يزخر التاريخ الجزائري الحديث، خاصة في مرحلة ما قبل الثورة وبعدها، بالكثير من الأحداث والمواقف ظل أصحابها مثار جدل كبير.
وقد تجدد النقاش حول الموضوع في الأسبوع الأخير، مباشرة بعد إعلان السلطات عن مشروع جديد يتعلق بإنجاز تمثال شاهق للأمير عبد اللقادر بمدينة وهران، غرب البلاد، الأمر الذي أثار ردود فعل متباينة بين المدعمين لهذه الخطوة والرافضين لها.
وبقدر الثقل الكبير الذي تتمتع به عديد الشخصيات التاريخية، على غرار الأمير ومجموعة أخرى من المناضلين الأوائل في الحركة الوطنية، في ذاكرة الجزائريين، بقدر ما تبقى مواقف اتخذوها في سبيل الدفاع عن مشروع استقلال الجزائر محل أخذ ورد بين الباحثين والمهتمين بالتاريخ وكذا عموم الجزائريين.
- الأمير عبد القادر.. نهاية مثيرة
يصف أغلب المؤرخين والسياسيين في الجزائر الأمير عبد القادر بأنه مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة نظير ما قدمه لمشروع تحرير هذا البلد المغاربي من قبضة الاستعمار الفرنسي.
ومنذ مبايعته تحت شجرة الدرادارة بولاية معسكر، غرب البلاد، بتاريخ 27 نوفمبر 1832 كقائد لمقاومة الجزئريين ضد الاستعمار الفرنسي، خاض الأمير عبد القادر الكثير من الحروب لم تتوقف إلى غاية 1847، قبل أن يضطر للاستسلام إلى القوات الفرنسية تحت ضغط قواتها العسكرية.
وتختلف تفسيرات وقراءات المؤرخين للأسباب التي أدت بالأمير عبد القادر إلى توقيع "معاهدة الاستسلام" وتوقيف العمليات العسكرية ضد الجيش الفرنسي.
وقد حاول بعض الباحثين تقديم مبررات موضوعية فرضت على الأمير هذا الموقف، يأتي على رأسها عوامل الوهن والضعف التي أحاطت بمشروعه خاصة بعد سنة 1838، والخيانات التي تعرض لها من قبل بعض القبائل، فضلا عن ضغوطات خارجية، كان أبرزها موقف السلطان المغربي آنذاك من مقاومته آنذاك.
وقبل عامين، تسبب موضوع "استسلام الأمير عبد القادر" في سجن نورالدين آيت حمودة، البرلماني الأسبق ونجل العقيد عميروش أحد قادة ثورة التحرير بعد الاتهامات التي وجهها للأمير بخصوص قراره المتعلق بـ "الرضوخ للإرادة الاستعمارية وإنهاء العمل العسكري ضد قواته العسكرية"، وهي التصريحات أثارت زوبعة كبيرة وسط الجزائريين، حيث عبر العديد منهم عن رفضه لما جاء في تلك التصريحات، قبل أن يحرك القضاء دعوى عمومية ضد صاحبها ليجد نفسه في السجن بتهمة الإساءة إلى واحد من أهم الرموز التاريخية في الجزائر.
- مصالي الحاج.. أسئلة الثورة والأمازيغية
رغم كل ما قدمه للحركة الوطنية، ورغم كذلك موقفه الحازم من الاستعمار الفرنسي منذ بدايات القرن الماضي، عندما طالب بالاستقلال التام للجزائر، إلا أن اسمه وسيرته ونضاله ظلت جميعها من المواضيع المحظورة على المستوى الرسمي منذ استقلال الجزائر إلى غاية مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم، حيث قرر إعادة الاعتبار له من جديد وإطلاق اسمه على بعض المشاريع الجديدة.
هذه باختصار قصة مصالي الحاج الملقب بـ"أب الحركة الوطنية" في الجزائر، ومربي المناضلين الذين سيعلنون الثورة ضد المستعمر في الفاتح من نوفمبر 1954.
بزغ اسم مصالي الحاج بداية من سنة 1926 عندما انخرط مع مجموعة من المهارجين المغاربيين بفرنسا وقاموا بتأسيس حزب "نجم شمال أفريقيا" للمطالبة بإلغاء قانون الأهالي وبالعفو عن المسجونين، في البداية، قبل أن يرفع سقف مطالبه إلى حد المطالبة باستقلال الجزائر عن فرنسا الذي انزعجت من ذلك فقررت حل هذه التشكيلة السياسية في 1937.
لكنه لم ييأس وأسس بعد ذلك "حزب الشعب الجزائري" الذي ظل يصر على المطالبة باستقلال الجزائر إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة المتعلقة بتفجير ثورة 1954، حيث أبدى مصالي الحاج ترددا كبيرا بشأن هذا المسعى وفضل الاستمرار في عمله السياسي كبديل عن العمل المسلح لتحقيق فكرة الاستقلال.
وقد جلب له هذا الموقف غضب كبار قادة الثورة الجزائرية وانتقادات كبيرة على مر التاريخ وصلت إلى حد "التخوين".
ويوجد في مسيرة الرجل موقف آخر لا يقل إثارة عن هذا الموضوع، يتعلق بـ "الأمازيغية"، حيث يُتهم لدى أوساط عديدة بـ "رفضه الاعترفه بالمكون الأمازيغي للشخصية الجزائرية"، وهو الأمر الذي تسبب في ظهور ما يعرف بـ "الأزمة البربرية" داخل حزب الشعب في سنة 1949.
- عبان رمضان.. إعدام وصراع
عندما تقرأ عن مؤتمر الصومام، وهو واحد من أهم المحطات التاريخية في ثورة الجزائريين ضد المستعمر، ستصادفك حتما شخصية مهمة تبقى محل جدل متواصل بين المؤرخين والباحثين وحتى بين القادة أنفسهم الذين خططوا لهذه الثورة.
المقصود هنا هو عبان رمضان الذي يلقبه البعض بمهندس مؤتمر الصومام في سنة 1956، والذي جاء لإعادة تنظيم الثورة والمنتسبين إليها بهدف مواصلة المقاومة ضد الجيش الفرنسي بعد مضي عامين عن انطلاقها في 1954.
وقد ولد عبان رمضان يوم 15 جوان 1920 بقرية عزوزة بمنطقة القبائل، زاول تعليمه إلى غاية حصوله على البكالوريا نهاية الأربعينات،ما أهله ليكون واحدا من القادة المثقفين لثورة الجزائريين.
من المبادئ الأساسية التي عمل على ترسيخها هي تكريس فكرة أسبقية الرجل السياسي عن العسكري في اتخاذ القرارات الاستراتيجية وأولوية القادة في داخل البلاد عن أولئك الذين يتواجدون في الخارج، وهو توجه جدلي لم يقتنع به العديد كبار المسؤولين عن الثورة.
وبتاريخ 27 ديسمبر 1957 أُعلن عن وفاة عبان رمضان في "ميدان الشرف" كما جاء في جريدة "المجاهد"، الناطق الرسمي باسم الثورة الجزائرية وقتها، لكن الحقيقة التي تم الكشف عنها فيما بعد أكدت تعرض الأخير لعملية اغتيال من طرف "رفاق السلاح" بالأراضي المغربية.
وقبل سنوات، أصدر الدكتور بلعيد عبان، وهو ابن عم عبان رمضان، مؤلفا تحت عنوان "حقائق دون طابو.. اغيتال عبان، من وكيف ولماذا وماذا بعد؟"، يحكي فيه تفاصيل الاغتيال ويوجّه الاتهام لبعض الأسماء.
ويصف بلعيد عملية الاغتيال في كتابه بـ"المافياوية"، إذ جاء القرار من "بوصوف بمباركة كريم بلقاسم، وبتنفيذ محمد رواعي وجعفر لخنازن ومحمد عبدلي".
أما العقيد لحضر بن طوبال، أحد أبرز قادة الثورة، فيقول في مذكراته "قضية عبان تم طرحها أمام هيئة التنفيذ والتنسيق كقيادة وطنية للثورة بسبب سلوكيات عبان المهددة للثورة، والتي تطورت مع الوقت وأخذت أشكالا مختلفة، من بينها التواصل مع قيادات الجيش من المنشقين على الحدود، وحتى داخل الولايات، كما حصل مع قيادة الولاية الأولى والتشكيك في الحكومة المؤقتة ومؤسسات الثورة الأخرى، ما فرض على المجموعة اللجوء إلى ما اعتبرته تنفيذ حكم في حق الرجل".
المصدر: أصوات مغاربية