في هذا الحوار مع "أصوات مغاربية"، يتحدث الخبير الاقتصادي التونسي وأستاذ الاقتصاد بجامعة دينيسون بولاية أوهايو الأميركية، فاضل قابوب، عن الأسباب الكامنة وراء الأزمة الاقتصادية في تونس، وفشل الحكومات خلال الـ10 سنوات الأخيرة في تحقيق الديمقراطية والازدهار الاقتصادي، ومستقبل البلد من الناحية المالية في ظل دستور جديد ورئاسة قوية.
كما تحدث أيضا عن رأيه في خطة التقشف الحكومية ورد فعل الاتحاد العام التونسي للشغل، بالإضافة إلى الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية القادرة على إخراج تونس من الأزمات المالية المتكررة والإدمان على الاقتراض الخارجي.
نص المقابلة
ٍس: تستعد الرئاسة في تونس لتنظيم الاستفتاء على الدستور في 25 يوليو. ويعتقد المؤيدون لهذه الخطوة أن تغيير النظام السياسي هو الحل للأزمات المتكررة التي عاشتها البلاد منذ الثورة. هل تعتقد أن التغيير السياسي قد يخفف من الضغط الاقتصادي والاجتماعي في تونس؟
ج: للأسف، أنا لست متفائلاً، لأن الأزمة السياسية في تونس أزمة اقتصادية في الأصل. كما أقول باستمرار لا يمكن للديمقراطية أن تنجح في ظل وجود ما يُسمى بـ “الاستعمار الاقتصادي".
ففي تونس، استخدم الرئيس الأسبق، لحبيب بورقيبة، وبعده زين العابدين بن علي والحكومات الـ 10 الأخيرة هذا النظام الاقتصادي البائد. ومن تجليات هذا النظام التركيز على الاستثمار الخارجي، والاستثمارات التي تستنزف الموارد التونسية، ثم تصدير المواد ذات القيمة الإضافية الضعيفة جدا إلى الخارج. وعلى سبيل المثال، فالصناعات التونسية والمغربية والجزائرية صناعات تركيبية، وهذا نظام شبه استعماري ومفتعل.
لماذا هو نظام اقتصادي استعماري؟ بأي معنى يرتبط بالاستعمار؟
عندما نتأمل في البلدان العربية - خاصة تلك التي لا تمتلك موارد بترولية - نلاحظ أن الأصل الأصيل لأزمة الديون الخارجية هو العجز التجاري. وأصل العجز التجاري - في تونس مثلا - هو استيراد المحروقات والمواد الغذائية الأساسية كالقمح والشعير، وضعف الصناعات المحلية، إذ نستورد مواد صناعية ذات قيمة مضافة عالية ونصدّر مواد صناعية تركيبية ذات قيمة مضافة ضعيفة.
هذه مشاكل هيكلية عميقة تنخر الاقتصاد التونسي. لقد جاءت 10 حكومات وذهبت 10 حكومات وظل الوضع كما هو عليه، لأنها استخدمت نفس السياسات الاقتصادية الاستعمارية المستخدمة منذ السبعينات من القرن الماضي.
الحكومات أخفقت ربما في تبني سياسات اقتصادية ناجحة لتحقيق النمو، لكن ما علاقتها بالاستعمار؟
أعطيك مثالا: تونس كانت من أبرز البلدان المنتجة للقمح، مثل باقي البلدان الأفريقية خلال فترة الاستعمار. حينها، كانت أفريقيا تصدر المواد الغذائية لأوروبا. بعد استقلال كل هذه البلدان، صارت أوروبا بحاجة إلى سيادة غذائية، إذ رفضت أن تعوّل على توريد المواد الغذائية من أفريقيا، فاستثمرت فيما يسمى بـ"السياسة الزراعية المشتركة" (Common Agricultural Policy)، وهذه سياسة تدعم الفلاح الأوروبي لإنتاج المواد الأساسية (مثل القمح والشعير وغيره).
نتيجة هذه السياسات هو عجز الفلاح التونسي في المنافسة من ناحية الأسعار. صار الفلاح الذي يُنتج القمح يخسر المال، وبقي أمامه خياران: إما أن يبيع أرضه ويتجه للمدن الساحلية السياحية أو المدن الكبرى ذات المصانع التركيبية للبحث عن فرصة شغل، أو يغيّر نمط إنتاجه من زرع القمح إلى زرع الفراولة والغلال والخضر التي يمكن تصديرها لأوروبا.
هكذا ضاعت إذاً السيادة الغذائية لحظة قيام المزارع بتصدير الفراولة من أجل استيراد القمح. فالسيادة الغذائية تستوجب من تونس إنتاج المواد الغذائية الأساسية مثل القمح ثم استيراد المكملات. الأدهى من كل هذا هو أن تونس صارت تدعم الفلاح الأوروبي.
ماذا تقصد؟
تونس تدعم الخبز كمادة أساسية. بقيامها بذلك، تدعم الفلاح الأوروبي، الذي يبيع هذه المنتجات لتونس بالعملة الأوروبية (أي بسعر كبير، فقيمة اليورو أعلى من الدينار). عوض أن ندعم الفلاح التونسي لينتج القمح، صرنا ندعم المستهلك التونسي الذي يستهلك القمح الأوروبي.
نُسمي هذا الوضع "سياسة استعمارية"، لأن قرار إنتاج المواد الغذائية هو قرار أوروبي وليس تونسياً أو مغربياً. القرار التونسي كان مجرد رد فعل للسياسات الاقتصادية الأوروبية. ومع الأسف، كانت سياسة رد الفعل هذه ترقيعية، والسياسات الترقيعية دائما ما تنتهي بالأزمات. اليوم، نحن في ظلال واحدة من هذه الأزمات في تونس.
هل تعتقد أن الحل هو رفع الدعم عن هذه المواد الأساسية كمقدمة لإنتاجها محليا؟
الذي سيحدث في هذه الحالة هو مظاهرات الخبز، كما حدث في الثمانينات. إذا رفعت الدولة يدها عن دعم المواد الأساسية (الخبز، الطاقة وغيرها) ستصير لديك أزمة اجتماعية. ولهذا السبب، قررت الحكومة دعم هذه المواد والتعايش مع العجز التجاري الكبير الذي تتحملّه، ثم تلجأ إلى الاقتراض الخارجي لسد الثغرة. بمعنى، الدولة التونسية تقترض المال بالعملة الصعبة لدفع الفارق.
قد يقول قائل إن تغيير النظام السياسي في اتجاه تقوية منصب الرئيس مفيد لتونس، إذ يمكن لجهة واحدة اتخاذ إجراءات اقتصادية مؤلمة من أجل تحقيق الإصلاحات الهيكلية المطلوبة عوض تشتيت السلطة بين البرلمان والرئيس وما ينتج عن ذلك من "البلوكاج" السياسي المستمر، والذي عانت منه البلاد منذ الثورة، ما رأيك؟
لا أعتقد ذلك، لقد كان أمام الرئيس قيس سعيّد حوالي سنة كاملة وكانت لديه سلطة مطلقة في تونس بعد قرار تجميد وحل البرلمان، فما الذي قدمه الرجل من الناحية الاقتصادية؟
لو كان هذا الكلام صحيحا، لسمعنا ببرنامج اقتصادي بديل، لكن للأسف لا يوجد أي برنامج بديل من الرئاسة ولا من الأحزاب السياسية ولا من الاتحاد العام التونسي للشغل. هذا هو أصل المشكل في تونس، أي التركيز ينصبّ كله على المشاكل السياسية، لكن هناك إهمالاً شاملاً للمسألة الاقتصادية والتخلي عن النظام الاقتصادي البائد.
بالإشارة لاتحاد العام التونسي للشغل، ما هو دور هذه النقابة العمالية في الساحة التونسية. فهي ترفض الإصلاحات التي يريدها صندوق النقد الدولي لمنح البلاد قرضا جديدا، وخاضت إضرابا عاما في القطاع الحكومي، وهددت بخوض إضراب آخر احتجاجا على رفض الحكومة التفاوض في ملف زيادة أجور الموظفين. ما الذي يمكن للحكومة أن تقدمه اليوم للنقابة العمالية، وهي نفسها تحاول مراوغة الإفلاس المالي؟
أولا، الاتحاد العام التونسي للشغل يفهم حدة الأزمة التونسية من الناحية السياسية والاقتصادية، لكن من واجبه أيضا الدفاع عن الطبقات الفقيرة والمتوسطة أمام السياسات التقشفية التي يطرحها صندوق النقد الدولي وتريد الحكومة تبنّيها. في الأخير، الشعب التونسي هو من سيتحمّل تداعيات هذه السياسات التقشفية.
من جانب آخر، الاتحاد لم يتقدم - للأسف - باقتراحات أو أفكار بديلة لقيادة الدولة التونسية نحو تغيير آليات الاقتصاد التونسي من آليات استنزافية إلى آليات تركّز على السيادة الغذائية والطاقية وتغيير النمط الصناعي الحالي.
في مقابلة لك مؤخرا مع وكالة الصحافة الفرنسية، قلتَ إن ما يحدث اليوم في البلد هو نتاج عشر سنوات من الإخفاقات لعشر حكومات والاتحاد التونسي العام للشغل والممولين الدوليين أيضا، كيف فشل كل هؤلاء في إرفاق الديمقراطية بالازدهار الاقتصادي في تونس؟
للأسف، كل هذه الأطراف تروّج للنموذج الاقتصادي السائد الذي يُلخص المشاكل الاقتصادية في الديون الخارجية (بالعملة الصعبة)، ثم يبحثون عن حلّ لهذا المشكل كالتالي: ما الذي يمكن أن نقوم به لكي تحصل تونس على العملة الصعبة - مثل الدولار واليورو - لدفع هذه الديون وخلق فرص الشغل.
يقفز البعض على السياحة ليعتبرها قطاعا مدراً للعملة الصعبة ويخلق فرص شغل للآلاف في المطاعم والفنادق وغيره. شكلياً، تظهر السياحة - في الحالة التونسية - كحل لأزمة العملة الصعبة، لكنها في العمق فخّ اقتصادي لبلد يفتقد للسيادة الطاقية والغذائية.
الكثير من البلدان - وليس تونس فقط - تعتبر السياحة عامل جذبٍ للعملة الصعبة، فلماذا هي فخ في الحالة التونسية؟
أعطيك مثالا، عندما يزور 10 ملايين سائح تونس، فهؤلاء يستخدمون خدمات النقل (التبريد والتكييف في الفنادق). لكن تونس بلد بلا سيادة طاقية، أي أن الطاقة التي يستخدمها السائح مستوردة من الخارج بالعملة الصعبة. وفي السياق نفسه، المواد الغذائية الأساسية التي يستهلكها هذا السائح تأتينا من الخارج. إذن، لو كان لدى تونس سيادة غذائية وطاقية، كانت نتائج السياحة على الاقتصاد التونسي إيجابية مئة في المئة.
وهذا المشكل يمتدّ إلى الصناعات التركيبية أيضا، إذ نستورد الطاقة والمواد الأولية والتكنولوجيا ثم نستخدم يداً عاملة تونسية بأجور زهيدة ونصدّر منتوجات ذات قيمة ضعيفة وبعائد مالي بخس، لأنها صناعات ذات قيمة مضافة ضعيفة. إذن، هذه الصناعة مدعومة بشكل مباشر وغير مباشر من خزينة البلد. في الأخير، نحن نركّب ولا نصنّع. المستفيد هنا هو الشركات الأوروبية والخاسر هو تونس.
في الأخير، ما هي الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية القادرة على إخراج تونس من الأزمات المالية المتكررة والإدمان على الاقتراض الخارجي؟
أولا، الديمقراطية مهمة، ويجب أن ترجع تونس إلى مسارها السياسي بدستور يلبّي طموحات الشعب. ثانيا، يجب الاستثمار في السيادة الغذائية والطاقات البديلة وخلق سيادة طاقية. ثالثا، على تونس خلق استراتيجية صناعية على المدى الطويل لتغيير النمط الصناعي من النمط التركيبي الاستنزافي إلى صناعات تركّز على القيمة المضافة العالية.
المصدر: أصوات مغاربية