محمد المْسيّح باحث مغربي متخصص في علم المخطوطات القديمة، اشتغل على دراسات وأبحاث متعلقة بالنص القرآني صدرت في كتاب "مخطوطات القرآن، مدخل لدراسة المخطوطات القديمة".
في هذا الكتاب قارب المْسيّح النص القرآني من زاوية علمية و"خرج به من قدسية النص إلى تاريخانية الروايات التي تضمنها"، كما يوضح في هذا الحوار مع "أصوات مغاربية".
نص الحوار:
عنونت كتابك بـ"مخطوطات القرآن".. في البداية ماذا يعني هذا العنوان؟
نحن ندرس التاريخ المادي للمصحف، وقد كانت هنالك العديد من الدراسات حول مفهوم النص أو القرآن بكل معطياته التقديسية والفكرية، وكانت هنالك آلاف من الكتابات حول الموضوع.
لكن قليل هم من اشتغلوا على الموضوع من جانب الكوديكولوجيا (علم دراسة المخطوطات القديمة) والباليوغرافيا (علم الكتابات القديمة).
لذلك عدت لأقدم مخطوطات القرآن المعروفة وهي تسعة، وبحثت عن أي واحدة منها أقدم ورتبتها، مع تقديم بعض النماذج والقراءات تشمل الباليوغرافيا والكوديكولوجيا والفيلولوجيا (فقه اللغة).
دائما ما يثار النقاش حول أقدم نسخة للقرآن، فهل يصح في نظرك الحديث عن أول نسخة من القرآن بالنظر للظروف التي دُوّن فيه؟
يمكن الحديث عن أقدم نسخة من القرآن وليس أولها. وبحسب الموروث الإسلامي فنحن نعرف أنه كانت توجد بعض المصاحف وأُحرقت، كمصحف عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب وعلي بن أبي طالب وغيرها.
لكن كان هنالك مصحف سمي بمصحف الإمام ونسخت منه 6 نسخ تم توزيعها وفق ما يقال، إلا أنه لا أثر ماديا لها.
والمخطوطات التي توجد حاليا أقدمها قريبة جدا، وتمتد من عصر عبد الملك بن مروان إلى العصر العباسي.
ماذا عن الخلاف الواقع بشأن اللغة التي دُون بها القرآن في البداية؟
هناك بعض الاجتهادات تقول إن النص القرآني كتب في الأول بالخط الكرشوني، وهو خط سرياني بنطق عربي، لأن الخط الحجازي أو النبطي لم يكن قويا ليتحمل مسؤولية نقل النص القرآني، خاصة أنه لم يمكن يتضمن جميع أحرف اللغة العربية، بل اقتصر على 15 حرفا من أصل 28.
وبالتالي كان هنالك نقص كبير في الخط نفسه، وفيما بعد وُضعت النقط وعلامات الإعراب لكي تسهل القراءة.
وفي الأصل كانت تلك الحروف من أجل نقش شواهد القبور ليس إلا، على غرار شاهد قبر امرئ القيس المنقوش بالنمارة.
والآن ما هو بين أيدينا هو الخط الحجازي الذي كتبت به أقدم مخطوطة موجودة في عصرنا.
تقول أيضا في كتاباتك إن النص القرآني يتضمن بعض "الأخطاء" في الكتابة، وتعطي أمثلة عديدة على ذلك من بينها آية من سورة يوسف تقول: "وجاؤوا أباهم عشاء يبكون" وتعتبر أن الأصح "جاؤوا غشا يبكون"، كيف ذلك؟
هذه قراءة للدكتور كريستوف لوكسنبيرغ..
لكنك تتبنى هذه القراءة؟
نعم أتبناها، لأنها تتمشى مع السياق على أساس أن هذا البكاء هو أقرب لبكاء التماسيح، وكلمة العشاء تحيل على وقت الصلاة، إلا أن تعبير المساء هو عشا أو عشية.
أما عِشاء وهو وقت الصلاة فهو غير وارد، إذ نعرف أنه في عهد يوسف لم تكن هنالك صلاة للعشاء بالمفهوم الإسلامي.
كما أن الهمزة هي من اختراع خليل بن أحمد الفراهيدي، وهذا بشهادة العديد من المراجع الإسلامية مثل "المقنع" لأبي عمر الداني.
كما أن قريش كانوا لا يهمزون، والقرآن نزل بلسان قريش، وبالتالي فالمفروض أن لا تكون هنالك همزة، والكلمة في الأصل هي جاؤوا أباهم "غشا" يبكون.
هناك من يرى أن الحديث عن وجود "أخطاء" في النص القرآني مس بقدسيته، ما ردك؟
أولا علينا أن نؤكد أنه ليست القرآن أخطاء نحوية، لأنه بكل بساطة نص أقدم مما وضعه النُحات، وبالتالي لا يمكن أن نقيس النص القرآني على قواعد كتبت بعده بقرنين تقريبا، وبالتالي فمن الإجحاف القول إن النص القرآني فيه أخطاء نحو.
أما الأخطاء التي نتحدث عنها فهي تتعلق بالأساس بموضع الحروف، خاصة إذا علمنا أن حروف الراء والدال في الخط النبطي الحديث، أي خلال القرن السادس ميلادي، كانت تتشابه.
وبالتالي أنا أعتقد أن النص القرآني كتب أولا بهذا الخط النبطي الحديث، وبعد ذلك نُقل بالخط الحجازي، وهنا ارتكب بعض النساخ بعض الأخطاء في النقل، كما هو الحال في الخلط بين الراء والدال.
والمثال كلمة "طور" التي تعني الجبل باللغة السريانية، وكل تواجد لكلمة "طور" في النص القرآني هو صحيح باستثناء كلمة واحدة، عندما كتب الناسخ في قصة موسى حينما كان يشق البحر آية "فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ"، إذ تم استعمال كلمة الطود بدل الطور وهي كلمة خاطئة.
هل هذا يسقط القدسية عن النص الديني؟
لو عدنا لمسألة الوضوء في النص فمفهومه هو الطهارة، ووضعه كفرض كان بغاية عدم إيذاء الآخرين بالروائح الكريهة.
وإذا لم يكن الوضوء بالماء لأسباب معينة، فالآية تقول: "فتيمموا صعيدا طيبا" وهذه العبارة تعني قصد مكان عال طاهر، لكن المادة التي سنمسح بها غير مذكورة، لذلك بعض العلماء قالوا إن كلمة الصعيد تعني ما يصعد من الأرض مثل الحجر والتراب، لكن الإشكالية أن هذه المادة، سواء كانت ترابا أو حجرا، لا تزيل الروائح، وبالتالي فالإشكالية مطروحة.
لذلك نظر الدكتور كرستوف لوكسنبيرغ إلى أن كلمة "صعيد" هي "صعير" لكن في ذلك الوقت لم يكن هنالك تنقيط، فاقترح الياء بدل التاء فأصبحت الكلمة "صعترا" التي تعني في اللغة الآرامية القديمة نبتة ذات رائحة طيبة، ومنها جاء مصطلح الزعتر.
لكن هذا مثال واحد، فهل يمكن تعميمه على القرآن كله وبالتالي مناقشة مسألة قدسيته؟
بحسب ما تعني بالقدسية..
أي اعتمادا على اعتبار الكثير من المسلمين أن القرآن ثابت في لوح محفوظ وصالح لكل زمان ومكان..
القرآن ليس صالحا في لكل زمان ومكان، لأنه ابن بيئته فقط. مثلا حينما نجد آية تقول إن الشمس تغرب في بئر حمئة، رغم أن العلم أثبت أنه ليس هنالك غروب بالمعنى الحركي، بمعنى أنها تنزل وتصعد بشكل متعاقب، بل تغرب لتشرق في مكان آخر.
بالتالي القرآن ليس كتاب علم، بل هو كتاب إرشاد روحاني يحتاجه المؤمن في صلاته حسب عقيدته، إلا أنه لا يصلح لكل زمان ومكان كما يُعتقد.
نحن لم نقدس الكتابة فقط أو النص بل قدسنا الشيوخ كذلك، وهذا إرث كان موجودا من قبل، وكان الناس يقدسون الحجر، فتحول الأمر من تقديس الحجر إلى تقديس النصوص والأشخاص كذلك.
المصدر: أصوات مغاربية