في الـ 30 من ماي 1837، أجبرت المقاومة الشرسة للأمير عبد القادر الجزائري، الفرنسيين على توقيع "معاهدة تافنة"، التي جعلت منه الحاكم الفعلي لثلثي الأراضي الجزائرية.
وتطرّقت هذه المعاهدة إلى وضع فرنسا بالجزائر، لكن الاختلافات بين النسختين الفرنسية والعربية، جعلت الموقف النهائي للأمير من "السيادة الفرنسية" مسألة غير محسومة، إذ وضع عبد القادر ختمه على النسخة العربية فقط، بينما تبنّت فرنسا النسخة المكتوبة بلغتها.
ووفق الباحث الأميركي، جون دبليو كايزر، الذي ألّف كتابا حول حياة الأمير الثائر، فإن أهمّ فصل في المعاهدة - التي وُقعت قرب وادي تافنة الواقع في التقطيع الجغرافي الحديث في بلدية الأمير عبد القادر (غرب) - هو البند الأول.
وينُصّ هذا الفصل من النسخة الفرنسية على أن الأمير "يعترف بسيادة فرنسا"، بينما تشير النسخة العربية إلى إقراره بهيبة "السلطان"، لكن لم يحدد طبيعة هذا السلطان، ما فتح الباب للتأويلات المختلفة.
ووفق الباحث الأميركي، فإن المعنى الأوروبي لكلمة "السيادة" كان يصعب ترجمتها من الفرنسية إلى العربية بسبب المعرفة اللغوية الضئيلة لمترجم سوري عمل لدى الجنرال الفرنسي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الأمير "كان يعلم أن الاعتراف بالسيادة الفرنسية أمر غير مقبول".
واعتبر الباحث نفسه أن هذه المعاهدة رفعت مكانة الأمير بين العرب.
من يكون عبد القادر؟
ولد الأمير عبد القادر بن مُحيِ الدين في عام 1808 بقرية القيطنة قرب مدينة معسكر بنواحي وهران، غرب الجزائر.
كان والده شيخاً للطريقة الصوفية الشاذلية. فتح عبد القادر عينيه على قراءة القرآن وحفظ المتون والتفسير، فترعرع أيضا صوفي المذهب، ونال الإجازة في القرآن والحديث وبدأ في سن يافعة في إلقاء المحاضرات الدينية بالمسجد التابع لعائلته.
ورغم نبوغه في المعرفة الدينية، إلا أنه انفتح أيضا على علوم العصر، إذ سافر إلى وهران حيث تعلم التاريخ والفلسفة والرياضيات وعلم الفلك والطب، على يد كبار علمائها.
عندما احتلت فرنسا الجزائر في 1830 كان الأمير عبد القادر قد بلغ الـ24 من العمر، وكان سيدا في قومه بفضل علمه الغزير، لذلك قادهم لاحقا في عمليات تحرير البلاد من الاستعمار.
17 عاما من المقاومة
يُعد الأمير عبد القادر من أشرس المقاومين الذين أوجعوا فرنسا في حروب تمدّدها بأفريقيا.
فقد دامت ثورته 17 سنة كاملة، هزم فيها جنرالات وأرغم آخرين على توقيع اتفاقيات هدنة معه.
وبالإضافة إلى معاهدة تافنة، فإن عبد القادر الجزائري تمكّن من مناورة الجيوش المحتلة بأسلوب الكر والفر العسكري، ما أجبر فرنسا على توقيع "معاهدة دي ميشال" بوهران في 1834.
ووفقا لمراجع تاريخية، فإن معاهدة دي ميشال جعلت فرنسا تعترف للأمير بالسلطة على الغرب الجزائري ما عدا وهران وأرزيو ومستغانم.
البيعة بعد فوضى
يوم 27 نوفمبر 1832، اجتمعت القبائل الجزائرية لمنطقة غريس التابعة لولاية معسكر تحت شجرة الدردار لمبايعة عبد القادر أميرا عليهم.
وفي الأشهر الموالية، اتسعت جموع المبايعين.
وفي الأصل، التأم الجزائريون وراء عبد القادر لوقف الانتشار السريع للفوضى إثر توقيع الداي حسين "معاهدة الاستسلام" الشهيرة باتفاقية "دي بورمن"، وهو اسم الماريشال الفرنسي وقائد قوات جيوش الاحتلال التي تسلمت مفاتيح العاصمة في الخامس من يوليو 1830.
معارك.. ثم استسلام
سلّم الأمير عبد القادر سلاحه سنة 1847 في مدينة الغزوات، غرب البلاد، بعدما خاض 116 معركة واجه فيها 120 جنرالا وخمسة ملوك فرنسيين.
استمرت انتصاراته حتى العام 1839، حيث بدأ يفقد دعم شيوخ القبائل والزوايا الصوفية، التي كانت تزوده بالمدد المادي والبشري.
الرحيل شرقاً لكن
وبحسب بعض الروايات التاريخية، فقد اتفق الأمير مع الفرنسيين على أن يهاجر نحو الإسكندرية في مصر، لكنه تعرض لخديعة استعمارية، إذ اقتيد "غدرا" رفقة أسرته وحاشيته إلى فرنسا.
ويتبنّى الباحث الأميركي، جون دبليو كايزر، هذا الطرح، مشيرا إلى أن عبد القادر كان يريد أن يمر من الإسكندرية نحو مكة، لكن أفجعته فرنسا بعد أن نكثت بوعدها له.
لم تنفّذ فرنسا وعدها للأمير إلا في سنة 1852، حيث توجّه ملكها نابليون الثالث بنفسه إلى الأمير عبد القادر ووعده بالاستجابة لرغبته الأولى المتمثلة في التوجه إلى الشرق وتحديدا إلى دمشق في سورية.
الأمير في الذاكرة
ما تزال ذاكرة الأمير خالدة بين الجزائريين ووسط الأحرار بالعالم، إذ أضحت تركته في الكفاح رمزا للاستقلال والحرية.
وخلال الأسبوع الماضي، أعلنت السلطات في بلاده إقامة تمثال له هو الأعلى في العالم بتكلفة تتجاوز 8.5 مليون دولار.
وعالمياً، كانت الولايات المتحدة الأميركية الدولة الأولى التي تحتفي بالأمير بطريقة خاصة لم يسبق لها مثيل. ففي سنة 1846 تأسست مدينة "القادر" في ولاية آيوا.
وحتى فرنسا - التي قاتلته وقاتلها - شيدت نصبا تذكاريا للأمير في بلدة أمبواز العام الماضي، وهو عبارة عن لوحة منحوتة قرب قلعة "أمبواز" الملكية، التي سجن فيها الأمير عبد القادر من 1848 إلى 1852.
وفي دمشق، التي احتضنت جثمانه بين 1883 و1965، فقد تحوّل قصره هناك إلى متحف يزوره السياح.
بعد الاستقلال، نُقل الثائر الجزائري إلى مقبرة العالية بالعاصمة، التي تعد مدفن الرؤساء والزعماء الجزائريين.
المصدر: أصوات مغاربية