من أوروبا إلى أميركا، تحمل الكثير من المدن الغربية اسم سيدة أمازيغية ولدت وترعرعت في جغرافيا الجزائر المعاصرة ويتبرك بها المسيحيون الكاثوليك والأرثوذكس معاً، بل تُعدّ "عميدة القديسات المسيحيات".
خلّفت "القديسة مونيكا" أو "سانتا مونيكا" (Santa Monica)، التي تُنسب إلى أمازيغ مقاطعة نوميديا الرومانية، أثراً كبيراً على التاريخ المسيحي، إذ تُذكر وتُبجل لدورها كأم مُخلصة بسبب تأثيرها لهداية ابنها الفيلسوف أوغسطينوس (أحيانا "أوغسطين")، وهو الرجل الذي سيطبع المسيحية والفلسفة والفكر الديني، ويُلهم الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر.
"الزوجة التقيّة.. والأم المثالية"
رأت مونيكا النور في 332 ميلادية في مدينة طاغاست النوميدية التابعة للإمبراطورية الرومانية، وتقع حاليا في ولاية "سوق أهراس" في الشرق الجزائري على الحدود التونسية.
وكما جرت العادة في العالم القديم، كانت الفتيات يُرغمن على الزواج مبكرا، فدُفع بمونيكا إلى الارتباط برجل وثني كان يعمل ضابطا بالجيش الروماني، لكن أذاقها المرارات بسبب ما تعتبره الكتابات المسيحية اللاحقة "ميولات فسوقية"، و"فجور" ممزوج بـ"العنف".
واجهت مونيكا هذا البلاء - بحسب هذه المرويات - بالصبر والورع واستثمار كل جهودها في تربية أطفالها الثلاثة، وخاصة أوغسطينوس، الذي تجشّم عناء الأمراض في طفولته.
عندما انتابته نوبة مرض شديدة، توسلت مونيكا زوجها بأن يسمح لها بتعميد أوغسطينوس مسيحياً قبل وفاته، وهو ما وافق عليه لكن شريطة عدم تأمين أي طقوس أخرى لإدخال الطفلين الآخرين إلى الديانة المسيحية. وبعد أيام على هذا الطلب، تعافى الصبي فتراجع الأبد عن تعميد ابنه.
بيد أن ما كانت مونيكا تعتقد بأنه بركات الشفاء الرباني تحوّل إلى امتحان جديد في الصبر والشقاء، إذ بدأ المراهق أوغسطينوس يقتفي آثر والده في العصيان والانحلال والتهتك. عندما بلغ الـ16 من عمره، أُرسل إلى مدرسة بـ"ماداوروس"، وكانت مقاطعة رومانية أمازيغية، تقع حاليا في مدينة مداوروش بولاية سوق أهراس.
وإثر وفاة والده، انتقل إلى ما يعرف بتونس حالياً للدراسة في مدينة قرطاج. وهناك اعتنق الديانة المانوية، ما سبّب شرخا شديدا في علاقته بوالدته التي طردته طرداً من البيت، وصارت تبكي "آناء الليل وأطراف النهار"، حتى أصبحت دموعها الحارة مردفا للبكاء الشديد في اللغة اللاتينية.
وتؤكد الروايات المسيحية أن مونيكا شهدت رؤيا أقنعتها بالتصالح مع الابن "الضال"، وهو ما أكدته أيضا زيارتها لأحد أبرز الأساقفة الذي عزّاها بالعبارة الشهيرة "إن الابن الذي ذرفت من أجله كل تلك الدموع لن يهلك أبداً".
"هدية مونيكا" للعالم المسيحي
بعد 17 عاما من العناد، اعتنق أوغسطينوس أخيرا المسحية في ميلانو (إيطاليا حاليا)، حيث التحقت به والدته.
وفي مجلده "الاعترافات"، يحكي أوغسطينوس في كتبه التسعة الأولى سيرة الشكوك الفلسفية والتحليلات الأفلاطونية التي كانت تقض مضجعه حول مكان الإنسان في الكون، ومواضيع أخرى مثل كيف تحوّل إلى المسيحية، وعلاقته بوالدته التي وصفها بـ"أسمى الأصدقاء".
بعد الطقوس التعميدية لـ"أوغسطينوس" في كنيسة القديس يوحنا المعمدان في ميلانو، غادرت مونيكا في رحلة الرجوع رفقة نجلها التائب إلى أفريقيا، وتوقفا في مدينة أوستيا الإيطالية. وفي هذا الجغرافيا القريبة من عاصمة الإمبراطورية الرومانية، تُوفيت مونيكا ودُفنت.
عاد أوغسطينوس وحيدا ينهكه الغم إلى مسقط رأسه، فقام بتأسيس دير للرهان. وفي 391 ميلادية، أصبح كاهنا ثم تحوّل إلى واعظ شهير، فانبرى ينسف المعتقدات غير المسيحية وعلى رأسها ديانته السابقة "المانوية"، مستخدما الفلسفة وأسلحة الحجاج المنطقي التي تدّرب عليها في سنوات "الضلال".
ذاع صيت الرجل وسط علماء اللاهوت المسيحيين بعد تعيينه أسقفا، كما اكتسب قلوب المؤمنين عامة بسبب حياة الزهد التي تبناها طوال ما تبقى من عمره.
أصبح أوغسطينوس يُنعت بهدية "القديسة مونيكا" للعالم المسيحي. وفي القرون اللاحقة، بدأ المسيحيون يتبركون بالقديسة مونيكا ويتلون الأدعية باسمها. وفي عام 1430، أمر البابا "مارتن الخامس" بإحضار ما تبقى من الأشياء التي كانت تمتلكها قيد حياتها إلى روما، بالإضافة إلى توثيق معجزاتها. قامت الكنيسة الكاثوليكية أيضا ببناء كاتدرائية ضخمة تحمل اسم ابنها "أوغسطينوس" وتأوي رفات القديسة مونيكا.
انتشر اسم مونيكا – وما يزال – بشكل واسع بين المواليد الإناث في العالم المسيحي، وحملت العديد من المدن من أوروبا إلى أميركا اسمها، وأشهر هذه المدن "سانتا مونيكا" الساحلية الخلابة في مقاطعة لوس أنجليس بولاية كاليفورنيا الأميركية.
المصدر: أصوات مغاربية