تقع جزر الكناري قبالة الساحل الشمالي الغربي لشمال أفريقيا. وقبل التحرك الإسباني البرتغالي في القرن الـ15 للبحث عن طريق أخرى للوصول إلى مصادر السّكر بآسيا، كانت هذه الجغرافيا مجهولة لصناع الخرائط الأوروبيين.
لكن السكر وسلعا آسيوية فاخرة أخرى - ذات الشعبية الكبيرة وسط الطبقة النبيلة - ألهبت العقول الاستشكافية الأوروبية فدفعتهم للبحث عن بدائل للطرق التقليدية المثقلة بالضرائب والمناكفات مع الامبراطوريات الإسلامية.
حينها، انطلق البحارة الإيبيريون بحثا عن مسارات بحرية جديدة للوصول إلى آسيا، حيث تنتعش زراعة السكر مستفيدة من درجات حرارة استوائية وتربة مواتية، وهطول أمطار يومية، وموسم نمو يدوم 13 شهرا أو أكثر.
وفي طريق البحث عن هذه الممرات، تعثرت سفن الإسبان والبرتغاليون على جزر عدة قبالة سواحل أفريقيا، بما في ذلك جزر الكناري، حيث أسفر الاتصال الأوروبي بهذه المجتمعات المنعزلة منذ مئات السنين عن دمار بشري هائل قضى على الغوانش (Guanches)، وهم السكان الأصليون لهذه الجزر.
ويعتقد المؤرخون أن الغوانش - مثل العديد من الشعوب الأصلية المنعزلة عبر العالم - تأثروا بشدة بالأمراض الأوروبية التي ظهرت خلال فترة الاتصال والاستعمار.
فقد تسبب الإسبان في انتشار بعض الأوبئة (مثل الجدري والحصبة والإنفلونزا) لم تعرفها المناعة الجمعيّة لشعب الغوانش في جزر الكناري، ما تسبب في كارثة ديمغرافية راح ضحيتها نحو 90 في المئة من الأهالي بعد وقت قصير من وصول الأوروبيين.
هل الغوانش أمازيغ؟
يعتقد العديد من المؤرخين أن الأصول الجينولوجية لشعب الغوانش مرتبطة بالشعوب الأمازيغية لشمال أفريقيا، وهم بالتالي امتداد للمجموعة العرقية الأمازيغية بمناطق مغاربية، مثل المغرب والجزائر وتونس وليبيا.
وتؤكد بعض الأدلة الجينية واللغوية وجود هذه العلاقة. وعلى سبيل المثال، فإن لغة "كناريو" (Canario) التي يتحدث بها الغوانش تعتبر شكلا من أشكال اللغات الأمازيغية بتفرعها عن عائلة اللغات الأفرو آسيوية.
وبالإضافة إلى الخصائص القريبة بين اللهجات الأمازيغية و"كناريو"، فقد تم رصد أوجه عدة من التشابه الثقافي، مثل بعض الممارسات الزراعية والفخار والعادات.
ورغم أن النظرية السائدة تشير إلى أن شعب الكناري انحدر من نسل مجموعات الأمازيغ الذين استقروا في هذه الجزر منذ آلاف السنين، إلا أن الأصول الدقيقة وأنماط الهجرة الخاصة بالغوانش ما تزال موضوعات للبحث والجدل والاختلاف بين المختصين.
وفي كتابه "الغوانش.. الأسطورة والواقع: الشعب الغامض لجزر الكناري" (Guanches. Legend and Reality: The Mysterious People of the Canary Islands) للباحث، جوناس بيريز كاماتشو، فإن "فرضية الأصل الأمازيغي للسكان الأوائل لجزر الكناري تبدو مقبولة على نطاق واسع، رغم أنها ليست معلومات قطعية، إذ لا تزال مثيرة للجدل حتى اليوم".
The indigenous people of North Africa are known as Berbers (Amazigh) and share genetic affinities to the native white Guanches of the Canary Islands and Basque People of Europe.
— Robert Sepehr (@robertsepehr) April 9, 2023
Rh- Blood and Antediluvian Civilizationshttps://t.co/x2ABfsM9F0#RobertSepehr #AtlanteanGardens pic.twitter.com/Zj4hKoarZs
ومن وجهة النظر الأثرية واللغوية - يضيف الباحث نفسه - فإن هناك فعلاً أوجه تشابه ثقافي مع قبائل شمال أفريقيا (أمازيغ)، ولكن من وجهة نظر جينيّة، فإن "الأمر يبقى لغزا مستمرا".
ويشير الباحث نفسه إلى أن "نظريات علمية لا حصر لها تقول إن هناك معطيات كافية تكشف الأصول الشمال الأفريقية الأمازيغية للسكان القدامى" للكناري، من قبيل "تشابه الثقافة المادية مثل الفخار اليدوي"، و"الأدوات المصنوعة من الخشب أو العظام"، بالإضافة إلى "الطريقة التي دفنوا بها موتاهم في الكهوف" و"الطبيعة الزراعية للمجتمع".
وعلاوة على كل ذلك، فإن التشابه اللغوي يضاف إلى كل هذه الأدلة، إذ "تربط الأشكال النحوية عند مقارنة الكلمات التي كانت جزءاً من المفردات المستخدمة من قبل الغوانش مع غيرها من اللغات المماثلة من اللغات الليبية الأمازيغية، سكان جزر الكناري مع السكان الأصليين لشمال أفريقيا".
ورغم كل ذلك، فإن وجهة النظر الوراثية ضبّبت الأبحاث التي تربط بين الشعبين، وأضفت طابع اللغز على الأصول الجينيولوجية لشعب الكناري.
ووفقا للباحث، فإن اختبارات الحمض النووي لم تحسم الجدل، بل اكتشفت الدراسات الجينية في جامعة لا لاغونا (University of La Laguna) الإسبانية، تحت إشراف البروفيسور خوسيه ماريا لاروغا، "أنماطاً فردية محددة لسكان جزر الكناري (التكوين الجيني لكروموسوم فردي)، وُجدت في السكان الأصليين والسكان الحاليين، ولكن لم تُظهر تشابهاً في هذا الجانب مع سكان شمال أفريقيا.
في المقابل، يرى الكاتب الإسباني المولود بجزر الكناري، أوسفالدو غِيرّا سانتشيث، أن الأصول الأمازيغية لمواطني هذه المنطقة "ثابتة".
اعادة تشكيل مومياء رفات شعب الغوانش وهم سكان جزر الكناري التي تقع جنوب غرب المغرب وتتبع اداريا لاسبانيا. سميت مذلك هذه الجزر باسم الجزر الخالدات وقد أورد قدامة بن جغفر في كتابه خراج أن سبب التسمية يرجع لأن الفواكه والحبوب والأزهار تنبت بالجزر من تلقاء نفسها بغير زراعة. pic.twitter.com/RoGiDA5min
— ArcheoAnthro|الآثاري (@Archeoanthropo) January 11, 2023
وأضاف، في مقابلة سابقة مع موقع "هسبريس" المغربي، أن "لا أحد، حاليا، مهما كانت معلوماتُه محدودة، يُمكنه أن يشكك في الكُنه الأمازيغي للكناريين والكناريات الحاليين"، مردفا أن هذا الأمر "يؤكده علماء الآثار واللغويون والمؤرخون والأنثروبولوجيون وعلماء الوراثة والجينات، لا سيما علماءُ الجينات الذين حسموا الأمر وبشكل قاطع بعد الدراسات الصارمة التي أنجزتها روزا فريخيل وفريقها" في 2019.
وكانت عالمة الوراثة السكانية في جامعة لا لاغونا، روزا فريخيل، قالت لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية إنها أنجزت أول دراسة قديمة للحمض النووي و"تتضمن بقايا أثرية من جميع جزر الكناري السبع" قوّضت فكرة أن السكان الأصليين للجزر لم يكونوا مستكشفين للبحار، ما يُرجح فرضية انتقالهم من شمال أفريقيا إلى هذه الجزر.
وقالت الصحيفة "يشير الحمض النووي القديم من بقايا الهياكل العظمية الموجودة في جميع أنحاء الجزر الآن إلى أن أوائل رواد الجزر كانوا من شمال أفريقيا الذين ربما وصلوا حوالي 100 ميلادية أو قبل ذلك، واستقروا في كل جزيرة بحلول 1000 ميلادية على الأقل".
وأضافت - نقلا عن هذه الأبحاث - أن "سكان الجزيرة الأوائل كانوا من الأمازيغ من شمال أفريقيا، وهم مجموعة تعيش اليوم في المغرب والجزائر وتونس وليبيا وأجزاء من الصحراء".
المصدر: أصوات مغاربية