"أحمدُ مبارك فال" - أو كما يُعرف في حلبات المصارعة "باتلين سيكي" (Battling Siki) - هو رياضي موريتاني عاش محن العنصرية غرباً خلال حقبة الاستعمار، وظلت ذاكرته منسيًة في وطنه، شرقاً.
وصل هذا الملاكم إلى العالمية في ظل الاحتلال الفرنسي للمنطقة الموريتانية المحاذية لما يعرف اليوم بمدينة "سانت لويس"، التي ستُصبح بعد رحيل الاستعمار عن القارة الأفريقية جزءا من جغرافية السنغال الحديثة.
وفي ظل ضعف اهتمام الموريتانيين بذاكرة هذا البطل وأمجاده، فقد نسب السنغاليون إرثه إلى بلادهم و استعادوا جثمانه من الولايات المتحدة في تسعينات القرن الماضي وروّجوا له كرمز للإنسان الأفريقي الذي تحدّى القهر ووصل للعالمية.
"هرقل الأدغال"
ولد أحمدُ - الذي حمل أيضا في الأوراق الرسمية الفرنسية اسم لويس - في 16 سبتمبر 1897 بأقصى جنوب موريتانيا على الحدود مع السنغال. كانت هذه المناطق الساحلية، التي ستصبح لاحقا مسرحاً لنزاعات حدودية موريتانية-سنغالية، تابعة للاستعمار الفرنسي منذ مطلع القرن العشرين.
ترعرع أحمدُ في قرية ضواحي مدينة "أندر"، التي سماها الفرنسيون "سانت لويس"، والتي كانت مركزا حضريا وتجاريا بالساحل الموريتاني، قبل أن يغادرها إلى أوروبا في حدود الثامنة من عمره، وفي بعض الروايات عندما كان في الـ14 من عمره.
لكن الروايات متضاربة أيضا إزاء طريقة وصوله إلى فرنسا، إذ يذهب بعضها إلى أنه حظي بعطف الأوروبيين خلال ألعاب الغوص، فقد غطس من أعلى منحدر لجلب نقود معدنية ألقاها فرنسي "متعجرف" في بركة بحرية.
خطف الشاب الموريتاني أنظار - ويُقال أيضا قلب - راقصة هولندية شهيرة وعرضت عليه اصطحابه إلى أوروبا. وهناك، بدأ مسيرته في الملاكمة بعد الانتهاء يومياً من غسل الأطباق في أحد المطاعم، وهي الوظيفة التي ركن إليها في السنوات الأولى بالمهجر.
لكن لكمات الشاب أحمدُ في الحلبات سرعان ما وضعته في خارطة الملاكمين الهواة، قبل أن يقتحم الاحتراف بتحقيقه أرقام قياسية بثمانية انتصارات وستة خسائر وتعادلين بين عامي 1912 إلى عام 1914 .
أصبح معروفا في أوساط الملاكمين بلقب "هرقل الأدغال" (Jungle Hercules)، إذ وصفته إحدى الصحف الفرنسية بمزيج من الإعجاب والاستعلاء العنصري بـ"الرجل ذي العضلات المفتولة والبشرة السوداء الداكنة والأسنان البيضاء المتراصة، الذي يُقاتل مثل النمر"، والذي قيل عنه أيضا إنه "تلقى ضربة على رأسه بمطرقة حديد، وبالكاد شعر بها".
نِزال العمر.. ثم البطولة
أوقفت الحرب العالمية الأولى المُستعرة في 1914 الكثير من الأنشطة الرياضية بأوروبا، كما أربكت الصعود السريع لأحمد ( أو "باتلين سيكي")، فقرر الانضمام إلى الجيش الفرنسي للقتال ضمن فوج المشاة الاستعماري الثامن.
خلال خدمته بالجيش، حصل على الوسام العسكري الفرنسي المرموق "صليب الحرب" ( Croix De Guerre)، كما مُنح أيضا "الميدالية العسكرية" (Médaille Militaire)، وهو ثالث أعلى وسام في الجمهورية الفرنسية.
بعد فترة الحرب، استأنف أحمدُ الملاكمة، وحقق انتصارات باهرة في شتاء 1920 في مدينة أمستردام الهولندية، حيث قرّر الارتباط بشابة هولندية أخرى تدعى "لينتجاه" (Lijntje)، وهي التي ستُصبح زوجته.
في 1922، انتهز فرصة نزال الوزن الخفيف الثقيل في مواجهة البطل العالمي الشهير، جورج كاربنتر الذي كان يعتبر هذا النزال مجرد محطة عابرة ومواجهة بسيطة، لكنها كانت فرصة العمر بالنسبة لأحمدُ لإثبات نفسه.
ذهبت كل التوقعات إلى أن الفرنسي كاربنتر سيستعرض عضلاته أمام 50 ألف مشجع - وبينهم الروائي الأميركي الكبير إرنست همينغوي - على مضمار "بافالو فيلودروم" (Buffalo Velodrome) في باريس.
أقيمت المباراة بقيمة "مليون فرنك"، وهو مبلغ ضخم، انفلت من قبضة البطل الأوروبي، الذي تعرض لضربات أحمدُ القاتلة في الجولات الأخيرة من النزال، فتحطمت أسطورة كاربنتر، الذي لم يستعد أبدا أمجاده بعد هذه الكارثة.
خرج أحمدُ من النزال بدعم جماهيري واسع، فحينما قرر الحكم منح البطولة لـ"كاربنتر" بداعي تعرضه لعرقلة "غير أخلاقية"، انتفضت الجماهير ما دفع الحكم إلى إعلان الملاكم الموريتاني بطلاً عالمياً.
لم يكن من المفترض بالنسبة للنخبة الرياضية الفرنسية فوز أحمدُ على البطل القومي، فقد اعترف الشاب الموريتاني لاحقا أنهم عرضوا عليه المال للسماح بفوز كاربنتر، لكن ظروف المقابلة واللكمات، التي تعرّض لها جعلته يستجمع قواه في الجولة الرابعة ويسدد بمزيج من العنف والغضب لكمة قوية منحته لقب "البطل".
بعد تربعه على عرش الملاكمة، اتخذت حياة أحمدُ منعطفاً نحو الشهرة والفضائح ثم الأفول، إذ تذكر صحف المرحلة أنه تبنّى شبلين صغيرين وصار يستعرضهما في حفلاته الباذخة وأثناء تجواله الدائم في شارع الشانزليزيه الباريسي.
دفن البطل الشاب موهبته سريعاً في الملاهي الليلية. وبعد انتقاله إلى الولايات المتحدة، تبخرت الأموال والأمجاد الرياضية والشهرة. وبحلول عام 1925، صار يقترض ويرفض دفع ديونه، وارتاد مرارا زنازين السجن في نيويورك.
وفي ليلة باردة من 15 ديسمبر 1925، قُتل أحمدُ مبارك فال - وعمره 28 عاما - في وسط الشارع في الجانب الغربي من نيويورك بعد أن تلقى رصاصتين في ظهره. ويُعتقد أن قُتل انتقاماً بسبب بعض الديون غير المسددة، لكن ظروف الجريمة ما تزال غامضة.
دُفن البطل الموريتاني في نيويورك وفي عام 1991 أعيد رفاته إلى السنغال.
المصدر: أصوات مغاربية/ وسائل إعلام أميركية