كثيرا ما تساءل الباحثون في قضايا التطرف والإرهاب: هل التطرف/ الإرهاب هو نتاج مباشر لأفكار دينية متشددة، أم هو نتاج واقع اجتماعي مُعْتلّ بشتى العِلل التي تجعل من تبَنّي تلك الأفكار الدينية المتشددة ضرورة، أم أن التطرف/ الإرهاب هو نتاج تلاقح هذه الأفكار المتشددة مع هذا الواقع المعتل؛ ما يعني أن توفّر أحدهما لا يكفي ـ وحده ـ لإذكاء نيران العنف الأصولي، أو ما يطلق عليه "الإرهاب الديني"؟
لقد ثبت لدي يقينا، بعد كل هذه السنوات العِجَاف التي شهدت ازدهار العنف الأصولي في العالم العربي؛ إلى درجة تماهيه مع الذهنية الشعبوية العامة، أن واقع العرب ـ بكل مستوياته ـ يُشكّل أرضا خِصْبة لتَبَنّي مقولات الانغلاق والانكفاء على الذات؛ بقدر ما هو ـ في الوقت نفسه ـ يُشكّل أرضا خِصْبة لتمدد واستشراء مقولات التطرف المشوبة بنفس تمردي/ انتقامي، يبدأ من محاولة تشويه الآخر وتدميره، ليصل ـ بعد مروره بمحطات الفشل/ الإحباط/ الاكتئاب ـ إلى تشويه وتدمير الذات.
في هذا السياق، نستطيع الاتفاق ـ دونما حرج أو تحفّظ ـ على توصيف الباحث اللبناني القدير/ مصطفى حجازي لحال الإنسان في العالم العربي، أي في هذا العالم الواسع الذي يُشَكّل أهم وأشهر فضاءات التخلف على مستوى العالم، كما هو أهم وأشهر فضاءات العنف أيضا. يقول حجازي واصفا الإنسان العربي المُكبّل بإعاقات نفسية ومجتمعيه تتفاعل فيما بينها لتصنع حالة "الإنسان المقهور": "الإنسان في المجتمع المتخلف عدواني، متوتر، يفتقر إلى العقلانية، ويعجز عن الحوار المنطقي، لأنه يعيش في حالة مزمنة من الإحباط الاعتباطي، ومن الإهمال" (التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، ص178).
أيضا، يشير الباحث الفرنسي/ ستيفان لاكروا، من خلال استقراء عام لحالة "الجهاديين" الذين تبنوا خيار المواجهة المسلحة، إلى دور التمييز الاجتماعي في تفجير الغضب الكامن، الغضب المنتهي بتبني الأيديولوجية الجهادية كمهرب من القواعد الصارمة المفروضة بحكم التصنيفات الاجتماعية (زمن الصحوة، ستيفان لاكروا، ص163). أي بلغة مصطفى حجازي، تصبح الأيديولوجية العنفية، ومن ورائها السلوكيات العنفية، منافذَ هروب، ملاجئ عاطفية/ واقعية، وسائل يتذرّع بها الإنسان المقهور ـ واعيا أو غير واعٍ ـ للخروج من حالة القهر التي يشعر ـ صادقا أو واهما ـ أنها تحاصره كالقدر المحتوم.
إن الأفكار لا تعمل في فراغ؛ مثلما هي لا تتخلق فقط في حدود الأدمغة التي تشتغل بها وعليها. الأفكار، ومهما كانت الطاقة الكامنة فيها، لا تخلق حالة خاصة بها، أي حالة مكتفية بذاتها، الأفكار لا تَتَخلّق في واقع تقف معادلاته على الضد منها. البذور مهما كانت جودتها وقدرتها على الإخصاب تحتاج لأرضية حاضنة تمدها بعناصر النمو والتمدد والقوة، ومن ثم الإثمار.
من هنا، نجد أن النزعات الأصولية المتطرفة والرؤى التقليدية الانغلاقية يصيبها ما يُشْبه العقم في مجتمعات الوعي المتقدم، تتبخر حيويتها في البيئات التقديمة، الكافية/ المكتفية، التي يتحرر فيها الفرد من قهر ضروريات الحياة، بينما هذه "النزعات والحركات الأصولية والتقليدية تجد مرتعا خصبا في أوساط الطبقة الدنيا والشريحة الهامشية والطبقة الوسطى" (اتجاهات النخب السعودية، مشاري النعيم، ص27).
ولا يعني هذا التقابل بين واقعين/ عالَمين: جاذب وطارد غيابَ الاستثناءات الفردية؛ بقدر ما يعني أن هذا هو الواقع العام، هذا هو الحال الغالب الذي يجب أخذه في الاعتبار عند مقاربة إشكاليتي: التخلف والتطرف في عالمنا/ العالم العربي.
إن الرؤى التقليدية المتواشجة مع وقائع التخلّف من جهة، والمتفاعلة مع مقولات التطرف من جهة أخرى، هي الصانعة لوعي مجتمعي عام مأزوم، هي الصانعة لوعي لا يزال ـ بالتفاعل الجدلي ـ يُكرّسها باستمرار.
نعم، لا يزال هذا الوعي المأزوم يُنتج المجتمع التقليدي الذي أصبح انغلاقيا حتى في تطلّعه للاستنارة، بدليل أنه لا يكفّ عن استشارة التراث السلفي ليبحث فيه عن مشروعية موهومة تُبيح له أن يتبنى مفردة ما/ قيمة ما/ مبدأ ما؛ من مفردات/ قيم/ مبادئ التنوير.
لهذا، يقول الباحث في الحركات الإسلامية المعاصرة/ خالد العضاض ـ واصفا طبيعة التيار التنويري في السعودية ـ: ينطلق في مجمله من منطلقات إسلامية وسلفية تحديدا (التدين السعودي، تجاذبات التشكل والتحول، ص86). وظني أنه يقصد هنا بالتنوير ذلك التيار المتمرد ـ تسامحا وتيسيرا ـ على تطرّف الصحوة (أي التيار الذي ظهر عقب أحداث 11/9 وقاد لما يشبه المراجعات)؛ بغية خلق صحوة أقل تطرفا وأقل انغلاقا، وبالتالي؛ أقل إحراجا وأبعد عن الصدام مع الآخر.
هذا في ظني ما قصده العضاض بالتيار التنويري ذي المنطلقات السلفية؛ وإلا فإن التيار التنويري المتعولم (والتعولم نسبي بطبيعة الحال) إذ يأخذ في اعتباره ثقافة/ دين المجتمع الذي يتموضع فيه، فإنه ـ وعلى نحو صريح ـ يقطع مع الخطاب السلفي التقليدي.
إن الخطاب الصحوي، الذي هو نتاج حالة تخلّف/ ظرف ثقافي واجتماعي مُؤشكل، والذي هو ـ في الوقت نفسه ـ يعكس حالة تطرّف، يزعم لنفسه أنه يمثل حالة تقدّم/ خُطوة استناره في سياق الخطاب الديني التقليدي السائد. لكن، هذا الزعم تفضحه مقولات الصحوة الصريحة، مقولات الصحوة في عِزّ انتشائها وتصورها أنها تفتتح خطابا إسلاميا ثوريا جديدا.
إن مقولات الصحوة التي صنعت جيلا بأكمله، كانت، وعلى لسان أشهر رموزها، انغلاقية إلى أقصى الحدود، فهي لشدة تطرفها تُزايد ـ تطرفا ـ على بقية المتطرفين، إنها تَعُدُّ السلفية الإخوانية، أو حتى سلفية محمد الغزالي، تمييعا للدين، تحللّا من عزائم الشريعة، أو انفتاحا مبالغا فيه على ثقافة الكفر/ ثقافة التنوير في أبعادها الإنسانية التي تشكل وعي العالم المعاصر!. هكذا هي الصحوة بتطرفها الذي تتوهمه تنويرا تُدين خطوات الغزالي "التنويرية" (التي تحاول فتح بعض المسام في الجدار السلفي الصلد)؛ مع أنها خطوات خجولة، حائرة، مترددة، تتخللها حالات نكوص وانتكاس، بل ومراوغة ومخاتلة في كثير من الأحيان.
وإذا كانت مشكلة الصحويين أنهم ـ من حيث هم نتاج بيئتهم ـ يتبنون تراث دينيا (عقائديا وفقهيا/ تشريعيا) ينتمي إلى الماضي بكل مُكوّناته، فإن الخارجين على الصحوة بوسم التنوير/ الإصلاح الديني لم يستطيعوا الانعتاق من أسر هذا التراث التقليدي؛ لا جملة ولا تفصيلا.
إنك تجد هؤلاء المستنيرين (المستنيرين بالصحوة، أو رغم الصحوة!) يستجدون بعض الإضاءات من هذا الكتاب التراثي أو ذاك، من هذا الرمز التراثي أو ذاك. فمثلا تجدهم يستشعرون "الجُرأة التنويرية" إذ يحتمون بالشاطبي ومَقاصِديّته، مع أن الشاطبي لم يخرج في تنظيره لمقاصد الشريعة عما استقر في المنظومة الأصولية الفقهية، بل هو ماضوي تقليدي بامتياز؛ إذ يرى أن على المجتهد أن يتحرّى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ لأنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، فتحقيق الصحابة بعلوم الشريعة ـ كما يقول ـ ليس كتحقيق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم (إسلام عصور الانحطاط، هالة الورتاني، وعبدالباسط قمودي، ص84).
وبلا ريب، فهذا التقرير يعكس نظرة ماضوية صريحة، إنها نظرة سلفية تحكم بأن الأقدم أعلم وأحكم لمجرد أنه أقدم، وأن المتأخر لا يلحق بالمتقدم مهما فعل، فالأفضل والأجمل والأكمل في الماضي، بل إن المستقبل ذاته ـ وفق هذا التصور التقليدي ـ يقع في الماضي!
إن كل من يتتبع محاولات الاستنارة التي تقدم بها الخطاب الإسلامي في صورته الصحوية سيجد أنها كانت محاولات اعتذارية في أساسها، وليست ناتجة عن تطور/ نمو ذاتي في الخطاب. إنها محاولات استنارة مُكْره أصحابها؛ لا أبطال! هي محاولات تفرضها القوة المتعولمة لمنطق العصر الذي هو في جوهره منطق خطاب التنوير الأوروبي الذي بات يضطر المتأسلمين المعاصرين إلى تلوين مقولات التراث الإسلامي لتظهر بمظهر عصراني مقبول، وفي المقابل؛ أسلمة المقولات العصرية بتأطيرها لتعبّر عن مقولات التراث التقليدي، أي بنزع روح الاستنارة منها؛ وجعل التراث اللاّتنويري يتحدث من خلالها.
يعجز أسرى التراث عن تجاوز المقولات الصلبة في التراث. إنها تحكمهم؛ لا بقوة تَحكّم منطقها الماضوي بطرائق تفكيرهم فحسب، بل وبقوة مساندة الواقع اللاتنويري الذي لا بد وأن يضطرّ المتموضعين في سياقه إلى استبطان مقولاته لا شعوريا. ومن هنا، لا بد وأن تفشل كل محاولة لتجاوز هذا التراث من خلال هذا التراث.
يقول مشاري النعيم عن المعالجة الإسلاموية لمسألة التسامح، وهي المسألة الجدلية التي تقع في صلب خطاب التنوير الغربي: "لقد تكلس مفهوم التسامح في الوعي الإسلامي في حدوده القروسطية، وقصّر بالتالي عن التطابق مع المعايير الدولية المعاصرة لحقوق الإنسان ومن ضمنها مبادئ المساواة والحرية". ثم هو في موضع آخر، ومن خلال النموذج الإسلاموي (المتمثل بالصحوة في السعودية والخليج) بوصفه نموذجا دالّا، يؤكد التضاد الذي يصل حدّ التناقض بين مسار الصحوة/ السلفية الحركية ومسار التنوير؛ فيقول: "كان صعود وتنامي شعبية الصحوة الإسلامية أحد مظاهر انحسار التنوير الغض" (اتجاهات النخب السعودية، ص71 وص130). بمعنى أن الإرهاصات الأولى للتنوير في السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم كانت تحمل مضامين مختلفة جدا عن مضامين الصحوة، بل مضادة لها، ومن ثم؛ لا يستطيع أي تنويع صحوي ـ مهما زعم الاستنارة، وهما بدا تطويرا متمردا ـ أن يطرح نفسه بوصفه تيارا تنويريا؛ لا لشيء، إلا لأن "التنوير الصحوي" في كل أحواله، وبتأكيد جميع رموزه وتياراته وأطيافه، محكوم بأصول عقائد الأسلاف وكليات فِقْههم العتيد.
اقرأ للكاتب أيضا: ثقافة التدين الصحوي
ـــــــــــــــــــــ
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).