في القرن التاسع عشر، عثر عالم الآثار الفرنسي، لويس فيليسيان دو سولسي، على نقوش جنائزية وكتابة شبيهة بالمسمارية بعد أن أُبلغ بوجود نقوش على الصخور ببعض المناطق المغاربية، خاصة مدينة دُقَّة الأثرية الواقعة في ولاية باجة بالشمال الغربي لتونس.
عندما زار دو سولسي المنطقة - المدرجة حاليا ضمن لائحة التراث العالمي - أدرك بأن الأبجدية المستخدمة غير معروفة فأطلق عليها "اللغة النوميدية"، نسبة إلى مملكة نوميديا الأمازيغية القديمة في شمال أفريقيا.
ورغم أن أولى الاكتشافات بدأت في القرن السابع عشر، إلا أن دو سولسي استطاع في 1843 تحديد السمات البارزة لهذه الأبجدية.
وفي وقت لاحق، وجد مستكشفون لغويون أيضا بقايا نقوشات ليبيقيَّة في مناطق جزائرية أخرى، أبرزها بمدينتي سوق أهراس وقسنطينة.
لكن لمدة 400 عام عجز علماء الآثار والمتخصصون في اللغات القديمة في فك طلاسم لغة الأمازيغ الأوائل.
ورغم أن مؤرخين ومستشرقين، من أمثال إرنست رينان، حققوا أيضا تقدماً في فك معاني بعض الرموز، إلا أن جلّ أبجديات هذه اللغة - التي أضحت تُسمى "كتابة ليبيقيّة" (Libyco-Berber) - بقيّ مجهولا.
أصل "الليبيقية"
يُعتقد على نطاق واسع أن أحفاد الشعب النوميدي، الذين يعيشون في شمال أفريقيا، يستخدمون أبجدية مستوحاة من الليبيقيَّة: تيفيناغ.
ورغم اختلاف اللهجات الأمازيغية اليوم، إلا أن الحرف المكتوب بقيّ محافظا على أصوله، التي تعود إلى مئات السنين.
وبحسب المتحف البريطاني، فإن الليبيقيَّة رفقة الكتابة الهيروغليفية المصرية "واحدة من أقدم اللغات المكتوبة في أفريقيا وتمثل الموضوع الأكثر إثارة وتحديا في تاريخ شمال أفريقيا".
وتظهر هذه اللغة - وفق المصدر نفسه - في "شكلين مختلفين، إما منقوشة على لوحات (بشكل رئيسي على ساحل البحر الأبيض المتوسط والمناطق النائية) أو على وجوه صخرية، إما معزولة أو جنبا إلى جنب مع لوحات فنية على الصخور".
وهناك ثلاث نظريات حول أصل الليبيقيَّة، الأولى تشير إلى أن الأبجدية ومبادئ الكتابة التي تعتمدها مستعارة من الخط الفينيقي. بينما ترى النظرية الثانية أن اللغة مستقاة من مخزون تاريخي من علامات متداولة في الوشم والفن الهندسي الصخري وغيرها، فامتزجت هذه العناصر لتعطي هذه الأبجدية.
وأخيرا، هناك اقتراح ثالث يمزج بين النظريتين، ويعتقد بوجود عناصر مستعارة من الكتابة الفينيقية ممزوجة بالرموز المحلية.
ووفق المتحف البريطاني، فإنه "على الرغم من أنه لا يمكن قبول أو دحض أي من هذه النظريات بالكامل في الوقت الحالي، إلا أن اقتراح الاقتراض الفينيقي يحظى بتأييد أوسع بين علماء اللغويات وعلماء الآثار".
وتؤكد بعض البحوث التاريخية أن الكتابة الليبيقيَّة - التي أضحت نوعا من الفن الصخري – كانت مختلفة بين بعضها البعض في الرسومات والشكل، بسبب الفروقات الجغرافية في المناطق التي اكُتشفت فيها (من غرب مصر إلى جزر الكناري) منذ القرن التاسع عشر.
ويعتقد مؤرخون أن تيفيناغ- وهو في الأصل حرف شعب الطوارق- يشترك في عديد من الرموز مع الليبيقيَّة، ولكن الأخيرة لغة مختلفة تماما، إذ "لا يستطيع الطوارق المعاصرون فهم النقوش الليبية الأمازيغية القديمة على الرغم من أنهم يتعرفون على بعض الرموز"، وفق المتحف البريطاني.
هل أخطأ بيير بورديو؟
يُعدّ عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي، بيير بورديو، من أكثر الباحثين الذين استفاضوا بحثا في شتى جواب المجتمع الثقافة الأمازيغيين، خاصة بمنطقة القبايل الجزائرية.
اعتقد بورديو أن المجتمع الأمازيغي شفوي بامتياز، وأن التقاليد الشفوية هي التي تلعب دورا محوريا في نقل القيم والمعرفة والممارسات الثقافية داخل المجتمعات الأمازيغية.
وعلى وجه الخصوص، أشار إلى أن التقليد الشفهي وليس الكتابي - كما هو الأمر في بلدان أوروبية - يستخدم لتعزيز الروابط الاجتماعية والحفاظ على الاستمرارية الثقافية عبر الأجيال.
لكن يبدو أن نظرية بورديو حول "الشعب الشفهي" تدحضها بعض الاكتشافات التاريخية، التي تُظهر باستمرار أن المناطق الأمازيغية بشمال أفريقيا استخدمت الليبيقيَّة لمدة تناهز ألف عام.
ومؤخرا، كتب أستاذ العصور الوسطى بجامعة برينستون الأميركية، فانس سميث، مقالا طويلا حول انتشار الكتابة في القارة الأفريقية، مشيرا إلى اللغة الليبيقيَّة كدليل على أن الأفارقة يكتبون أيضا.
وأردف: حتى بعد 400 عام، لم يتم فك شفرة هذه اللغة بالكامل".
وألقى سميث باللوم على الأوروبيين، قائلا إنه لا توجد نصوص طويلة باقية من شأنها أن تساعد على فهم الأبجدية، وأن ما تعرضت له "تدمير" سمة من سمات الحضارة الأوروبية، التي تنظر للأفارقة على أنهم جنس غير قادر على الكتابة والتأليف.
وأضاف أن فيلسوف ذي حس عال من طينة عالم الاجتماع والمنظر الفرنسي بيير بورديو، الذي كانت تربطه علاقات شخصية عميقة بالجزائر، وكان يدعم الحركة الثقافية الأمازيغية، لم يسلم من السقوط في هذا الفخ بإصراره على أن شعب القبايل، الذين عاش بينهم لسنوات، لم يطور لغة مكتوبة.
ورغم أن بورديو ( 1930- 2002) قد يكون اطلّع على جلّ الاكتشافات الخاصة بالكتابة في شمال أفريقيا، إلا أنه ظل طيلة حياته متمسكا بالطابع الشفوي للشعوب الأمازيغية.
المصدر: أصوات مغاربية