك كثير من الأسئلة التي تحتاج لإجابات، في وقت تشهد تونس تقلبات وعدم استقرار سياسي، ولا تظهر حتى الآن خارطة التحالفات، وهو ما دفعني لمقابلة والاستماع بإصغاء إلى وزيرين بالحكومة هما إياد الدهماني المكلف بالعلاقة مع مجلس الشعب والناطق الرسمي باسم الحكومة، ومحمد فاضل محفوظ المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان لعلهما يساعدان في استقراء معالم المرحلة المقبلة.
أكثر ما هو متفق عليه أن حزب "النهضة" كان وما زال منذ بداية الثورة لاعبا رئيسيا لا يمكن استبعاده أو القفز فوق دوره، وهو المرشح بالانتخابات القادمة أن يحافظ على مكانته وحصته من مقاعد البرلمان، فالجميع، المعارضين له قبل المؤيدين يقرون أن صفوفه موحدة، وأنه يستميل أصواتا جديدة من خارج أطره الملتزمة، والأهم أنه قادر على تقديم شخصيات قيادية جديدة، وقادر على تجديد نفسه لتتواءم مع استحقاقات المرحلة مهما كان شكلها وظروفها.
الأمر الثاني المتفق عليه عند وزراء في الحكومة، وسياسيين وإعلاميين أن هناك ضرورة لتوحيد ما يسمى "العائلة الديمقراطية"، وأن إعادة استنساخ تجربة "نداء تونس" التي حصدت الأكثرية بمقاعد البرلمان في انتخابات 2014، وتفوقت على حزب "النهضة" الإسلامي تحتاج إلى منقذ ورمز وقائد جديد على غرار رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي.
هذه القناعة بضرورة وحدة "العائلة الديمقراطية" في هذه المرحلة تأتي بعد تداعيات وانهيارات شهدها حزب "نداء تونس". ترى أصوات منتقدة أن "نداء تونس" انهار، ويحمّلون المسؤولية إلى حافظ السبسي نجل رئيس الجمهورية مؤسس الحزب، ويزعمون أنه لم يُثبت جدارة وكفاءة في قيادة الحزب.
رهانات التيار الديمقراطي في تونس تتلخص بأن يعلن الباجي قايد السبسي في القريب العاجل عدم نيته للترشح لرئاسة الجمهورية في الانتخابات القادمة، ويقدم للجمهور شخصية قيادية موحدة، تجمع كل الأطياف الديمقراطية في جبهة واحدة مضادة لحزب "النهضة" في الانتخابات، لأن هذه هي الفرصة الوحيدة لهم ليكونوا قادرين على قيادة المرحلة القادمة، أو على الأقل ليكوّنوا "كتلة" سياسية وازنة لا يمكن استبعادها عند صناعة مرحلة ما بعد الانتخابات.
سيناريوهات كثيرة تُبحث في تونس بين الديمقراطيين، وأسماء تتداول لشخصيات قد تكون مرشحة للقيادة سواء لرئاسة الحكومة أو رئاسة الجمهورية، والمتيقن منه أن تونس تسير على "رمال متحركة"، وأن الأشهر المقبلة، وخصوصا رمضان، ستشهد سجالات ومفاجآت، وقد يبرز اسم الزعيم الذي سيترشح لرئاسة الجمهورية من طرف الحداثيين "الديمقراطيين" ـ ربما يكون من وسطهم، وقد يكون مستقلا ويحظى بـ "كاريزما" تساعد على تقدم الصفوف ـ مقابل احتمالات أن يطرح حزب "النهضة" مرشحا لهذا المنصب وعلى الغالب سيكون من خارج حزبه، وكما قال لي أحد الإعلاميين البارزين حزب النهضة يقود "العربة من الخلف"؛ وهذا يعني أن النهضة لا يريد أن يتصدر المشهد ويكون بالواجهة، فالتجربة السابقة، والظروف الإقليمية والدولية قد لا تساعد على ذلك، ولكن حزب النهضة، هو الشريك الأقوى والمؤثر في الحكم.
رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد، الذي ولد من رحم حزب "نداء تونس"، وقدمه الباجي قايد السبسي كمرشح له، أصبح الآن لاعبا رئيسيا يرشحه مراقبون أن يكون الأقوى لرئاسة حكومة ما بعد الانتخابات.
الشاهد الآن يقف خارج "نداء تونس" بعد أن انشق عنه، وأسس حزب "تحيا تونس"، وتتحالف حكومته مع "النهضة" وحزب "مشروع تونس" الخارج أيضا عن "نداء تونس" ويقوده السياسي المخضرم محسن مرزوق، ولا يُعرف حتى الآن كيف سيخوض الشاهد معركته الانتخابية، هل سيكون جزءا من ائتلاف للقوى الديمقراطية أم تستمر "علاقة الود" والشراكة مع "النهضة"، ويكون لها أثرها على سياق التحالفات والتكتيكات الانتخابية؟
تونس 2020 تسير على طريق مختلف بعد أن عطّلت التجاذبات السياسية والصراع على السلطة حالة الاستقرار، وأثرت على مسار التنمية، ولذلك فإن الناس باتت تنظر للمشهد بعين مختلفة وتبحث عن بديل يضمن لهم حياة كريمة وأمنا، وليس غريبا أن تسمع في الشارع وحتى بين جمهور السياسيين من يترحم على حقبة الرئيس الأسبق بن علي، ويروّج للحاجة إلى زعيم من رحم حزب "التجمع الدستوري" ويعيد الاعتبار له، ويطرح اسم المحامية المتشددة "للدستوريين" عبير موسى كرمز للقيادة.
الحقيقة الثالثة المتفق عليها في تونس أن لا عودة للماضي، وأن الحقبة السابقة قد طُويت دون انتقام واجتثاث، وأن أكثرية قادة التجمع الدستوري قد اندمجت بالتحول الديمقراطي، وانضوى جزء منهم في إطار "نداء تونس"، ولهذا فإن حديث "الردة" وربط التجربة التونسية بتجارب عربية مسار "متخيل" لن يتحقق.
مفهوم الدولة العميقة لا تأطير لها في تونس، هذا ما يقوله لي من هم بالحكم، ومن هم خارجه، وعلى ذلك فإن المخاوف من انقضاض أجهزة الاستخبارات أو الجيش على السلطة فرضية احتمالاتها غير واردة في الحالة التونسية، ويجيبني أحد الوزراء بالقول "الجيش عقيدته 'جمهورية' ولا يتدخل بالسياسية".
ما يراه السياسيون أن الناس غاضبة من الأزمات الاقتصادية لكن غضبها والمخاوف من انفجار مجتمعي لن يهدد المكاسب الديمقراطية التي تحققت، ولن يسمح بالانقلاب على نظام الحكم، وما يغذي هذه القناعات أن التونسيين لا يريدون ثورة جديدة تضعهم في حالة مشابه لسوريا وليبيا واليمن وحتى مصر، ولذلك فالناس لن يضحوا بحقوقهم السياسية والاجتماعية "قربانا" للقمة الخبز.
تونس في حالة تترقب بعد انقضاء ثماني سنوات على ثورة "الياسمين"، وتبحث عن منقذ يعبر بها إلى بر الأمان، ويوقف الاقتتال المعلن وغير المعلن على السلطة، ويجذر تقاليد ديمقراطية تنقلها إلى بيئة ومناخات لا تلتصق وترتبط بنموذج العالم العربي.
وتونس لا تنتظر المآلات السياسية بعد الانتخابات فقط، وإنما تنتظر "الفرج الاقتصادي"، وتنتظر خطوة جريئة بتوجيه ضربات قاسية لمن توجه لهم أصابع الاتهام بالفساد، وهذا لا يقل أهمية عن النصر السياسي.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).