صَدمت "مرجعية الأزهر الشريف" ملايين النساء العربيات والمسلمات، بحديث شيخها الدكتور أحمد الطيب عن "حق" الرجل في توبيخ زوجته وتأديبها وهجرها في المضاجع، وصولا لضربها إن تطلب الأمر، مُرجعا ذلك إلى نصوص في القرآن والحديث، لا تعرف التبديل والتأويل، وهي صالحة لكل زمان ومكان.
لكن الشيخ الجليل، والحق يقال، وضع "مسطرة شروط" على الرجل التقيّد بها وهو يهمّ بضرب زوجته، منها ألا يتسبب لها بكسر أو عطب في أحد أعضائها، وألا يتركها مع عاهة مقيمة، وألا يستخدم يده في الضرب، معطيا الضرب معنى رمزيا دلاليا، باستخدام "السوّاك/ المسواك" أو فرشاة الأسنان في أزمتنا الراهنة.. فالأصل أن الرجل يفعل ذلك لاستنقاذ أسرته، والضرب يستهدف المرأة "الناشز" على وجه التحديد، والغاية منه "كسر كبريائها" والحد من "جموحها".. إلى غير ما هنالك من توضيحات، عاد وأدلى بها بعد الضجة الكبرى التي أثارتها تصريحاته في طبعتها الأولى.
والحقيقة أن الإمام الأكبر، أعاد متبرعا، إنتاج خطاب ديني درجت عليه مدارس فقهية معروفة، لطالما نظرت للمرأة بدونيّة واحتقار، وأنكرت عليها حقوقها و"مواطنتها" و"إنسانيتها"، وكرست في كل ما ذهبت إليه من إفتاء وشروحات، مكانتها المتدنية في الدولة والمجتمع، وهو وإن حاول استدراك بعض مما قاله، إلا أنه كان يمضي في الخطأ كلما كان يتوسع في الشرح.
المؤسف أن هذه التصريحات التي تأخذ شكل "الإجازة الشرعية" لضرب النساء، من شأنها أن تشجع على ممارسة العنف والتمييز ضد النساء، بخلاف الزعم القائل بأنها تسعى لاحتواء هذه الظاهرة وتقليصها.. وأظن أن الشيخ ذاته، كان يدرك تمام الإدراك أن الرجل الغاضب من زوجته، أو لأي سبب آخر، لن يلجأ إلى "فرشاة أسنانه" لضرب زوجته بها، وإن هذا الزوج إن اقتنع بعدم استخدام يديه في ضرب زوجته، فلن يتوانى عن استخدام قدمه أو أية أداة تقع تحت يديه، طالما أنها لن تفضي إلى إلحاق الكسور والتشويهات والعاهات المزمنة بالزوجة المضروبة. "حكاية فرشاة الأسنان" تبدو مضحكة للغاية، وهي بدل أن تخفف من وقع المسألة تجعلها أقرب إلى "الكوميديا السوداء".
والمؤسف أيضا، أن هذه التصريحات تأتي في ذروة حديث الدولة المصرية بمؤسستيها السياسية والدينية عن الحاجة "لإصلاح الخطاب الديني"، بعد أن تم اختطافه من قبل جماعات سلفية متطرفة وأخرى إخوانية ـ قطبية، وضعت هدف منازلة السلطة في صدارة أولوياتها.
المؤسستان الدينية والسياسية معنيتان بإصلاح "الشق السياسي" من الخطاب الديني، المتصل بالخروج على الحاكم حصرا، أما الشق الحقوقي المدني، المتعلق أساسا بحقوق النساء، وحقوق الإنسان عامة، فتلكم قضية لا تحظى باهتمام "المرجعية السياسية الأولى" ولا "المرجعية الدينية ـ السنيّة الأولى" في مصر على ما يبدو.
في سعيه لتيسير ابتلاع "فتوى ضرب النساء" نسي شيخ الأزهر، والأرجح أنه تناسى، أن البشرية جمعاء، تواضعت على فهم مشترك للعنف والتمييز ضد النساء، يضع العنف اللفظي والنفسي في منزلة مماثلة أو لا تقل سوءا عن العنف المادي والجسدي الذي يمارس ضد النساء. شيخنا الجليل أجاز النوع الأول من العنف من دون تحفظ، مبيحا "التوبيخ" و"كسر الكبرياء" و"الهجر في المضاجع" إلى غير ما هنالك، مقسما النساء إلى صنفين: ناشز وغير ناشز، مستندا على معيار طاعة الزوج والانضباط لتعليمات بوصفها نقطة الافتراق بين هذين الصنفين، يترتب عليها حقوقا مختلفة وأشكال مختلفة من "التأديب" و"العقوبات".
لم يقل لنا المرجع السنّي الأكبر، ما إن كان "النشوز" ينطبق على الرجال كذلك، أم أنه صفة لصيقة بالنساء دون الرجال. ولم يحدثنا ما الذي يمكن للمرأة أن تفعله مع زوج مستهتر، "ناشز"، يهدم بسلوكياته الأسرة، وربما المجتمع برمتها، ولم يقرأ علينا "لائحة العقوبات" التي يتعين أن يخضع لها نظير أعماله التي تعاقب المرأة بالضرب، إن هي قارفت بعضا منها. هذا مسكوت عنه، في المرجعية الذكورية لرجال الدين والافتاء، فكل همهم محصور بملاحقة النساء ومعاقبتهن على الخطيئة الأولى التي ارتكبتها جدتهن الأولى والتي بنتيجتها سقطنا إلى الأرض بعد أن كان مقدرا لنا أن نعيش في جنان السماء.
أعرف أن سماحته ليس "طليق اللسان واليدين" فيما يقول ويفعل، فهو وغيره من الأئمة الكبار والصغار مكبلين بنصوص تحيط بها هالة من القداسة والقدسية.. بعضهم يعمل على تأويلها وإعادة تأويلها، نسميهم الإصلاحيين، وهؤلاء صوتهم خفيض، وهم عرضة للابتزاز ووابل الاتهامات، ومن خرج منهم عن النص عرّض حياته للخطر.
لكن في حالة شيخ الأزهر هنا، لا عذر له، فهو يمثل المؤسسة الأولى في العالم الإسلامي السنّي، والأصل أن فتواه تتحكم بحياة ملايين البشر. لكن من حسن الحظ (أو سوئه)، فإن هذه المؤسسة، ولأسباب عديدة لا مكان لشرحها في هذه المقالة، فقدت قدرتها على التأثير بحياة ملايين المؤمنين، بعد أن رأوا تقلباتها المضبوطة على إيقاع السلطة السياسية وتبدلاتها، وربما هذا ما يفسر ردود الفعل الغاضبة التي أثارتها تصريحات الإمام الأكبر، والتي اتسمت بالجرأة و"قلة الاعتراف" بمكانته.
لا يجوز تحت ذريعة الصلاح والصلاحية لكل الأزمنة والأمكنة، أن تبقى نساء القرن الحادي والعشرين المسلمات، عرضة لهذا الوابل من الفتاوى التي تلحق إعاقة مزمنة بقدراتهن على انتزاع حقوقهن.
ولا يجوز لمؤسسة الأزهر، أن تتخلى عن مسؤولياتها في الحفاظ على حقوق النساء والدفاع عن "مواطنتهن" و"إنسانيتهن"، والمؤكد أنه من المؤسف أن تكون هذه المؤسسة العريقة، في خندق العداء لكل خطاب إصلاحي يسعى لإنصاف النساء وتمكينهن من استرجاع حقوقهن، كما حصل حين انبرى الأزهر مهاجما تشريعات تونسية تسعى في إنصاف النساء وتمكينهن من حقوق متساوية في الميراث.
كنا نتمنى أن ينبري الأزهر منافحا عن روح الإسلام في مواجهة بعض "الإفتاء الناشز" حول إرضاع الكبير ومبطلات الوضوء، بدل تركيز جل اهتمامه لمطاردة "المرأة الناشز".
كنا نتمنى لو أن الأزهر قام بدوره ورسالته في التصدي للفكر الظلامي ـ التكفيري، بكل أبعاده ومرتكزاته، وعدم الاكتفاء بالدفاع عن الحاكم وتحريم وتجريم من "يقوم عليه".
كنا نتمنى، وما زلنا ننتظر أن يقود "الأزهر الشريف" حركة إصلاح ديني، تخرجنا من عصور الجهل والخرافة والتطرف، إلى فضاءات العصر وتحدياته، علّه بذلك يساعدنا على اللحاق بركب الأمم التي سبقتنا، ويبدو أن جميع الأمم قد سبقتنا أو هي في الطريق إلى ذلك.
اقرأ للكاتب أيضا: ما الذي يخشاه الملك من 'صفقة القرن'؟
ـــــــــــــــــــــ الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).