في مثل هذا اليوم (الـ27 من ماي 1332 ميلادية) ولد العلامة التونسي، عبد الرحمان بن خلدون، الذي ترك إرثا علمياً هائلا في مجالات كثيرة من علم الاجتماع إلى التاريخ ثم الاقتصاد والسياسية.
ورغم أن ابن تونس ولد في أفريقية، إلا أنه جال بقاع المنطقة المغاربية والإسلامية، وتولى المناصب في الشرق والغرب، كما زكى كبار فلاسفة فكرة نبوغه في مجالات يعتبر اليوم مؤسسا فعليا لها.
وفيما يلي بعض الحقائق عن ابن خلدون:
جذور يمنيّة وأصول تونسية
يرُجع ابن خلدون جذور أجداده إلى حضرموت من اليمن.
ففي كتابه "تاريخ ابن خلدون"، وثّق نسبه بالتفصيل، قائلا إنه ينتمي إلى "عرب اليمن"، وأن أحد أجداده "من أقيال العرب معروف وله صحبة"، أي أنه صحابي إما عاصر أو سمع من النبي محمد مباشرة.
تشرّب ابن خلدون علوم القرآن والحديث من والده مباشرة، كما ساعده عالم رياضيات وفيلسوف من تلمسان يدعى العبيلي في دراسة المنطق والفلسفة، خاصة كتب ابن رشد وابن سينا والرازي.
ترعرع في عالم ضربته جائحة صحية معروفة بـ"الموت الأسود"، وهو طاعون قضى على نصف القارة الأوروبية.
وفقد ابن خلدون والديه والكثير من أساتذته بسبب هذا الوباء الذي لم يستثن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أواسط القرن الرابع عشر.
من المغرب إلى الأندلس ثم الجزائر
ترك ابن خلدون بلاده تونس إلى المغرب الأقصى وبالتحديد مدينة فاس، التي كانت منارة للعلم والعلماء.
في العشرينات من عمره، وصل إلى عاصمة الدولة المرينية ليعايش هناك كبار علماء عصره مثل لسان الدين بن الخطيب وابن البناء المراكشي.
قطع ابن خلدون أيضا البحار إلى غرناطة في 1363 ميلادية، وعاش في إشبيلية.
وذكرت بعض الكتب التاريخية قيامه بوساطة بين المسلمين هناك وملك قشتالة.
بعد سنوات قضاها بين فاس وغرناطة، عقد ابن خلدون العزم في 1379 على الرجوع إلى المنطقة المغاربية، وبالتحديد إلى كل من بجاية وبسكرة الجزائريتين، إذ تؤكد بعض المصادر التاريخية أن الرجل ربطته صداقة متينة بأبي حمو موسى الزياني المعروف (أبو حمو موسى الثاني) وكان حاكما جزائريا إبان الدولة الزيانية.
التوجه شرقاً
تذكر العديد من المراجع التاريخية أن حياة ابن خلدون اتمست في المنطقة المغاربية بالخلافات مع السلاطين ونظرائه على السواء.
فبعد سنوات قضاها بين فاس وغرناطة، سعى للرجوع إلى مسقط رأسه، غير أن بعض فقهاء جامع الزيتونة اعتبروه أكثر عقلانية مما يجب.
وبسبب عداء قديم مع إمام هذا الجامع الشهير، تعرّض ابن خلدون للتهميش واعُتبرت معظم أفكاره "تخريبية".
وتؤكد مصادر أخرى أنه عاش خلافات مع حكام الأندلس، كما قلب له الأمير أبو حمو ظهر المجن، وصار يحرض ضده، فلجأ إلى شرق الإمبراطورية الإسلامية.
في 1382، غادر إلى مصر نحو الحجاز. أثارت مدينة القاهرة إعجابه أكثر مما كان يعتقد. ولأن شهرته سبقته إلى مصر، فقد استقبله السلطان المملوكي الظاهر سيف الدين برقوق (1336- 1399) بحماس شديد ومنحه منصب القاضي.
حاولت عائلة ابن خلدون تعقب خطاه إلى القاهرة، لكن السفينة التي كانت تُقلّهم انهارت أمام عاصفة شديدة قبالة مدينة الإسكندرية، ولم ينج منهم أحد. حمل ابن خلدون هذه الأحزان إلى قبره في مارس 1406، ودُفن معها في القاهرة.
هنا كُتبت "المقدمة"
يحظى كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر في معرفة أيام العرب والعجم والبربر" (الذي تتصدره "المقدمة" الشهيرة) باهتمام واسع لدى رواد كتب التاريخ والعلوم الإنسانية عبر العالم.
فقد استشهد به الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، واعتبر مؤسس شركة فيسبوك مارك زوكربيرغ كتاب "مقدمة ابن خلدون" ضمن أعظم المؤلفات التي تؤثث مكتبته.
ووصف المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد جوزف توينبي مؤلفات ابن خلدون بـ"فلسفة التاريخ التي تعتبر بلا أدنى شك أعظم عمل أنشأه العقل البشري في كل الأصقاع والأزمان".
وتعتبر "المقدمة" مرجعا في علم الاجتماع على الرغم من تناولها قضايا مختلفة على غرار الطب والفلسفة والسياسة والعمران وغيرها. كما اهتمت "المقدمة" بمواضيع رئيسية على غرار نمط حياة المجتمعات، وطرق إدارة شؤون حياتها اليومية، وأسباب تطور الدول والبلدان والعوامل التي تسهم في زوالها.
يُعتقد أن هذا المؤلف كُتب في "مغارة ابن خلدون"، التي لا تزال ماثلة في منطقة تاغزوت بفرندة الواقعة في ولاية تيارت غرب الجزائر.
وكان أستاذ التاريخ الوسيط في جامعة الشلف بالجزائر، قاسمي بختاوي، قال في تصريحات لـ"أصوات مغاربية"، إن ابن خلدون "وصل إلى تيهرت سنة 1375 ميلادية فارا من حكام تلمسان الزيانيين، فاحتضنه أهلها واستقبلوه واستضافوه في قلعة بني سلامة، لكنّه آوى إلى مغارة طلبا للراحة والخلوة".
وأضاف: "استمرت إقامة ابن خلدون في المغارة من 1375 إلى 1379، وهي أربع سنوات ابتعد فيها عن صخب الحياة ليؤلف نظريات ويقص أخبار الدول وقيامها وسقوطها، وأخبار القبائل وطبائع الشعوب".
قاعدة ابن خلدون الذهبية
تعتبر النظرة النقدية الحجر الأساس لفهم فلسفة ابن خلدون في التعاطي مع تاريخ الأمم، فالقاعدة الذهبية عنده تُلخّصها عبارة "إعمال العقل في الخبر"، فليست كل مرويات العصور الماضية صحيحة ومُسلّم بها، وليس التاريخ مقدسا ولا مدنسا، إنما يجب النظر إليه بحياد وتجرد.
يؤكد ابن خلدون، في مواضع كثيرة، أن العيب الذي يعتري التاريخ هو الكذب.
ويضيف أن هناك أسبابا تجعل البشر ميالين للكذب والتحريف في نقل الأخبار والروايات، منها: ولوع النفس بالغرائب، وسهولة التجاوز على اللسان (سوء الفهم)، والتشيعات للآراء والمذاهب، والثقة المفرطة بالناقلين، وتقرب الناقلين من أصحاب السلطة والمراتب ومحاولة إرضائهم، والجهل بطبائع الأحوال في العمران (أي الجهل بالقوانين التي تحكم التغييرات داخل المجتمعات البشرية).
أشهر توطئة بالمقدمة
لعل أشهر العبارات في المقدمة هي تلك التي خصصها للحديث عن "فن التاريخ"، واصفا إياه بواحد من "الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركآئب والرحال وتسموا إلى معرفته السوقة والأغفال وتتنافس فيه الملوك والأقيال وتتساوى في فهمه العلماء الجهال إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار.
مباشرة بعد ذلك، يعود ابن خلدون لينتقد النظرة السائدة في زمانه في النظر إلى التاريخ، قائلا: "إن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صحائف الدفاتر، وأوعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوهَا، وزخارف من الروايات الضعيفة لفقرها ووضعوها، واقتفي تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوهَا، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح -في الغالب- كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل والتقليد عريق في الآدميين وسليل والتطفل على الفنون عريض طويل…".
احتفاء مغاربي دائم
احتفت تونس بعلاّمتها ابن خلدون فأطلقت اسمه على عدد من الأحياء ودور الثقافة، وطبعت صورته على الأوراق المالية وشيدت له السلطات نصبا تذكاريا في شارع الحبيب بورقيبة أبرز شوارع البلاد.
ويتذكر كل طالب مغاربي ابن خلدون بكونه السباق إلى تأسيس علم الاجتماع الحديث قبل الفرنسيين أوغست كونت (1798- 1857) وإميل دوركايم (1858-1917).
ورغم أن ابن خلدون تونسي الجنسية - بمعايير العصر - إلا أن أثره جعل منطقة المغرب الكبير بشكل عام تتخطف إرثه وأثره ليصبح محلّ احتفاء دائم في كل بلد.
المصدر: أصوات مغاربية