"أحمدُ مبارك فال" رفقة وكيل أعماله الفرنسي، لويس ديفريمونت في باريس عام 1923
"أحمدُ مبارك فال" رفقة وكيل أعماله الفرنسي، لويس ديفريمونت في باريس عام 1923

"أحمدُ مبارك فال" -  أو كما يُعرف في حلبات المصارعة "باتلين سيكي" (Battling Siki) - هو رياضي موريتاني عاش محن العنصرية غرباً خلال حقبة الاستعمار، وظلت ذاكرته منسيًة في وطنه، شرقاً.

وصل هذا الملاكم إلى العالمية في ظل الاحتلال الفرنسي للمنطقة الموريتانية المحاذية لما يعرف اليوم بمدينة "سانت لويس"، التي ستُصبح بعد رحيل الاستعمار عن القارة الأفريقية جزءا من جغرافية السنغال الحديثة. 

وفي ظل ضعف اهتمام الموريتانيين بذاكرة هذا البطل وأمجاده، فقد نسب السنغاليون إرثه إلى بلادهم و استعادوا جثمانه من الولايات المتحدة في تسعينات القرن الماضي وروّجوا له كرمز للإنسان الأفريقي الذي تحدّى القهر ووصل للعالمية. 

"هرقل الأدغال"

ولد أحمدُ - الذي حمل أيضا  في الأوراق الرسمية الفرنسية اسم لويس - في 16 سبتمبر 1897 بأقصى جنوب موريتانيا على الحدود مع السنغال. كانت هذه المناطق الساحلية، التي ستصبح لاحقا مسرحاً لنزاعات حدودية موريتانية-سنغالية، تابعة للاستعمار الفرنسي منذ مطلع القرن العشرين.

ترعرع أحمدُ في قرية ضواحي مدينة "أندر"، التي سماها الفرنسيون "سانت لويس"، والتي كانت مركزا حضريا وتجاريا بالساحل الموريتاني، قبل أن يغادرها إلى أوروبا في حدود الثامنة من عمره، وفي بعض الروايات عندما كان في الـ14 من عمره. 

لكن الروايات متضاربة أيضا إزاء طريقة وصوله إلى فرنسا، إذ يذهب بعضها إلى أنه حظي بعطف الأوروبيين خلال ألعاب الغوص، فقد غطس من أعلى منحدر لجلب نقود معدنية ألقاها فرنسي "متعجرف" في بركة بحرية.

خطف الشاب الموريتاني أنظار - ويُقال أيضا قلب - راقصة هولندية شهيرة وعرضت عليه اصطحابه إلى أوروبا. وهناك، بدأ مسيرته في الملاكمة بعد الانتهاء يومياً من غسل الأطباق في أحد المطاعم، وهي الوظيفة التي ركن إليها في السنوات الأولى بالمهجر. 

لكن لكمات الشاب أحمدُ في الحلبات سرعان ما وضعته في خارطة الملاكمين الهواة، قبل أن يقتحم الاحتراف بتحقيقه أرقام قياسية بثمانية انتصارات وستة خسائر وتعادلين بين عامي 1912 إلى عام 1914 .

أصبح معروفا في أوساط الملاكمين بلقب "هرقل الأدغال" (Jungle Hercules)، إذ وصفته إحدى الصحف الفرنسية بمزيج من الإعجاب والاستعلاء العنصري بـ"الرجل ذي العضلات المفتولة والبشرة السوداء الداكنة والأسنان البيضاء المتراصة، الذي يُقاتل مثل النمر"، والذي قيل عنه أيضا إنه "تلقى ضربة على رأسه بمطرقة حديد، وبالكاد شعر بها". 

نِزال العمر.. ثم البطولة

أوقفت الحرب العالمية الأولى المُستعرة في 1914 الكثير من الأنشطة الرياضية بأوروبا، كما أربكت الصعود السريع لأحمد ( أو "باتلين سيكي")، فقرر الانضمام إلى الجيش الفرنسي للقتال ضمن فوج المشاة الاستعماري الثامن.

خلال خدمته بالجيش، حصل على الوسام العسكري الفرنسي المرموق "صليب الحرب" ( Croix De Guerre)، كما مُنح أيضا "الميدالية العسكرية" (Médaille Militaire)، وهو ثالث أعلى وسام في الجمهورية الفرنسية.

بعد فترة الحرب، استأنف أحمدُ الملاكمة، وحقق انتصارات باهرة في شتاء 1920 في مدينة أمستردام الهولندية، حيث قرّر الارتباط بشابة هولندية أخرى تدعى "لينتجاه" (Lijntje)، وهي التي ستُصبح زوجته. 

في 1922، انتهز فرصة نزال الوزن الخفيف الثقيل في مواجهة البطل العالمي الشهير، جورج كاربنتر الذي كان يعتبر هذا النزال مجرد محطة عابرة ومواجهة بسيطة، لكنها كانت فرصة العمر بالنسبة لأحمدُ لإثبات نفسه. 

ذهبت كل التوقعات إلى أن الفرنسي كاربنتر سيستعرض عضلاته أمام 50 ألف مشجع - وبينهم الروائي الأميركي الكبير إرنست همينغوي - على مضمار "بافالو فيلودروم" (Buffalo Velodrome​​) في باريس.

أقيمت المباراة بقيمة "مليون فرنك"، وهو مبلغ ضخم، انفلت من قبضة البطل الأوروبي، الذي تعرض لضربات أحمدُ القاتلة في الجولات الأخيرة من النزال، فتحطمت أسطورة كاربنتر، الذي لم يستعد أبدا أمجاده بعد هذه الكارثة. 

خرج أحمدُ من النزال بدعم جماهيري واسع، فحينما قرر الحكم منح البطولة لـ"كاربنتر" بداعي تعرضه لعرقلة "غير أخلاقية"، انتفضت الجماهير ما دفع الحكم إلى إعلان الملاكم الموريتاني بطلاً عالمياً. 

لم يكن من المفترض بالنسبة للنخبة الرياضية الفرنسية فوز أحمدُ على البطل القومي، فقد اعترف الشاب الموريتاني لاحقا أنهم عرضوا عليه المال للسماح بفوز كاربنتر، لكن ظروف المقابلة واللكمات، التي تعرّض لها جعلته يستجمع قواه في الجولة الرابعة ويسدد بمزيج من العنف والغضب لكمة قوية منحته لقب "البطل".

بعد تربعه على عرش الملاكمة، اتخذت حياة أحمدُ منعطفاً نحو الشهرة والفضائح ثم الأفول، إذ تذكر صحف المرحلة أنه تبنّى شبلين صغيرين وصار يستعرضهما في حفلاته الباذخة وأثناء تجواله الدائم في شارع الشانزليزيه الباريسي.  

دفن البطل الشاب موهبته سريعاً في الملاهي الليلية. وبعد انتقاله إلى الولايات المتحدة، تبخرت الأموال والأمجاد الرياضية والشهرة. وبحلول عام 1925، صار يقترض ويرفض دفع ديونه، وارتاد مرارا زنازين السجن في نيويورك. 

وفي ليلة باردة من 15 ديسمبر 1925، قُتل أحمدُ مبارك فال - وعمره 28 عاما - في وسط الشارع في الجانب الغربي من نيويورك بعد أن تلقى رصاصتين في ظهره. ويُعتقد أن قُتل انتقاماً بسبب بعض الديون غير المسددة، لكن ظروف الجريمة ما تزال غامضة.

دُفن البطل الموريتاني في نيويورك وفي عام 1991 أعيد رفاته إلى السنغال.

المصدر: أصوات مغاربية/ وسائل إعلام أميركية

مواضيع ذات صلة

مكناس
جانب من السور التاريخي لمدينة مكناس

نالت أغنية "شويّخ من أرض مكناس" إعجاب الآلاف وربما الملايين من المستمعين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في السنوات الأخيرة، وزاد انتشارها بعد أن أداها عدد من كبار الفنانين في المنطقة.

ورغم ترديد الجمهور لها إلا أن الكثيرين قد لا يعلمون أن تاريخ كلمات هذه الأغنية يعود لأزيد من 700 سنة.

أصل الأغنية

تنتمي أغنية "شويّخ من أرض مكناس" إلى الزجل الأندلسي، وهي من تأليف الشاعر أبو الحسن الششتري المولود في كنف أسرة ميسورة بغرناطة عام 1212 م.

قصيدة شويخ من ارض مكناس لأبي الحسن الششتري الاندلسي ، كتبت بالاصل في المغرب ، واشتهرت في العراق ودول الخليج بعد أن لحنها...

Posted by Ghassan Mahdy on Sunday, July 4, 2021

درس الششتري علوم الفقه والدين وأحب الفلسفة، وذكرت مصادر تاريخية أن قربه من البلاط في الأندلس لم يمنعه من الاستمرار في البحث عن معنى الحياة.

وفي أحد الأيام قرر الششتري الهروب من رغد عيشه إلى حياة الزهد، وساعده في ذلك تعرفه على المتصوف عبد الحق ابن سبعين (1219-1270) الذي نصحه بالانتقال إلى المغرب إن أراد الدخول في الصوفية.

انتقل الأندلسي إلى فاس ومنها إلى مكناس، ويقال إن ابن سبعين نصح الوافد الجديد بنزع ملابسه الفاخرة وارتداء أخرى بالية مرقعة وأن يحمل بنديرا (آلة إيقاعية) في يده ثم يجوب الأسواق مرددا الصلاة على النبي محمد.

نفذ الششتري وصية ابن سبعين وصار يمشي في حواري وأسواق مكناس بملابسه البالية وعبر لاحقا عن هذه التجربة الفريدة في قصيدة "شويّخ من أرض مكناس" التي دعا فيها الناس إلى الزهد وحسن الأخلاق واعتزال مغريات الدنيا.

وتقول الأغنية:

شَوَيخْ مِن أرْضِ مِكْناس

وسْطَ الأسْواق يُغَنِّي

أشْ عَلَيَّا مِن النَّاس

وأشْ على النَّاسِ منِّي

أش عليّا يا صاحب

مِن جمِيع الخَلايقْ

إِفْعَل الخيرَ تنْجُو

واتبعْ أهلَ الحقائق

لا تقُلْ يا بني كِلْمَهْ

إِلاَّ إِنْ كنتَ صادِق

خُذ كلاَمِي في قُرْطاس

واكتُبُوا حِرْزَ عَنِّي

أشْ عَلَيَّا مِن الناس

وأشْ على النَّاسِ منِّي

ثم قول مبين

ولا يحتاج عبارة

أشَ عَلَى حَدْ مِن حَدْ

إِفْهَمُوا ذِي الإشاره

وانْظُرُوا كِبْرَ سِنِّي

والعصي والغَزَارَه

هكذا عِشْتُ في فاسْ

وكَذاكْ هُونْ هُونِي

أشْ عَلَيَّا مِن الناس

وأشْ على النَّاسِ منِّي

ويلاحظ أن من بين كلمات الأغنية، تعابير من الدارجة المغربية (اللغة العامية)، كما أنها كُتبت وفق نفس صوفي ينقل المستمع إلى أسواق مكناس القديمة.

حياة جديدة بعد مئات السنين

وبعد حوالي سبعة قرون تقريبا من كتابة القصيدة، وتحديدا عام 1982، أعاد الملحن البحريني خالد الشيخ الروح إلى "شويخ من أرض مكناس"، بعد أن عثر عليها صدفة ضمن دراسة حول الزجل الأندلسي نشرت في مجلة مصرية في خمسينيات القرن الماضي.

أُعجب الشيخ بالقصيدة وقرر غناءها رغم احتوائها على كلمات وتعابير من الدارجة المغربية، ثم أداها لاحقا مواطنه الفنان أحمد الجمبري.

انتشرت الأغنية في الخليج العربي وكانت من بين الأغاني التي يطلبها الجمهور ويتفاعل معها سواء في اللقاءات والبرامج التلفزيونية أو في الملتقيات والمهرجانات الفنية.

وبعد انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، وخاصة تطبيق انستغرام وتيك توك، تعرف الجيل الصاعد على "شويخ من أرض مكناس" وأحبها، بل تحولت عام 2023 إلى واحدة من أكثر الأغاني شهرة (تراندينغ) في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وفي السياق نفسه، انضم فنانون جدد إلى لائحة المؤدين لأغنية "شويخ من أرض مكناس"، على غرار الفنانة المغربية أسماء المنور  والإماراتية أحلام والعراقي كاظم الساهر، إلى جانب الفنان السعودي عبد المجيد عبد الله الذي غناها في حفل بالبحرين عام 2022 حضره 15 ألف متفرج.

عاما بعد ذلك، طرح عبد المجيد عبد الله فيديو الحفل على قناته الرسمية على يوتيوب وحقق 30 مليون مشاهدة، كما تناقله العديد من النشطاء في الشبكات الاجتماعية.

قصيدة «شويّخ من أرض مكناس»، كتبها مولانا ابي الحسن الششتري قبل 700 عام.. انتشرت بشكل كبير مؤخرا بصوت عبد المجيد عبد الله وخلقت للمغرب ولمكناس اشهارا كبيرا.. هذه القصيدة لحنها الموسيقار البحريني خالد الشيخ وأول من غناها هو الفنان الخليجي البحريني احمد الجميري سنة 1982، ثم المغنية أحلام.. لكن لا أحد يعرف كيف حصل عليها.. القصيدة كتبت بالدارجة المغربية القديمة لكنها اشتهرت كثيرا بالخليج ويحفظها الجميع..

Posted by ‎فدوى رجواني‎ on Monday, January 23, 2023

وظهر مدى اتقان الجمهور عبر منطقة الشرق والأوسط وشمال إفريقيا لـ"شويخ من أرض مكناس" في حفلات الموسيقار المغربي أمين بودشار، وهو فنان اشتهر في السنوات الأخيرة بأسلوب فريد يقوم على اقتصار فرقته الموسيقية على عزف ألحان الأغاني وإسناد وظيفة الغناء للجمهور.

وأظهرت مقاطع فيديو خلال إحياء بودشار لحفلات بعدد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كيف تفاعل الجمهور بالأغنية وكيف يتراقص على نغماتها.

المصدر: أصوات مغاربية