بعد أقل من خمسة أشهر على دخول الاحتلال الفرنسي إلى مدينة الجزائر (5 يوليو 1830)، أصدر الحاكم العسكري الفرنسي العام الماريشال دي بورمون يوم 7 ديسمبر 1830، قرارا يقضي بضم كل الأملاك الدينية لمصالح أملاك الدولة لتمكين السلطات الاستعمارية من التصرف فيها.
كانت هذه الأملاك الدينية تسمى في ذلك العصر "أملاك مكة والمدينة"، بالإضافة إلى المساجد والزوايا وما يتبعها من أراض، ولم تكن هذه الأملاك تابعة للسلطة العثمانية الحاكمة إذ ذاك.
قرار سابق
لكن قبل هذا القرار كانت السلطات الفرنسية قد أصدرت في 8 سبتمبر 1830، قرارا استهدف حجز أملاك العثمانيين وأوقاف مكة والمدينة وإلحاقها بمصلحة أملاك الدولة (الدومين)، والتي تم إنشاؤها في عهد دي بورمون، وحدّدت مهلة ثلاثة أيام لعملية الاستظهار وإثبات الملكية، وهددت السلطات بمعاقبة كل من تحداها أيضا.
ثارت احتجاجات كبيرة ضد هذا القانون من سكان مدينة الجزائر تقدّمها المُفتون والعلماء والوكلاء (القائمون والمشرفون على الأملاك)، وبيّنوا للسلطات الاستعمارية بأن "أملاك مكة والمدينة" ليست ملكا للعثمانيين، وأن الذين يشرفون عليها من الوكلاء ليسوا عثمانيين بالضرورة وإنما هم جزائريون.
دوافع القرار
دفعت هذه الاحتجاجات دي بورمون للتراجع عن هذا القرار وأصدر بدله قرارا آخر في السابع ديسمبر 1830، نصّ على ضمّ كل الأملاك والأوقاف الدينية إلى مصلحة أملاك الدولة، وتشمل أوقاف مكة والمدينة والمساجد والزوايا، وطُلب من المفتين والوكلاء أن يقدموا حساباتهم لهذه المصلحة.
يعود سبب صدور هذا القانون إلى ما بيّنه شيخ المؤرخين الجزائريين أبي القاسم سعدالله في كتابه "تاريخ الجزائر الثقافي"، حيث يقول "إن الدافع الرئيسي من الاستيلاء على الأوقاف العامة كان يتمثل في نظرنا، في الرغبة في الاستحواذ على الأموال لتضخيم ودعم ميزانية الدولة الفرنسية، وهو أمر واضح من مبدإ الاستعمار نفسه وهو الاستثراء على حساب الشعب المستعمر".
ويضيف ".. أما الدافع الثاني في نظرنا في الاستيلاء على الأوقاف العامة، فهو ما أشار إليه البعض أحيانا، وهو الخوف من أن يستعمل المسلمون المال الذي عندهم لاسترداد سيادتهم على بلادهم والتحكم في مصيرها وطرد الفرنسيين منها".
"ضربة للدين والثقافة"
احتوى هذا القرار على سبع موادّ، نصت الأولى وهي الأخطر على أن "كل المنازل، الدكاكين، المتاجر، الحدائق، الأراضي، المحلات، والمؤسسات باختلافها، وذات العائدات المخصصة بأي سند كان لمكة والمدينة، إلى المساجد أو ذات تخصيصات أخرى خاصة، تكون مستقبلا مسيّرة من قبل إدارة أملاك الدولة، وهي التي تؤجرها، وهي التي ستحصل منها على المداخيل وتقدم عنها الحساب إلى من يهمه الأمر".
وقد وصف الكاتب الفرنسي ميشال هابار المناهض للاستعمار هذا القرار بأنه كان "ضربة للدين وللثقافة الإسلامية، لانعكاس آثاره على الحياة الدينية والاجتماعية للسكان، فالأوقاف كانت المصدر المالي للتعليم والترقية الاجتماعية".
ويجدر بالذكر هنا أن هذه الأملاك الدينية، والتي كان عددها في مدينة الجزائر أكثر من 600، موجودة في الجزائر كما كانت في بقية البلاد الإسلامية ولا تزال إلى اليوم، وهي عبارة عن أموال أو أراض أو بنايات سواء سكنات أو محلات تجارية، تصرف عائداتها على الفقراء وخدمة الدين والعلم.
مواجهة القرار
ويذكر الباحث الجزائري جمال عطابي في ورقة بحثية بعنوان "موقف الجزائريين من السياسة الاستعمارية اتجاه مصادرة الأوقاف"، بأن "القرارات والمراسيم والقوانين التي سنتها السلطات الفرنسية، من أجل الاستيلاء على الأوقاف بلغت أكثر من 877 بين قانون ومراسيم وقرارات وتعليمات ومناشير وأخرى صادرة عن مجلس الشيوخ الفرنسي".
واجه سكان وأعيان وعلماء مدينة الجزائر هذا القرار بالرفض أيضا مثلما واجهوا القرار السابق الصادر في 8 سبتمبر 1830، وأجبروا السلطات الاستعمارية في البداية على توقيف تنفيذ الجزء المتعلق بالمساجد والأملاك الخاصة بينما طُبق على أوقاف مكة والمدينة خصوصا، لكنها عادت فيما بعد وعمّمت تطبيق القرار على كل شيء.
وفي هذا السياق ذكر المؤرخ أبو القاسم سعد الله أن هذا القانون "على صرامته لم ينفذ كله، بسبب احتجاجات الوكلاء وعلماء المساجد، وإنما طبق منه ما يتعلق بالمباني العامة، مثل أوقاف الحرمين مكة والمدينة وغيرها، أما المساجد ونحوها مما يسمى الأملاك الخاصة فقد أجّل التطبيق. ومع ذلك فقد وضعت الإدارة الفرنسية بمقتضى هذا القرار يدها على كل شيء في الأملاك الدينية سواء كانت خاصة أو عامة".
المصدر: أصوات مغاربية