بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، يزداد إقبال الجماهير العربية على متابعة المسلسلات التلفزيونية، وبالأخص منها المصرية والسورية وبعض اللبنانية. أصبح هذا الشهر من كل عام شهر الذروة في متابعة التلفزيون، بحيث تتنافس الشركات على إنتاج ثلاثين حلقة كي تحظى بفرصة بيع المسلسل بسعر أعلى لبعض لفضائيات الهامة خلال رمضان.
ذات يوم، سألني مسؤول سياسي رفيع المستوى: "هل يوجد في تلفزيوننا (التلفزيون السوري) ما يستحق المشاهدة غير نشرة الأخبار؟" أجبت بدهشة: "في الواقع، توجد أشياء عديدة أخرى تلفت انتباه المشاهدين وتستحق المتابعة، منها المسلسلات الدرامية".
أدهشتني ردة فعل المسؤول، إذ برم شفتيه في عدم تصديق لما أقوله، وعلق قائلا: "برأيي، كل شيء متوفر اليوم عبر الإنترنت ويوتيوب. لذا، لا يوجد ما هو جدير بالمتابعة على شاشة التلفزيون سوى نشرة الأخبار المحلية. باقي الأشياء مجرد عبث ولهو وإضاعة وقت".
اعترضت بأدب: "اعذرني، ولكن ربما كانت الأغلبية العظمى من الناس تنتظر نشرة الأحوال الجوية أكثر من نشرة الأخبار في محطاتنا المحلية". رفع المسؤول حاجبيه متسائلاً، فأكملت: "ذلك لأن نشرة الأحوال الجوية تملك مصداقية".
عقد المسؤول حاجبيه ورمقني نظرة عتاب، فاستدركت قائلا: "كما أن الأخبار متاحة في عصرنا ـ كما تفضلتم ـ عبر الإنترنت ويوتيوب، وأيضا عبر عديد جدا من القنوات الفضائية العربية والأجنبية بمختلف لغات العالم". فكر المسؤول لحظة، ثم قال: "لديك وجهة نظر تستحق التأمل والتفكير. ما هو الحل برأيك كي نجعل الناس يتابعون ما نبثه في نشرات أخبارنا وبرامجنا السياسية الموجهة؟"
أجبت: "إذا أرادت محطاتنا المحلية أن تنافس بأخبارها العربية والعالمية فعلا، عليها أن تتعلم كيف تجاريها في الصراحة والجرأة، بل أن تتفوق عليها وتسبقها".
سألني بارتياب: "وكيف يمكن لهذا أن يتحقق؟" قلت: "بالإقناع والموضوعية والانفتاح على تقديم الرأي والرأي الآخر. هذا وحده ما يجعل الموقف السياسي مبررا وقابلا للوصول والتأثير. وهذا لا يتحقق إلا بإدراك عميق لعناصر الدراما".
في الواقع، كثيرا ما واجهني السؤال حتى بتُّ أطرحه على نفسي: هل هناك فائدة للدراما في عصرنا المتميز بسهولة إيصال المعلومات عبر الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي؟ هل ما زال الناس في مختلف بلدان العالم بحاجة إلى أن يرتادوا المسارح لرؤية أعمال شكسبير وإبسن وتشيخوف وبرشت ووليامز وميلر وسواهم؟ هل ما زالت هناك حاجة لأولئك الكتاب الجدد الذين يؤلفون أعمالا درامية معاصرة؟ وهل يقبل على متابعة إنتاجهم سوى القلة من أصدقائهم الخلَّص؟
بالتالي، ما الفائدة المرجوة من إنتاج المسلسلات الدرامية التلفزيونية سوى تزجية الوقت والترفيه عن البشر، خاصة نسيان معاناة الجوع والعطش والانتظار لتحصيل الخبز والبنزين وسواهما من المواد الأساسية في شهر الصوم؟ أليس هدفها التسلية المحضة وملء الفراغ، لا أكثر؟ ثم، هل يرتاد الجمهور دور السينما ويتابعون الأفلام لأي دافع سوى البحث عن الإبهار والخيال والإثارة والمغامرة بحيث يهربون من واقعهم المرير، ويقتلون الروتين المهيمن على حياتهم الاجتماعية؟ الأجوبة التي توصلت إليها على تلك الأسئلة هي النفي.
أثبتت الوقائع التاريخية أن المسرح لم يمت مع ظهور السينما، ولم تمت السينما مع ظهور التلفزيون، وبقيت جميعا على قيد الحياة مع ظهور الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي.
في الحقيقة، ساعد ظهور كل نمط تقني جديد على اكتساب النمط القديم لغة تعبيره الخاصة، وتحليه بتميز ساعده على البقاء ومخاطبة قطاع معين من الجمهور، بل تجاوز الحدود الجغرافية أحيانا ليكتسب إلى جانب الخلود طابع العالمية والإنسانية.
عندما يطرح السؤال عن كيفية تحديد الشخصية في الدراما، سواء المسرحية أم السينمائية أم التلفزيونية، فإن الجواب المنطقي هو الإشارة إلى ثلاثة وسائل تنبع جميعا من النص الذي كتبه مؤلف. الوسيلة الأولى هو ما تقوله الشخصية عن نفسها ضمن الحوار المكتوب. الوسيلة الثانية هي ما تقوله باقي الشخصيات عن تلك الشخصية المحورية. أما الوسيلة الثالثة والأهم فهي ما تقدم الشخصية على فعله، حسب المقولة القائلة: "إن الكلمات تكذب، بينما الأفعال وحدها هي الصادقة".
تنطبق تلك المقولة على دعاوى السياسة والسياسيين، حيث كثيرا ما يتناقض القول مع الفعل، والخطاب مع الممارسة. في السياسة، كثيرا ما نجد السياسي يكذب وهو عارف بأنه يكذب، وكثيرا ما نجد المريدين والأتباع يرددون كلامه كالببغاوات وهم يعلمون في بواطنهم بأنه لا يمت للحقيقة بصلة.
باختصار، يفترض في مجال السياسة إتباع الوسائل الثلاث نفسها للحكم على شخصية أي سياسي، وتقدير حسن أدائه من سوئه. وهذا نقيض للإيمان العقائدي المسبق والمطلق دون تحليل موضوعي للإنجازات والمكتسبات وحصاد السياسات المتبعة.
من ناحية أخرى، أتذكر قصة طريفة ومؤلمة معا روتها لي شخصية سياسية بارزة عالميا. قال لي ذلك السياسي المخضرم: "سألني الشخص الذي حل محلي في المنصب الرفيع عن أسماء أربعة أشخاص أعتقد أنه لا يمكن الاستغناء عنهم في الدولة لما يملكونه من كفاءة ونزاهة وقدرات. ذكرت له بكل طيب نية وأمانة أسماء أربع شخصيات تتمتع بتلك الصفات المطلوبة، ولا علاقة لها بأي تنظيم حزبي أو اتجاه سياسي، بل هم من أولئك القلائل الذين لا يحابون أي طرف كان، بل يتميزون بقدراتهم العلمية العالية المشهود لهم بها دوليا".
صمت المسؤول الرفيع لحظات، ثم أردف قائلا بمرارة: "للأسف، ما أن مرَّ شهر واحد على استلام خلفي لمنصبي، حتى أعفى هؤلاء الأربعة تحديدا من مناصبهم، وأهملهم كليا. يا ليتني لم أصدقه وأبح له بأسمائهم، لعله أبقاهم وقتها وأفاد المصلحة الوطنية".
في الدراما، هناك أسس للتفكير المنطقي ثبتت أهمية استخدامها من قبل المبدعين الكبار. ذات مرة، سألت خبيرا سياسيا أجنبيا مخضرما عن "الغاية العظمى" التي تضعها حكومة بلاده لاتخاذ قرارتها إزاء أزمة معينة. رمقني بنظرة حزينة، وأجاب: "أتدري؟ هذا هو السؤال الأهم الذي لم أجد إجابة عليه من أحد في إدارة بلادي السياسية. لا أحد يعرف ما هي الغاية العظمى المرتجى الوصول إليها من السياسات المتبعة! هذا الموضوع ـ للأسف الشديد ـ لم يطرح على الإطلاق". علقت قائلا بابتسامة: "أترى ماذا يمكن للسياسيين أن يتعلموا من فن الدراما؟".
يعتمد "المنهج" الأميركي في التمثيل، والمستلهم من نظام عمل الروسي كونستانتين ستانسلافسكي على تدريب الممثل، على الانطلاق من البحث عن "الغاية العليا" من العمل الدرامي، ثم الشروع باكتشاف "الفعل" من قبل كل شخصية، حتى تتجمع أفعال عديدة لتكوِّن بناء النص الدرامي. ينطبق هذا على المسرح كما يسري على بقية الفنون الدرامية قاطبة.
بعد تلك المرحلة الأولية، يقوم كل مؤدٍ باكتشاف "الأنشطة الحركية" المواكبة لمسار "الأنشطة اللفظية" التي وضعها المؤلف الدرامي كما يضع المؤلف الموسيقي علامات نوطته لتؤديها الأوركسترا. مثلا، إذا كان النشاط اللفظي الذي يعبر عنه الحوار في مشهد ما يتضمن الكذب أو المراوغة أو الخداع، فإن على الأنشطة الحركية أن تكشف حقيقة الفعل الدرامي المستتر وراء قناع الكلمات الزائفة، أي توضح لنا بالإيماءة والإشارة كمشاهدين تناقض الكلام مع الحركة، وليس بالضرورة تكشف الأمر للشخصيات الأخرى. هكذا، تتراكم الأفعال وتتصاعد باتجاه "الذروة الدرامية"، ثم تتجه إلى النتيجة النهائية بطريقة منهجية مدروسة.
للأسف الشديد، فإن من يراقب ويحلل مجريات السياسة في زمننا الراهن، يلاحظ إما جهلا أو تجاهلا شبه تام لقواعد الدراما، وأخص منها بالذكر نهايات الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، لأنها صارت تخرج عن الأنماط المعروفة والسائدة المتراوحة بين تراجيديا وكوميديا ومزيج بينهما، لأن ما يجري على أرض الواقع يشبه تحديدا لا شيء آخر سوى "مسرح اللامعقول".
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).