صورة توثق لأسر عمر المختار
صورة توثق لأسر عمر المختار

في كتابه الجديد "الإبادة الجماعية في ليبيا"، يؤكد الباحث الليبي، علي عبد اللطيف احميده، أن النظام الفاشي في إيطاليا ارتكب "أعمالا وحشية" خلال حقبة الاستعمار ترقى إلى "جرائم الإبادة" ضد الشعب الليبي، الذي يحتفل، بعد أيام قليلة، بالذكرى الـ70 للاستقلال. 

وتحدّث احميده، الذي يُدرّس تاريخ الكولونيالية بجامعة نيو إنغلاند الأميركية، عما يصفه بـ"التاريخ الخفي" للاستعمار الإيطالي لليبيا، وكيف استطاعت روما "إخفاء" أرشيف تلك الحقبة، بالإضافة إلى عدد الليبيين الذين قضوا في "معسكرات الاعتقال الـ16 في مناطق مختلفة" من ليبيا. 

نص المقابلة:

- في كتابك الجديد "الإبادة الجماعية في ليبيا" تقول إن الفاشية ارتكبت "انتهاكات وحشية" في حق الشعب الليبي خلال حقبة الاستعمار، ما هي الدلائل التي استندت إليها للتأكيد على حصول هذه "الإبادة"؟

تعريف الإبادة الجماعية في القرن الـ20 - وبالذات بعد المحرقة اليهودية - واضح. فقد عرفها المحامي والأستاذ القانوني البولندي، رفائيل ليمكين، الذي ترأس مؤتمر الأمم المتحدة عن جرائم الإبادة سنة 1948. وضع رفائيل ليمكين شرطين أساسيين للحديث عن حصول إبادة جماعية: أولا، النية المسبقة، وثانيا استخدام هذه النية من أجل التدمير العضوي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي لثقافة معينة واستبدالها بثقافة أخرى. نقوم بتطبيق هذين الشرطين على حوادث تاريخية من أجل الجزم بحصول إبادة من عدمها. إذن، "الإبادة الجماعية" مفهوم خاضع لشروط قانونية وتاريخية واضحة. 

بالنسبة للموضوع الليبي، يجب أن أشير إلى مسألة محزنة، وهي أن القرن الـ20 عرف تركيزا شديدا على قضايا معينة دون أخرى. وفي هذا الصدد، فإن الاهتمام بمخلفات الاستعمار الإيطالي لليبيا ظل مسألة هامشيّة في الدراسات التاريخية. والسبب هو حصول انتهاكات أخرى في وقت متزامن مثل الهولوكوست، ما جعل الجميع يركز أعينهم على ما وقع في أوروبا. 

وفي الحقيقة، فإن ما وقع في ليبيا إبادة - حتى قبل المحرقة بست سنوات - بدليل أن أزيد من 100 ألف ليبي اعتقلوا في معسكرات الفاشية ولم يبق منهم سوى 40 ألف شخص. بالإضافة إلى ذلك، فقد تم إجبار آلاف المدنيين على المشي سيرا على الأقدام عبر الصحاري نحو المعتقلات في مشهد تهجيري مروع، وبين هؤلاء أطفال ونساء وكبار السن. 

- ذكرت في الكتاب ما سميّته "المركزية الأوروبية"، أي أن التركيز على ما وقع بأوروبا خلال الحرب العالمية الثانية غطّى تماما على انتهاكات أخرى مثل مخلفات الاستعمار الإيطالي في ليبيا، لكن انتهاكات فرنسا في الجزائر معروفة للعالم، لماذا حصل  إذن "تجاهل" لمدة 80 عاما لما وقع في ليبيا؟ 

هذا سؤال وجيه. في الحقيقة، فإن القارة الأفريقية شهدت ثلاث حالات بشعة. حالة الكونغو تحت الاستعمار البلجيكي، وحالة ناميبيا، التي تعرض قطاعها الإثني من قبائل "هيرورو" و"ناما" لتدمير متعمد على يد الألمان، ولدينا الحالة الجزائرية المشهورة جدا.

الحالة الليبية مجهولة حتى للعرب لأسباب محددة. أولا، تم إخفاء والعبث بأرشيف إيطاليا عن الحقبة الفاشية لأسباب سياسية عقب الحرب العالمية الثانية (وهذا موضوع آخر). وثانيا، الدراسات الأكاديمية والفكرية ركّزت أساسا على وحشية النظام النازي.

إن ما ارتكبه هذا النظام ضد اليهود في أوروبا جعل الإبادة الإيطالية في ليبيا باهتة لدى بعض الدارسين، وكأن ما يقع في شمال القارة أسوأ مما يقع لسكان الجنوب. علاوة على ذلك، فإنه لم تحصل محاكمات لقادة الفاشية الإيطالية كما حدث للنازيين، وهو ما جعل انتهاكاتهم في بلدان كثيرة تظل طي النسيان. لكن الحقيقة هي أن القتل الجماعي، الذي مورس بحق الشعب الليبي، مسألة ثابتة تاريخيا. 

في الكتاب، تحدثت فعلاً عن نظرية "المركزية الأوروبية"، وأعني بذلك أن السياسيين والمؤرخين جعلوا ما وقع في أوروبا في المقام الأول، بينما بقيت الانتهاكات ضد شعوب العالم الثالث مسألة مؤسفة. الموضوع الليبي لا يفند نظرية "المركزية الأوروبية" إنما يثبت وجودها في الكتابات التاريخية للقرن العشرين مع الأسف. 

- في 2008، اعتذرت إيطاليا لليبيا عن حقبة الاستعمار وتعهد رئيس الوزراء حينها، سيلفيو برلسكوني،  لنظام معمر القذافي بدفع خمسة مليارات دولار كتعويضات تأخذ شكل استثمارات على مدى 25 عاما. هل ذكر الاعتذار ما تعتبره "الإبادة الجماعية" بحق الشعب الليبي؟ 

الاعتذار الإيطالي كان في الحقيقة إنجازاً مهماً بالنسبة لأفريقيا ودول العالم الثالث. لكنه مع الأسف كان اعتذارا غامضا، ولم يحتو على ضرورة فتح أرشيف تلك الحقبة. في الكتاب، قدّرتُ عدد الليبيين الذين قتلوا على يد الفاشية، إما بسبب الجوع أو المرض، بحوالي 70 ألف شخص. إذن، الاعتذار الإيطالي لم يأت على ذكر ما حدث لهؤلاء وندمه على حقبة الفاشية إجمالا. 

مع الأسف، كل ما حصلت عليه ليبيا من هذا الاعتذار الغامض والعام هو استثمارات من أجل بناء وإعمار بعض المناطق (أشهرها الطريق الساحلي) مقابل نسيان ما وقع حينها.

الاعتذار يجب أن يكون مصحوباً بخطوات منها إعادة قراءة الأرشيف، والتعريف بما وقع في الإعلام، وتدريس أخطاء تلك الحقبة للأجيال الجديدة. حاليا، ما يحصل في إيطاليا هو عكس ذلك تماما، فالفاشيون الجدد (وهم امتداد للفاشية التي هُزمت في الحرب العالمية الثانية) منتعشون سياسيا، إذ وصلوا إلى مراتب وزارية ولديهم نفوذ سياسي واسع في البلد. 

- في الكتاب، قلتَ إن المادة التاريخية كانت قليلة جدا بحيث أنك اضطرتَ لتقفي خطوات الاستعمار من برقة شرقا عبر زيارة أماكن هذه المعسكرات ولقاء الناجين، هل وجدت دلائل ملموسة عن حصول قتل جماعي؟ 

بدأت البحث في هذا الكتاب سنة 2000. ذهبت إلى إيطاليا بحثا عن كل ما يمكن أن أحصل عليه عن تلك الفترة. وجدت أن الأرشيف هناك غير موجود أصلا، أو من أجل الدقة غير متاح للأكاديميين. ثم تواصلت مع أهم مؤرخي إيطاليا الذين رفضوا الصمت عن موضوع الإبادة في ليبيا، وبعضهم اقترح عليّ الحديث مع أولئك الذين عاشوا أهوال الاستعمار الفاشي، لأن هذا هو أهم مصدر متاح بالنسبة إلينا في الوضع الراهن. 

ذهبتُ إلى الشرق الليبي واستمر البحث حوالي عشر سنوات. خلال هذه الرحلة، حصلت على أزيد من 220 مقابلة واكتشفت أشياء مرعبة مثل آلاف المقابر الجماعية، وفجأة وجدت نفسي وجها لوجه أمام حرب الإبادة. لم يكن الموت في معتقلات الفاشية بالغاز - مثل معسكرات النازية - إنما كان الموت بطيئا من الجوع الشديد والأمراض. والكتاب يوثّق قصصا كثيرة ومعزز بأدلة في هذا الصدد. وأكثر الأشياء التي صدمتني هو كيف يصوّر هؤلاء الناجون عذاباتهم في المعتقلات وهم يشاهدون أقاربهم يموتون ببطء من الجوع الشديد. إنها صورة نجحوا في نقلها إلي بطريقة جعلتني لا أستطيع أن أزيل بشاعتها من مخيلتي. 

بعد هذا البحث والتقصي وجدت أن الإيطاليين أنشأوا أزيد من 15 معسكرا للاعتقال في عموم التراب الليبي. مع الأسف، فإن الدولة الليبية بعد الاستقلال - رغم كل طنطنة ودعاية القذافي - أهملت هذه المعسكرات. لكن يظل هناك معسكر وحيد تم الحفاظ عليه هو "العقيلة". 

- أخيرا، أود أن أسألك كيف تنظر إلى موضوع تهجير الإيطاليين بعد استقلال ليبيا. في 2008، احتجت جمعية الإيطاليين المطرودين من ليبيا من دفع بيرلسكوني التعويضات، مطالبة بإقرار قانون يقضي بتقديم تعويضات لكل الذين طرهم نظام القذافي من البلاد عام 1970؟

هؤلاء في حالة إنكار. هؤلاء لم يكونوا سياحاً في ليبيا، إنما جاؤوا تحت حراب ودبابات الإيطاليين الذين سفكوا دماء آلاف الليبيين. بدل أن يواجه هؤلاء حقيقة الإبادة التي وقعت في هذا البلد يلجؤون إلى  الإنكار بدعوى أنهم كانوا مواطنين ليبيين أيضا. هذا غير صحيح. الشعب الليبي عانى الأمرين من جراء الاستعمار، ولم يعاني هؤلاء أي شيء بل استفادوا من المؤسسات الاستغلالية التي خلقها الإيطاليون لنهب الثروات. 

هذا الموضوع شبيه بموضوع "الأقدام السوداء" في الجزائر، لكن هذا لا يعني هضم حقوق أحد عندما يتم الاعتراف بالإبادة أولا وأن يكون ذلك بالطريقة الصحيحة. مستقبلا، إذا نجحت ليبيا في جعل إيطاليا تعترف بالموروث الدموي الفاشي للحقبة الاستعمارية فيمكن حينها الدخول في حوار مع المستوطنين الذين طردهم القذافي. الآن، لا بد أن نقول الحقيقة: ليبيا عاشت إبادة بشعة ومنسية لمدة 80 عاما.

 

المصدر: أصوات مغاربية

مواضيع ذات صلة

Rescuers and relatives of victims set up tents in front of collapsed buildings in Derna, Libya, Monday, Sept. 18, 2023. Some 11…
منظر جوي يظهر مخلفات العاصفة التي ضربت شرق ليبيا

انتقد المبعوث الأممي، عبد الله باتيلي، استمرار الخلافات بين المسؤولين في شرق وغرب ليبيا حيال مشاريع الإغاثة المتواصلة بعد كارثة إعصار "دانيال" التي ضربت عدة مناطق شرقية في هذا البلد المغاربي.

وأعاب باتيلي، أمس السبت خلال لقائه أعضاء من لجنة الشؤون السياسية في المجلس الأعلى للدولة، ما اعتبره غياب التنسيق بين المؤسسات التابعة لحكومة الوحدة ونظيرتها الخاضعة لسلطة الحكومة المكلفة من قبل مجلس النواب، وقال في الصدد إن التعاون بينهما "لم يكن في مستوى التضامن غير المسبوق الذي أبداه الليبيون من كافة المناطق تجاه مواطنيهم في درنة وغيرها من مدن شرق البلاد".

الممثل الخاص للأمين العام في ليبيا، السيد عبد اللهِ باتيلي، على صفحته في منصة X: التقيت اليوم بأعضاء من لجنة الشؤون...

Posted by ‎UNSMIL بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا‎ on Saturday, September 23, 2023

وشدد على ضرورة أن "تجتمع السلطات في الشرق والغرب من أجل إجراء تقييم مشترك لحاجيات الاستجابة العاجلة وإعادة البناء، مؤكدا على "وجوب ارتقاء القادة السياسيون إلى مستوى اللحظة وأن يعملوا يدا في يد من أجل تجاوز آثار المأساة".

بين الشعب والمسؤولين

وشهدت ليبيا منذ الساعات الأولى للكارثة، قبل نحو أسبوعين، هبة تضامن شعبية شارك فيها مواطنون من جميع أنحاء البلاد بغية مشاركة المتضررين من الإعصار "دانيال".

ولقيت تلك المبادرات إشادة واسعة من طرف العديد من المتابعين للشأن الليبي، بالنظر إلى الأزمة السياسية والأمنية التي تعيشها البلاد منذ أزيد من 11 سنة.

وقال يان فريديز، رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في ليبيا، لدى عودته من زيارته إلى ليبيا واستمرت ثلاثة أيام "رأينا أشخاصا يأتون من كل المناطق الليبية حتى من سبها في الجنوب. أناس أتوا (إلى درنة) من تلقاء أنفسهم".

وتكثر المساعدات الموجهة إلى الناجين بعد اضطرار أكثر من 43 ألف شخص إلى النزوح من المناطق المتضررة وهم مشردون ومن دون أي موارد، كما تشهد وسائل التواصل الاجتماعي دعوات كثيرة لإيواء نازحين.

لكن بالمقابل، تخشى العديد من الأطراف أن تتعرض عمليات الإغاثة أو مشروع إعادة الإعمار إلى إجهاض كبير على خلفية الخلافات الموجودة في الصف السياسي.

وتتنافس على السلطة في ليبيا  حكومتان، الأولى تتخذ من طرابلس في الغرب مقرًا ويرأسها عبد الحميد الدبيبة، وتعترف بها الأمم المتحدة، وأخرى في شرق البلاد الذي ضربته العاصفة، يرأسها أسامة حمّاد، وهي مكلّفة من مجلس النواب ومدعومة من الرجل القوي في الشرق المشير خليفة حفتر.

وسبق لأهالي مدينة درنة تنظيم وقفات احتجاجية طالبوا فيها بإعادة إعمار مدينتهم بأسرع وقت مشترطين أن يتم ذلك عبر "شركات أجنبية" وتحت إشراف دولي، لضمان سرعة وجودة العمل والحيلولة دون حدوث فساد في ملف الإعمار الذي يتوقع أن يكلف عشرات مليارات الدولارات.

وأوردت وسائل إعلام  ليبية الخميس أن حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس طلبت رسمياً من البنك الدولي المساعدة في إعادة إعمار المناطق المنكوبة "في ثلاث مجالات"، وذلك عبر رسالة وجهها وزير المالية بالحكومة خالد المبروك.

مخاوف جديدة

وقال الناشط السياسي والحقوقي، أبو عجيلة علي العلاقي، إن "استمرار الخلافات أمام الوضع الصعب والمعقد الذي تعيشه ليبيا ينذر بتهديدات جديدة قد تضاعف من مشاكل وهموم المتضررين من الكارثة الأخيرة".

وأشار المتحدث في مكالمة هاتفية مع "أصوات مغاربية": "الصراعات والخلافات بين حكومة الشرق وتلك التي يقودها عبد الحميد الدبيبة صارت أمرا واقعيا يمكن ملاحظته من خلال ممارسات وتصريحات المسؤولين في الطرفين".

وأضاف أن "حكومة أسامة حمدان في بنغازي تسعى إلى فرض وجودها في الأزمة الحالية من خلال الاستفراد بمجموعة من القرارات والإجراءات، كما يحاول فريق طرابلس الإقدام على الممارسات نفسها، وهذا أمر غير مقبول"، مؤكدا على أن ما جاء في كلام المبعوث الأممي عبد الله باتيلي يعبر بشكل دقيق عن المشهد العام في ليبيا".

وطالب العلاقي، الذي يشغل منصب المستشار القانوني للمنظمة الليبية لحقوق الإنسان، بضرورة  العمل بما سماه "حلا ثالثا يسمح بتفعيل مشروع إعادة الإعمار بعيدا عن حكومتي طرابلس وبنغازي".

وأردف "الأسلم لليبيين الآن أن تتكفل هيئة دولية مثل الأمم المتحدة بجميع أشغال ومشاريع الإعمار على اعتبار أن العديد من الكمسؤولين داخل المؤسسات الموجودة في شرق أو غرب البلاد تحوم حولهم شكوك تتعلق بالفساد المالي والإداري".

وتابع "على المبعوث الأممي ألا يتخذ موقف الحياد حيال ما يجري وعليه الاصطفاف إلى جانب الشعب الليبي في المحنة التي يعيشها".

 

المصدر: أصوات مغاربية