قبل مقاربة هذا الموضوع/ الصحوة الإسلامية من حيث البداية والنهاية، لا بد من الإشارة إلى أن هناك التباسا يتكرر عند استحضار هذا الدّال؛ من حيث تحديد ماهية المدلول/ المشار إليه. فعند إطلاق مصطلح "الصحوة الإسلامية"، هناك الصحوة الإسلامية التي بدأ زخمها منذ العقود الأولى للقرن العشرين (وتحديدا بظهور جماعة الإخوان المسلمين ابتداء من 1928) تلك الصحوة التي تمتد بداياتها/ جذورها إلى أواخر القرن التاسع عشر على يد الأفغاني ومحمد عبده، وهناك الصحوة الإسلامية المعاصرة التي بزغ نجمها بعد اندحار المشروع القومي بفعل الهزيمة الساحقة المخزية عام 1967، وبلغت أوجها أواخر القرن العشرين، ثم بدأ نجمها الصاعد بالأفول
بين الصحوتين عموم وخصوص، فالصحوة المتأخرة التي استأثرت إعلاميا بهذا المصطلح هي نتاج ـ بقدر ما هي جزء ـ من الصحوة الإسلامية الأولى التي ظهرت كرد فعل على التهديد الغربي الحديث، الذي اتضح بعد الاصطدام الأول به، أنه لم يكن تهديدا عسكريا كما هو المعتاد إبان القرون الوسطى (الحروب الصليبية)، وإنما هو تهديد ثقافي/ حضاري/ ديني؛ فضلا عن كونه تهديدا عسكريا.
الصحوة الإسلامية المتأخرة هي ذروة الحراك النضالي الأول الذي كان يرد بالإسلام على التحدي الغربي، هي اكتمال الطموح ونضوج الفكرة في بلوغها الحد الأعلى من التغول الشمولي. وبلا شك، لولا المنجز السابق في الصحوة الأولى، المنجز الذي أسس لمشروعية كثير من مقولات الثانية؛ ما كان لهذه الصحوة الثانية أن تكون، أو على الأقل، ما كان لها أن تكون على هذا النحو الذي كانت عليه في الثلث الأخير من القرن العشرين.
على أي حال، كانت الصورة الأولى تشي بأن الصحوة الإسلامية تسير ـ بعمومها ـ في طريق الانتصار الشامل؛ جماهيريا على الأقل. لقد نمت وتطورت بشكل فاق كل التوقعات، انفجرت ـ كإغراء إيديولوجي وكفاعلية حركية ـ أواخر القرن العشرين. وقد شكل هذا الانفجار أو الازدهار صدمة لكثير من الباحثين، العرب والأجانب، إلى درجة أن بعض مثقفي العرب من ذوي التوجهات العلمانية رفضوا تصديق هذا الواقع الجديد المعاند لتوقعاتهم، ومارسوا المغالطة في كثير من تنظيراتهم التشخيصية لهذا الواقع، مقدمين رغباتهم وأحلامهم بوصفها الواقع المتحقق فعلا، بينما هي لم تكن إلا الواقع الحلم/ الواقع المخادع في أحسن الأحوال.
مع كل هذا، تبدو الصحوة الإسلامية اليوم وكأنها في طريقها إلى الاندثار، تبدو وكأنها ـ من حيث هي تعبير عن أزمة ما، وعن ظرف سياسي واجتماعي وثقافي/ ديني ـ خارج نطاق الفعل التاريخي؛ بما يوحي بهزيمتها النهائية، وخروجها من المشهد عما قريب.
وإذا كان هذا لا يعني بالضرورة امّحاء الظاهرة الإسلاموية تماما، ولا غياب المتأسلمين من مسار الحراك الاجتماعي والسياسي بالكلية، فإنه يعني ـ وهو الأهم تشخيصا ـ غياب الفعل المؤثر كرقم صعب في مجمل التحولات التي تمر بها الأقطار ذات الأغلبية الإسلامية، بحيث يصبح "الصحويون" في مسرح الأحداث مجرد متفرجين كبقية الأطياف؛ بعد أن كانوا من جملة صانعي الأحداث.
لكن، وهنا السؤال الأهم، ما الذي حدث لتنتهي الصحوة إلى هذا الواقع المزري، إلى هذه الهزيمة، بعد كل مؤشرات النصر، وكل توقعات الانتصار؟ في تقديري أن هذه الهزيمة، أو هذا الانحدار الذي يبدو مفاجئا، يرجع لأسباب كثيرة، ذاتية وموضوعية، يصعب حصرها هنا، ولكن أهمها ما يلي:
1 ـ التحولات العميقة في العوامل التي دفعت في اتجاه ازدهارها سابقا. فالعوامل التي كانت قد أسهمت في صعود الصحوة وازدهارها، تراجعت أو ضعفت، أو انقلبت إلى الضد؛ فأصبحت عوامل تسهم في تراجعها، أو كبح جماحها. فمثلا، مساحة الجهل العامة التي استثمرت فيها الصحوة كثيرا؛ أخذت في التلاشي نسبيا، وكذلك طرأ تغير جذري على احتياج بعض الحكومات التي كانت قد تحالفت معها أو فتحت المجال لها لتدعيم شرعيتها الجماهيرية، وذلك لأنها أصبحت مصدر تهديد بعد أن كانت مصدر تأييد.
أيضا، يمكن ملاحظة تراجع الروح الأممي لحساب الروح الوطني القُطْري، والروح الأممي هو الذي كان سائدا، وقد لعبت الإسلاموية على أوتاره كما لعبت القومية على أوتاره من قبل. والمعنى أن احتلال موقع القومية بعد هزيمتها الساحقة كبديل واعد لم يعد مغريا من الأساس؛ لأن التفكير الأممي الحالم من حيث هو كذلك/ أممي، بدا تافها؛ بقدر ما هو ساذج وغير واقعي؛ أيا كان نوع الأيديولوجية التي تحاول الاستثمار فيه.
2 ـ راهنت الصحوة/ الإسلاموية على التأطير الأيديولوجي المحكم الذي كان من ضروراته الانغلاق/ الجهل. وقد كان هذا ممكنا إلى حد كبير في مرحلة ما قبل الانفتاح الاعلامي والمعلوماتي الذي جعل من المستحيل التحكم في مصادر التلقي، بعد أن أصبح الفرد في أي مكان في هذا العالم مفتوحا على الفضاء بكل ما فيه. فمثلا، إذا كانت الصحوة قامت على تشويه بل وتجريم نمط الحياة الغربية/ العالم المتحضر؛ بوصفه نمطا غير أخلاقي وغير فاعل في آن؛ لصالح نمط إسلامي مُتخيّل يتعالى على الواقع الإسلامي المتردي، فهذا الانفتاح الإعلامي وضع جماهير التلقي/ المسلمين في قلب المشهد، بحيث يرون الآخر على حقيقته، وليس كما ترسمه أيديولوجية التطرف الديني.
3 ـ اصطدامها ـ نتيجة تطور؛ فتحوّل من الكمي إلى النوعي ـ بالقوى السياسية الفاعلة التي كانت داعمة لها في الماضي، فأصبحت تضعها في خانة العداء؛ نتيجة إدراكها لخطرها على وجودها، لا من حيث تبني كل طرف لأيديولوجية مختلفة عن أيديولوجية الطرف الآخر فحسب، وإنما لكون الحراك السياسي لكلٍ من الطرفين يسير في الاتجاه المعاكس للطرف الآخر. فهذه القوى السياسية الفاعلة قائمة على التصور القُطْري/ الوطني، والصحوة قائمة على التصور الأممي الذي لا يمكن أن يكتمل مشروعه المعلن/ دولة الخلافة إلا على أنقاض الأقطار الوطنية التي كانت ولا تزال محل ازدراء بل وعداء الأيديولوجية السائدة لدى الصحويين.
4ـ فشل التجارب الناجحة، أو تلك التي بدت أنها ناجحة بمجرد نجاحها في الوصول إلى الحكم، كما في السودان، وإيران، طالبان، ومصر الإخوان. فالصحوة الإسلامية كانت قد وضعت مسألة الحكم كهدف محوري؛ من حيث هو آلية تحقيق الوعود الطوباوية التي سحرت بها جماهير المقهورين والمهزومين. وعندما وصلت إلى الحكم لم يكن المنجز على مستوى الوعود، بل كان كارثيا في معظم الأحوال. وبهذا فَقَدَ الوعد الطوباوي بريقه، وربما تحوّل إلى ضده، فبعد أن كان أداة جذب وحشد، أصبح أداة نفي وتنفير؛ بعدما انكشف واقع مروجيه؛ إما عن "جهلة مغفلين"، وإما عن "مخادعين محتالين"، وهم في كلتا الحالتين لا يستحقون الاحترام، وخاصة في نظر جماهير القرن الميلادي الجديد، هذه الجماهير التي بدأت ـ بفضل الانفتاح الكبير في المجالين: الإعلامي والمعلوماتي ـ تعقد المقارنات المتنوعة بين واقعها البائس من جهة، وواقع كثير من دول العالم التي حققت كثيرا من المنجزات من جهة أخرى.
كل هذا يشير إلى تراجع صحوي إسلاموي شديد بدأ منذ نحو عقدين تقريبا. لكن، يبقى الانهيار التام لمشروع هذه الصحوة مرهونا بتراجع التجربة التركية والتجربة الإيرانية، بوصفهما تجربتين حاضرتين في ضمير الصحوة والصحويين المتأسلمين. وأهميتهما ـ من حيث النتائج المترتبة على نجاحهما أو فشلهما ـ لا تنبع من كونهما يمثلان الخيارات الأيديولوجية لأهم مذهبيين في العالم الإسلامي (السني ـ الشيعي) فحسب، وإنما ـ أيضا ـ من حيث هما يمثلان نماذج حية للتجارب الممكنة؛ من حيث مستويات التديين أو مستويات العلمنة (الديني ـ العلماني). فإذا كانت التجربة الإيرانية تمثل الصراحة الأصولية المتمثلة في دولة ثيوقراطية منحازة إلى أقصى اليمين الديني، فإن التجربة التركية تمثل الخيار الإسلاموي المتعلمن/ المراوغ؛ عندما يقرر امتطاء العلمنة؛ ليظهر كخيار مرن يقف في أقصى اليسار الديني، وأقصى اليسار العلماني.
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).