ما إن اندلعت الأزمة الخليجية بين قطر من جهة وكل من دول الرباعي العربي (مصر، السعودية، الإمارات والبحرين) من جهة ثانية، حتى تحولت دول الأزمات المفتوحة في العالم العربي إلى ساحات جديدة لحروب وكالة من نوع جديد، تدور رحاها هذه المرة بين حلفاء الغرب والولايات المتحدة، بعد أن ظل هذا النوع من الصراعات مرتبطا بتلك الدول والمجتمعات التي تحظى فيها إيران بنوع خاص من النفوذ كسوريا والعراق واليمن.
ونبدأ باليمن، حيث نشطت قطر في إطار التحالف العربي بقيادة السعودية في بدايات تشكيله، وأرسلت ما يقرب من الألف جندي للمرابطة على الحدود السعودية اليمنية، قبل أن تسارع إلى سحب قواتها والانسحاب من التحالف، بل والبدء بتلقي الاتهامات عن دعمها "السرّي" لجماعة الحوثي، حتى وهي تدعي القتال ضدهم في إطار التحالف.
اليوم، ثمة ما يكفي من المعطيات الدالة على تموضع قطري جديد، أقرب إلى موقع سلطنة عمان، إن في علاقتها مع الحوثيين، أو في دعمها لبعض قبائل المهرة المناهضة للوجودين السعودي والإماراتي في المحافظة الحدودية مع عمان، وانتهاء بالعلاقة النشطة مع التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمين)، ومحاولاتها إبعاده عن التحالف (وربما تقريبه من الحوثي)، مع كل ما ترتب أو يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات ميدانية على حرب السنوات الخمس في هذا البلد المنكوب وعليه.
ليبيا تنهض شاهدا على حرب الوكالة بين الغرب ودوله وحلفائه. هنا بخلاف اليمن، لا دور لإيران وحلفائها على الإطلاق. هنا تحضر تركيا، عضو الناتو وحليفة قطر، بوصفها لاعبا له تأثير. هنا يتحرك الرباعي العربي الذي يحاصر قطر، دعما للجنرال خليفة حفتر، فيما تكثّف الدوحة وأنقرة من دعمهما لحكومة الوفاق وطرابلس والغرب الليبي. هنا تُخترق القرارات الأممية دون ضجيج، فيستمر إرسال السلاح والمرتزقة و"المجاهدين" إلى هذه البلاد، بأقل قدر من "التغطية الإعلامية". هنا، يجد الموفد الأممي غسان سلامة نفسه في ذات المكان الذي وجد ستيفان ديمستورا نفسه فيه من قبل، وفي نفس الموقع الذي يجد مارتن غريفيث نفسه فيه اليوم، مع فارق رئيس واحد: في سوريا واليمن، كان من السهل إلقاء اللائمة والتبعية على إيران وحلفائها. هنا جُرْح الغرب في كفّه، فالمتقاتلون هم بيادق بيد دول حليفة للغرب، والصراع الفرنسي الإيطالي في ليبيا وعليها، يجعل الدبلوماسية والإعلام الدوليين، معطلين عن الحركة والحراك. هنا سيتعين على الشعب الليبي أن يدفع الأثمان الباهظة للصراع على بلده بموقعه وثرواته، من دون أن يأمل بحل سريع لأزماته، أو بمرحلة انتقال أكثر يسرا وسلاسة، أو بعدالة انتقالية لا يفلت منها مقترفو جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، أياً كان الفريق الذي ينتمون إليه.
ومن ليبيا إلى السودان، الذي يشهد واحدة من أكثر ثوراته الشعبية السلمية ندرة في تاريخه. "الأخوة الأعداء" لا يطيقون صبرا ولا ينتظرون طويلا. صراع على "مرحلة الانتقال" بأهدافها و"رموزها".. بعد أشهر من المماطلة والتسويف، عملت فيها أطراف عديدة على "تعويم" عمر حسن البشير، الرجل الذي نجح في الرقص على مختلف حبال المحاور الإقليمية المشدودة، فأعطى هذه المحاور بعض أو كثير مما تريده.
أعطى السعودية والإمارات جيشا في اليمن لقتال أذرع إيران في "عاصفة الحزم".. وأعطى تركيا، غريمة الدولتين الخليجيتين الحليفتين جزيرة "سواكن" لتسكن إليها.. انفتح على قطر، وأدار علاقة طبيعية نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتطوع لقيادة وساطة بين دول الرباعي العربي ودمشق.. كل هذه الحركة "البهلوانية" لم تنفع البشير، ولم تغفر له، عندما خرج شعبه عن بكرة أبيه مطالبا بالحرية والكرامة والعيش الكريم.. لن يمضي وقت طويل قبل أن يبدأ حلفاء البشير بالتخلي عنه، والبحث عن بدائل له تحفظ لكل محور مصالحه وما يحتاجه.
بتنا نعرف اليوم، أن الصراع بدأ منذ اللحظة الأولى التي نصّب بها الجنرال ابن عوف نفسه رئيسا للمجلس الانتقالي، الرجل متهم بجرائم حرب في دارفور، والعلاقة معه عبء إضافي على حلفائه وأصدقائه.. إلى أن جاء الجنرال عبد الفتاح البرهان، الرجل مقرب من السعودية والإمارات، وهو قائد سابق للقوات السودانية العاملة في اليمن، ومن خلال موقعه، نسج جملة علاقات مع الرياض وأبوظبي، وهو ما يؤهله لأن يكون رجل هذا المحور في الخرطوم، فاستحق قرارات الدعم الفورية والمساعدات السخية، واستدعى وجوده على رأس الهرم القيادي العسكري في الخرطوم، حجيجا من الوفود العسكرية والأمنية والسياسية، كل واحد منها يريد ضمانات وتعهدات ببقاء السودان على علاقة طيبة مع هذه العاصمة أو ذاك المحور، وتحولت التغطيات الإعلامية للحدث السوداني، إلى ساحة صراع، بين قنوات ومحطات ووسائط إعلامية محسوبة على كل من الدوحة والرياض وأبو ظبي والقاهرة وأنقرة..
صراع الأخوة الأعداء، يحتدم في السودان اليوم وعليه، ويهدد بتحويل الانتقال إلى أزمة، وينذر بإطالة أمدها، ويشف عن محاولة مصرية ـ خليجية لتفريغ الانتقال نحو الديمقراطية من أي مضمون، بالالتفاف على مطالب المحتجين وشعارات الحراك الشعبي غير المسبوق، وإبقاء السلطة بين يدي "الدولة العميقة"، تماما مثلما كانت وظيفة "المبادرة الخليجية" لحل الأزمة اليمنية في بدايتها.
وفي الجزائر، تدور الصراعات ذاتها، وربما بالأطراف ذاتها، ولكن بقدر أقل من التأثير.. فالأطراف الجزائرية الخارجة من مأساة "العشرية السوداء" تبدو أكثر حذرا في مقارباتها، والجزائريون الفخورون بتضحياتهم في حرب الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، يبدون أكثر حساسية حيال التدخلات الخارجية في شؤونهم الداخلية، حتى وإن جاءت من أطراف عربية أو إسلامية شقيقة.. و"الدولة العميقة" في البلاد، تبدو أكثر "عمقا" من غيرها من دول الأزمات المفتوحة.. ولقد أدت هذه العوامل مجتمعة، إلى تقليص أثر "العامل الخارجي" في الأحداث الجزائرية قياسا بما هو عليه الحال في دول الأزمات المفتوحة الأخرى في المنطقة.
لكن هذا الحال قد لا يستمر طويلا، إن عجز الجزائريون عن التوافق على "خريطة انتقال سياسي"، من نظام بوتفليقة و"شرعيته الثورية" كما توصف، إلى نظام جديد، مدني ديموقراطي، يستمد شرعيته من صناديق الاقتراع والتداول السلمي للسلطة.
والخلاصة أنه بعد عامين من اندلاع الأزمة الخليجية، وبعد فشل المبادرات لحلها واحتوائها، يبدو أن هذه الأزمة أخذت بالتمدد والتفشي، لتطاول مختلف ساحات الصراع والأزمات المفتوحة في المنطقة برمتها، وتتهدد بتفاقمها وارتفاع تكاليفها، وسط انخراط مباشر متزايد من قبل دول غربية في بعضها، إن لم نقل جميعها، وتحديدا تلك التي تندلع على الضفة الجنوبية للمتوسط.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).