رغم أن الكارثة الحالية غير مسبوقة من حيث الحجم وعدد الضحايا، فإن لمدينة درنة الليبية قصة طويلة مع الوادي الذي يحمل اسمها، فاض فيها عبر فترات زمنية مختلفة، حاصداً معه أرواح الكثيرين، فيما سجل آخرون في عداد المفقودين إلى الأبد.
فما قصة "وادي درنة" وفيضاناته التي ظل بعضها حدثاً يوثق به السكان تاريخها إلى يومنا هذا؟
يروي الحاج خالد عبد النبي قصته مع مساء الأول من أكتوبر عام 1959، عندما كان
وعائلته الصغير المكونة من زوجته وطفلين إضافة لأمه المسنة، آمنين في بيتهم العتيق قرب "ذيل الوادي" كما يطلق عليه الدراونة للإشارة إلى نهاية الوادي عند البحر.
تنهد الحاج خالد، الذي ما يزال تحت صدمة هول فيضان "دانيال" الأخير، وتحدث بصوت متعب تعلوه نبرة الحزن قائلاً، في حديث لـ"أصوات مغاربية"، في ذلك اليوم من "عيرة درنة" عام 1959 لم ينقذنا إلا بئر الماء المهجور في فناء البيت، والذي بدأ في بلع المياه المتدفقة إلى الفناء "ما عطل وصولها قليلاً حتى صعدنا إلى سطع منزلنا، وما هي إلا لحظات حتى انهار جدار الغرفة الصغيرة التي كنا ننام فيها وابتلعتها المياه وباقي غرف المنزل".
هنا يتحدث الحاج خالد عن فيضان وادي درنة عام 1959 الذي اعتبر من بين الأكبر في تاريخ المدينة المعروف، من ناحية الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تسبب بها آنذاك، فيما نجا الحاج خالد وعائلته بأعجوبة وظلت ذكرى تلك الليلة محفورة في ذهنه بأصواتها وبرودتها وحتى رائحتها.
في ذلك اليوم تدفقت كميات كبيرة من المياه عبر وادي درنة إلى وسط المدينة، وجرفت معها صخرة هائلة إلى وسط المدينة حيث اصطدمت بالجسر هناك وأدت إلى إغلاق عبارة المياه تحته، ما رفع مستواها لتغرق شوارع المدينة القريبة من الوادي بعد أن سدت الصخرة طريقها إلى البحر.
يقول من كانوا شهوداً على ذلك الفيضان، وبينهم الحاج خالد، إنه استمر ليومين (1 و 2 أكتوبر) جرف خلالهما السيل في طريقه البشر والحجر إلى البحر، وضاعت خلاله ممتلكات الناس وأموالهم الخاصة، كما انجرفت السيارات ودكاكين وسط المدينة.
#درنة المدينة القديمة كانت هناك ✔️ تم الهدم
— Kam (@KamTRIPOLINO) September 15, 2023
معلم تاريخي و حضاري ليبي اخر دمرته العشرية الكارثية pic.twitter.com/bj3UWLBnnu
قبل ذلك بنحو 18 عاماً، وتحديداً سنة 1941، حدث فيضان ضخم آخر قال من شهدوه إنه كان قوياً لدرجة أنه جرف دبابات "ألمانية"من مخلفات الحرب العالمية الثانية، كانت بوادي "درنة" أعلى المدينة، ووادي "الناقة" غربها، لكن الخسائر البشرية الناتجة عن ذلك الفيضان لم تعرف بالتحديد نتيجة لظروف الحرب العالمية الثانية.
وبين تاريخي الفيضانين الأول والثاني، حدث فيضان كبير آخر بوادي درنة، عام 1956، لكنه لم يتسبب بخسائر مادية كبيرة كما لم يرتبط ذكره بأية خسائر بشرية معروفة.
ويمتد وادي درنة على مسافة تتجاوز 70 كيلومترا باتجاه الجنوب الغربي ويتجه نحو مشارف مدينة "القيقب" بوسط الجبل الأخضر، بمساحة تجميع تتجاوز 575 كيلومتر مربع امتلئت كلها بالمياه خلال إعصار دانيال الأخير، الذي سقطت خلاله كميات أمطار تجاوزت 400 مم في ليلة واحدة
فيضانات ما بعد السدود
غير أن قصة درنة مع فيضانات الوادي لم تنته عند ذلك الحد، إذ كان للمدينة موعد آخر مع واديها الغاضب في سنة 1986، وهو التاريخ الذي أعقب إنشاء سدي الوادي خلال فترة السبعينيات: سد "البلاد" على مشارف المدينة، بسعة مليون ونصف المليون متر مكعب، و"سد بومنصور" (15 كم جنوباً)، بسعة 21 مليون متر مكعب.
ورغم إسهام السدين الجديدين آنذاك في كبح مياه الفيضان، إلا أن كميات المياه التي فاضت عبر بعض تفرعات "سد البلاد" تحديداً، أحدثت بعض الخسائر المادية التي ربما كانت ستصبح أكثر فداحة لولا وقوف السدين في طريق أغلبها.
ومرت السنون، التي كان الوادي خلالها ينتظر في صمت، حتى جاء تاريخ 3 نوفمبر 2011، ونتيجة لفتح السدود لتصريف المياه الناجمة عن هطول الأمطار الغزيرة في تلك الفترة، حدث فيضان آخر صغير لكن الأمور كانت تحت السيطرة بسبب التحكم في فتح السدين.
وأدى إعصار "دانيال" قبل 5 أيام إلى تدمير سدي البلاد وبومنصور بشكل كلي، الأمر الذي فاقم الخسائر البشرية والمادية على نحو لم تشهده درنة ولا ليبيا بأكملها في تاريخهما، ودفع إلى إطلاق دعوات لفتح تحقيق في أمر السدين الذين لم يتعرضا للصيانة منذ ما قبل 2011.
المصدر: أصوات مغاربية