Logos

أصوات مغاربية الآن علي موقع الحرة

اضغط. هنا لزيارة موقع الحرة

آراء حرة

هل بمقدور الصين قيادة العالم؟

28 أبريل 2020

عريب الرنتاوي

"القوة" و"الثروة" تمنحان من يمتلكهما القدرة على "السيطرة"، وهما تتغذيان إحداهما بالأخرى، فالثروة تعظم القوة، الأخيرة تفتح أفقا لمراكمة الأولى... لكن لا القوة ولا الثروة، بمقدورهما منفردتين أو حتى مجتمعتين، تأهيل من يمتلكهما للعب دور "القيادة"... القيادة يلزمها بعد ثالث: "الشرعية"، وهذه بالضرورة مستمدة من منظومة قيمية وأخلاقية.

من بين عناصر القيادة الثلاثة، يبدو مفهوم "الشرعية" الأكثر التباسا: الإمبراطوريات الغابرة لم تكن بحاجة لاكتساب "شرعية ما"، لفرض سيطرتها على العالم، ولكن بعد أن استجدت الضرورة لإدامة السيطرة، بأقل الكلف ومن دون مقاومة من قبل الشعوب والمجتمعات "المُسيطر عليها"، بدأت المراكز الدولية الناشئة بالبحث عنها أو حتى "تخليقها"، تارة من كتب السماء ورسالاتها، فكانت الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية وأخرى من مفاهيم "الإعمار" و"التحديث" كما في تجربة الاستعمار القديم والجديد، وثالثة من مفهوم "تعميم العدالة الاجتماعية" وإلغاء الفوارق بين الطبقات، كما رأينا في تجربة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي.

أن تنجح الصين في فرض قيادتها للعالم ولنظام عالمي جديد، فهذا أمرٌ يبدو مستبعدا، بغياب العنصر الثالث للقيادة: الشرعية

عرفت البشرية في تاريخها، أشكالا مختلفة من "السيطرة" الإمبراطورية والاستعمارية، بيد أنها ستنتظر حتى انبلاج القرن الماضي، لتشهد انقلاب "السيطرة" إلى "قيادة"، بامتلاك الولايات المتحدة لعناصر القيادة الثلاثة: القوة والثروة والشرعية المبنية على مبادئ ويلسون الأربعة عشرة، والدعوة لنشر قيم الحرية والديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان... وفي كل مرة، كانت الولايات المتحدة تنحرف فيها عن هذه المنظومة القيمية كانت قيادتها للعالم تتحول إلى شكل من أشكال السيطرة والاستبداد.

نهاية الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الاشتراكي، فتحت الباب رحبا لـ"تعميم" القيادة الأميركية للعالم، لكن الصين، بوصفها أحد قطبي هذا المعسكر إلى جانب الاتحاد السوفياتي، ستهتدي إلى ابتداع نظام "هجين"، سيمكنها من تفادي السقوط أو تأجيله، وهو نظام مزج بين أنماط الحكم السياسية الشمولية، تحت مظلة "الحزب الواحد والقائد"، ونظام اقتصادي يعتمد اقتصاد السوق والتجارة الحرة.

الصين وقيادة العالم

طوال العقود الثلاثة الماضية، نجحت الصين في صنع "معجزة اقتصادية"، وتحولت من مجتمع زراعي فلاحي متخلف، إلى "مصنع العالم"، وموردٍ للكثير من "سلاسل الإنتاج" في الاقتصادات العالمية الكبرى وشركاتها العملاقة العابرة للقارات، وتربعت في خانة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، متحفزةً للمنافسة على الموقع الأول، وتأمل في انتزاعه من الولايات المتحدة في غضون عقدين أو ثلاثة عقود قادمة.

ثروة الصين المتعاظمة، مكّنتها من بناء عناصر القوة الأخرى، ومن بينها العسكرية، فالجيش الشعبي الصيني الذي نشأ على مفاهيم حرب العصابات و"المسيرة الكبرى"، تحول اليوم إلى جيش حديث، ينافس في البر والبحر والجو والفضاء، أقوى جيوش العالم وأحدثها، مع ميزة إضافية مستمدة من الفائض السكاني لبلد يزيد سكانه عن خُمس سكان العالم.

بخلاف إمبراطوريات ومراكز دولية تبادلت السيطرة على العالم، اعتمدت الصين القوة الاقتصادية الناعمة لبسط نفوذها وتوسيعه، لم تلجأ إلى قوتها العسكرية الخشنة إلا في أضيق النطاقات ولفترات محدودة، وتحاشت التورط في الصراعات وبؤر الأزمات المشتعلة في العالم، ولم تُبد اهتماما بمسألة "طبيعة أنظمة الحكم" في الدول التي تتعامل معها، فهي انفتحت حيثما أمكن على أعرق الديمقراطيات الغربية، من دون أن تتخلى عن تعاملاتها مع نظم استبدادية فاسدة ومجرمة، فالصين لم تحرر اقتصادها من قيود "الاشتراكية الصارمة" فحسب، بل وحررت سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية من فكرة "تصدير النموذج" التي حكمت الصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.

ساعد ذلك الصين على تطوير مشروع "الحزام والطريق"، فالدول المنخرطة في هذا المشروع، ليس لديها ما تخشاه من الصين، فهذه لا متطلبات لها ولا شروط خارج "حسابات الربح والخسارة"... والأمر متروك لسلطات البلدان الأخرى، لتقرر ما الذي يفيد اقتصاداتها، وما الذي يضعها بين أنياب التنين الصيني.

لم تُبد الصين اهتماما بمسألة "طبيعة أنظمة الحكم" في الدول التي تتعامل معها، فهي انفتحت على أعرق الديمقراطيات الغربية، من دون أن تتخلى عن تعاملاتها مع نظم استبدادية فاسدة ومجرمة

أدركت الصين، خصوصا تحت قيادة شي جينبينع، حاجتها لشرعية قيمية وأخلاقية، تمكنها من الانتقال من "السيطرة" إلى "القيادة"، فشرعت في التخلص من دون "مراجعة" أو "نقد ذاتي"، من إرث مؤسسها ماو تسي تونغ، وتحديدا ثورته الثقافية باهظة الكلفة... أخذت تبحث في تعاليم كونفوشيوس عن قيم السلام والتسامح ومحبة الجيران وتوادهم... ومقابل راية "القيم الإنسانية المشتركة" التي طالما رفعها الغرب بقيادة الولايات المتحدة، ترفع بكين اليوم راية "المستقبل الإنساني المشترك"، فالعالم متعدد الثقافات والحضارات والأديان، يمكنه أن يتشاطر المستقبل ذاته، وبكثير من التعاون والتبادل الاقتصادي والتجاري النافع لمختلف الأطراف، دون أن تجد أي من بلدانه، حاجة للتخلي عن أيٍ من "قيمها"، وبالأخص، شكل نظامها السياسي، ومنظومة الحقوق والحريات المتاحة للمواطنين، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو "نظرية العقد الاجتماعي".

وفيما كانت الصين تطور رؤيتها الخاصة لعناصر "القيادة" الثلاثة، وتحديدا في العقد الأخير، كانت الولايات المتحدة، تشهد تراجعا في دورها القيادي العالمي، وتخبطا في إدارة سياساتها الخارجية، وانسحابا من المسرح الدولي لصالح نزعات انكفائية داخلية، بلغت ذروتها مع الإدارة الحالية، وإن كانت لم تبدأ معها... 

أما على المستوى الداخلي، فكان "النموذج" الأميركي في الحرية والديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الانسان، يمر بأكبر امتحان له في المئة عام الأخيرة، من صعود قوى اليمين الانعزالي "الشعبوي"، وما تستبطنه من مواقف مناهضة للاجئين والمهاجرين والأقليات والنظام القضائي والصحافة والإعلام، وما يخلفه من حالة انقسام واستقطاب غير مسبوقين في المجتمع الأميركي.

جائحة كورونا: الفرصة والتحدي

في الوقت الذي تتعاظم في الانتقادات للصين لعدم شفافيتها وإفصاحها عن الوباء في وقت مبكر، كانت إدارة واشنطن المرتبكة وغير الكفؤة للجائحة، تحظى بانتقادات مماثلة... لكن القوتين العظميين لن تدعا "كورونا" تمر، من دون أن تسجلا أهدافا مؤلمة، إحداهما في مرمى الأخرى، بالذات لجهة "الطعن في شرعيتها القيمية والأخلاقية"... 

واشنطن، تحمل بكين وحزبها الشيوعي وزر انتشار الفيروس، والصين تسعى في إبراز الطابع الأخلاقي لسياستها الخارجية عبر منظومة المساعدات التي هبّت لتقديمها للعديد من الدول المنكوبة، وبصرف النظر عن الخصومة السياسية معها.

من الصعب الجزم من الآن، من سيكون الرابح أو الخاسر في "المباراة الأخلاقية" أو الصراع على "الشرعية" بين العملاقين، فالبشرية جمعاء، ما زالت في قلب المعمعة، والحرب ضد الفيروس لم تضع أوزارها بعد... صحيح أن الصين ربما تكون كسبت "الجولة الأولى" منها، فهي اليوم تحظى بإشادات دولية واسعة، رسمية وشعبية، على إدارتها الحاسمة للأزمة ومد يد العون لدول أخرى منكوبة... 

لكن الصحيح كذلك، أن ثمة جولات قادمة، ستقرر النتيجة النهائية لهذه "المباراة": من سيخترع العلاج ومن سيكتشف اللقاح، وهل سيجري التعامل بأنانية مع هذه الاختراعات والاكتشافات؟ هل سيجري "تسييسها" بحجبها عن الخصوم؟ وهل ستتغلب المعايير الإنسانية على المعايير التجارية عند تعميمها؟

المعضلة الصينية

تستطيع الصين أن تمضي بعيدا في بناء عنصري "القوة" و"الثروة"، وستتمكن من بسط سيطرتها، الاقتصادية والمالية بخاصة، على مساحات واسعة من العالم... لكن الصين ستظل تواجه مأزقا حقيقا، حين يتعلق بالأمر بالعنصر الثالث لـ"القيادة": "الشرعية"... فلا تعاليم كونفوشيوس ولا نظرية "المستقبل الإنساني المشترك"، تحمل أجوبة مقنعة لأسئلة البشرية وتساؤلاتها، في لحظة اشتداد الحاجة لنظام عالمي جديد، أو في لحظة البحث عن حلول لمأزق الديمقراطية المتفاقم، والأرجح أن الإجابة على هذه الأسئلة والتساؤلات، ستأتي من الغرب وليس من الشرق، لا سيما إن تعافت مراكزه الكبرى: واشنطن بخاصة، من أزماتها الاقتصادية والسياسية والأخلاقية.

من الصعب الجزم من الآن، من سيكون الرابح أو الخاسر في "المباراة الأخلاقية" أو الصراع على "الشرعية" بين العملاقين

وستواجه الصين عاجلا أم آجلا، مأزقا مزدوجا: فكلما تعزز نفوذها الاقتصادي العالمي، اشتدت حاجتها لمنظومة قيمية تتشاطرها مع العالم وتعزز دورها القيادي بدلا عن دورها المسيطر... وكلما تنامى دور قطاعات الأعمال الخاصة والحرة في اقتصاداتها، كلما اشتدت الضرورة لخلق المواءمة الضرورية بين نظامها السياسي "الأحادي" ونظامها الاقتصادي "التعددي".

قد تسجل الصين نجاحات كبرى في تمديد نفوذها في دول آسيا وأفريقيا، وربما تنجح في تعظيم تجارتها وتبادلاتها وديونها لدول غربية عديدة، وهذا سيجعل منها قطبا دوليا أساسيا، ولكن من ضمن نظام "متعدد الأقطاب"... 

لكن أن تنجح الصين في فرض قيادتها للعالم ولنظام عالمي جديد، فهذا أمرٌ يبدو مستبعدا، بغياب العنصر الثالث للقيادة: الشرعية... وسيكون التنين الصيني أمام تحدي الاختيار بين واحد من خيارين: إما أن يكتفي بدوره كقطب من ضمن أقطاب متعددة، يبسط سيطرته على مجال حيوي معين في الجغرافيا السياسية والاقتصادية العالمية، أو أن يتكيف مع حاجة البشرية لمستقبل مشترك، مبنيّ على منظومة قيمية وأخلاقية مشتركة، بعد أن يكتشف أن البشرية التي سئمت الإمبراطوريات السلالية والنظم الشمولية، ستظل توّاقة لحريتها وتعدديتها وحقوقها غير القابلة للتصرف.

---------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

مواضيع ذات صلة

تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء
تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء

عبد الرحيم التوراني

تسود منذ فترة ليست باليسيرة حالة من الاستياء العام ومن تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب، تطفو نبرته الحادة على ألسنة الناس في أحاديثهم اليومية، وتعبيرهم عن شكواهم الصريحة من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء.

في هذا الصدد عرف الأسبوع الأخير الدعوة لمظاهرات احتجاجية، تم تفريقها في عدد من مدن وجهات المغرب. مظاهرات ومسيرات احتجاجية دعت إليها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمختلف الأقاليم، مسنودة بالأساس من تحالف الجبهة الاجتماعية المغربية، وضمنه أحزاب فيدرالية اليسار المغربي، والحزب الاشتراكي الموحد، وحزب النهج الديمقراطي العمالي، إضافة إلى الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وهيئات حقوقية ومدنية أخرى.

في بيان خاص نبهت المركزية النقابية إلى "الارتفاع المهول للأسعار بشكل غير مسبوق، وانهيار القدرة الشرائية للمواطنات والمواطنين، واتساع دائرة الفقر والفوارق الاجتماعية والمجالية في ظل توالي الأزمات وإصرار الحكومة على نفس الاختيارات السائدة منذ عقود".

وبالرغم من كونها ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها المغاربة إلى الاحتجاج بالنزول إلى الشارع، فإن الأمر أصبح يدفع باستمرار إلى طرح سؤال حارق قد يبدو للبعض أن به مبالغة: - هل يسير المغرب في اتجاه انفجار اجتماعي؟

إلا أن السلطات الأمنية عمدت إلى منع هذه المسيرات الشعبية، بدعوى "الحفاظ على الأمن العام". ما أفضى بتحول الاحتجاجات ضد الارتفاع الهائل في أسعار المواد الغذائية، إلى التنديد بالقمع وخنق حرية التعبير، والممارسات التي تتنافى وتتعارض مع نص الدستور.

صادف هذا الحدث إحياء الذكرى 12 لـ لانتفاضة "حركة 20 فبراير" المنبثقة عن ثورات الربيع العربي، وقد تمت استعادة شعاراتها المركزية المتمثلة بالأخص في المطالبة بـ"إسقاط الفساد"، ورفض "زواج المال والسلطة"، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وفي المقدمة سجناء حرية التعبير من صحفيين ومدونين ومدافعين عن حقوق الإنسان.

لا شك أن وسائل الإعلام الرقمي الجديد، وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي، سهلت إتاحة المعلومات المتعلقة بأغنى الأشخاص الذين يهيمنون على ثروات المغرب، وهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، من بينهم رئيس الحكومة الحالية عزيز أخنوش، صاحب محطات "إفريقيا" للمحروقات وأكبر فلاحي المغرب، وزوجته سلوى أخنوش، وذلك فق ما ينشر سنويا في تصنيفات مجلة "فوربيس" الأمريكية المهتمة برصد وإحصاء أرصدة أغنياء العالم.  وبينما ينعم هؤلاء الأغنياء في الرفاه وترف النِّعَم، يعيش ملايين المغاربة في فقر "كاريانات" مدن الصفيح، دون الحد الأدنى من المقومات الأساسية للعيش الكريم. وفي الوقت الذي تتسع فيه فجوة الفوارق الاجتماعية، ويتضاعف فيه معدل الفقر بنسب عالية، تجد حكومة عزيز أخنوش نفسها أمام تحديات كبيرة لاختبار استراتيجياتها وسياساتها التي أعدتها بهدف تجاوز الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.

فعلى ضوء ما وعدت به الحكومة الحالية وما قدمته في برنامجها وبيانها الحكومي، فإن حوالي عام ونصف على تنصيب عزيز أخنوش على رأسها (7 أكتوبر 2021)، هو زمن كافٍ لإجراء تقييم لإنجازاتها. إلا أن المؤشرات هنا توضح مدى ضعف الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه الحكومة، في خضم ما يعانيه العالم اليوم من تضخم قوي ناتج عن تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، وعن ذيول ومخلفات الأزمة الاقتصادية المترتبة عن وباء كورونا في 2020.

بيان الكونفدرالية الديمقراطية للشغل حمَّل حكومة أخنوش "كامل المسؤولية عما قد يترتب عن الوضع الاجتماعي المأزوم من ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي"، أمام تجاهل آثار هذه الأزمة الاجتماعية الخانقة. وأكد على ضرورة اتخاذ مبادرات وإجراءات جريئة وهيكلية لإيقاف ضرب وتدمير القدرة الشرائية لأغلبية المواطنات والمواطنين، و"محاربة كل أشكال الفساد والريع والمضاربات بدل مواصلة الانحياز للرأسمال الريعي والاحتكاري، وخنق الحريات". كما طالب بتنفيذ كافة الالتزامات الاجتماعية، وعدم المساس بمكتسبات التقاعد.

لكن الحكومة تبدو وكأنها غير آبهة بما يجري ويحدث أمام أنظارها من تفاعل وصراعات، وقد تآلفت أسماعها مع مثل هذه اللغة الاحتجاجية الموغلة في السلبية  والتشاؤم.

إلا أن نقابي من قطاع التعليم من مدينة طنجة، أبى إلا أن يذكرنا بالتاريخ القريب جدا، ففي الصيف الماضي فقط (يوليوز 2022) انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو ظهر في رئيس الحكومة عزيز أخنوش مصحوبا بوزير الشباب والثقافة والتواصل، المهدي بنسعيد، ووزيرة السياحة والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، فاطمة الزهراء عمور، وهم في مهرجان موسيقي. فجأة تعالت أصوات تردد: (أخنوش.. ارحل.. ارحل). إثرها شوهد رئيس الحكومة وهو يغادر المكان مسرعا ويركب سيارة.

ليلتها كانت ساكنة مناطق الشمال في المغرب تعاني من ويلات حرائق مهولة، ضمن سلسلة حرائق شملت الجنوب الأوروبي، فرنسا واليونان واسبانيا والبرتغال. وفي الوقت الذي هرع فيه رؤساء ومسؤولو حكومات تلك الدول باتجاه مناطق الكوارث ببلدانهم  للتضامن مع ضحايا الفجيعة الإنسانية، أدار رئيس الحكومة المغربية ظهره للآلاف من المغاربة الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مشردين وسط الغابات المحترقة، وقد دمرت قراهم وحقولهم، إذ فضل رئيس الحكومة المغربية النزول جنوبا لافتتاح مهرجان موسيقي راقص، في المدينة التي يشغل فيها مهمة عمدة، ولم يدر بخلده أنه سيواجه بمثل تلك المعاملة من جمهور مشتعل بالغضب، لم يتردد في تأسيس زلزال تحت المنصة التي وقف عليها المسؤول الحكومي الأول.

وللإشارة فقد اشتهرت هذه المدينة الجنوبية الساحلية بالزلزال الذي ضربها بتاريخ 29 فبراير 1960 وخلف أزيد من 15 ألف قتيلا، ومن تاريخها كلما وقعت هزة أرضية عنيفة على سطح الأرض، مثلما وقع أخيرا في تركيا وسوريا، تذكر العالم مدينة أغادير وزلزالها العنيف.

لم يعد أخنوش يأبه بشعارات المطالبة برحيله، منذ تصدر وسم "أخنوش ارحل" مواقع الفيسبوك والتويتر في المغرب، على خلفية ارتفاع أسعار الوقود. حيث يعد الرجل المحتكر رقم واحد للمحروقات في البلاد. ويتهمه الرأي العام في المغرب بكونه وراء ارتفاع أسعار المحروقات رغم هبوطها في الأسواق العالمية، باعتباره رئيسا للوزراء ثم بصفته صاحب أكبر شركة لبيع وتوزيع الوقود في المغرب (افريقيا غاز)، وطبعا هو دائما أكبر المستفيدين من ارتفاع الأسعار.

لقد تحول الشعار الذي خاض به حزب أخنوش الانتخابات الأخيرة إلى مسخرة لدى الناس، يهزؤون به كما يثير حفيظتهم، والشعار الموجه للناخبين والمواطنين عموما أثناء الحملة الانتخابية البلدية والبرلمانية صيف 2021، هو "تتساهل أحسن"، وترجمته الفصيحة: "أنت تستحق الأفضل". وكان رئيس حزب الأحرار عند كشفه للمرة الأولى لـ"شعار المرحلة" كما أسماه، قال في تجمع انتخابي بالدار البيضاء: (إن المغاربة "يستاهلو" حكومة قادرة أن تكون في المستوى الّلي بغا صاحب الجلالة).

ولما حصل حزب عزيز أخنوش (التجمع الوطني للأحرار) على المرتبة الأولى في انتخابات 8 سبتمبر 2021، وتم تعيينه رئيسًا للوزراء من قبل الملك محمد السادس، أكد أخنوش أنه سيلتزم بالرعاية الاجتماعية ودعم الأسر الأكثر ضعفا وتعزيز الصحة العامة والتعليم، والنهوض بالاقتصاد الوطني المتضرر من الوباء. ثم  أعلن مباشرة عن خطة طارئة لدعم السياحة، باعتبارها القطاع الرئيسي في الاقتصاد المغربي. ووافقت حكومته على برنامج حمل اسم "أوراش"، يهدف إلى خلق 250 ألف فرصة عمل بين عامي 2022 و2023. كما تكلم عن تقنين الإنفاق العام وتعزيز مشاريع البحث العلمي. والاتجاه نحو تقليص الفوارق الاجتماعية بين المغاربة.

وما يراه المواطنون اليوم هو تراجع واضح عن الوعود التي تضمن تحقيق "المغرب الديمقراطي الجديد"، كما جاء على لسان أخنوش دائما.

من بين تلك الوعود التي تعهدت بها الحكومة وظلت مجرد وعود: - "إخراج مليون أسرة من الفقر وانعدام الأمن"، ومكافحة البطالة عن طريق "خلق مليون فرصة عمل"، وتوفير ضمانات الرعاية الاجتماعية، ومنها "دخل الكرامة" الذي يصل إلى 400 درهم (حوالي 34 دولار أمريكي)، لمساعدة كبار السن، و300 درهم (حوالي 25 دولار أمريكي) لدعم الأسر الفقيرة ومساعدتها على تعليم أطفالها، والتزام مدى الحياة لدعم ذوي الاحتياجات الخاصة. ناهيك عما قيل عن إحداث ثورة في قطاع التعليم، "ثورة تجعل المغرب ضمن أفضل 60 دولة في العالم من حيث جودة التعليم".

ولم يرِد أي كلام هام في بيان حكومة أخنوش يخص محاربة الفساد، غير أن آخر ما حصل في هذا المجال هو  فضيحة "بيع تذاكر المونديال"، وقد تورط فيها رجال أعمال ونواب برلمانيين من الأحزاب المتحالفة ضمن الحكومة الحالية، وحتى اليوم لا زال الرأي العام في انتظار نتيجة التحقيقات التي قامت بها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالدار البيضاء في هذا الشأن. وقد سبقت هذه الفضيحة قضية امتحانات ولوج سلك المحاماة.

وآخر وليس الأخير بهذا الصدد، فضيحة استيراد الأبقار من البرازيل، وما رافقها من شبهات تسريب قبلي لعزم الحكومة إلغاء الرسوم على استيراد الأبقار المعدة للذبح، وكانت المفاجأة أن مستوردين "محظوظين" بعلاقاتهم مع جهاتٍ حكومية، استطاعوا أن يستوردوا من هذا البلد اللاتيني  قطعانا من العجول والأبقار المعفية من رسوم الاستيراد، بعد فترة زمنية قصيرة تناهز أسبوعين فقط، مباشرةً بعد تاريخ اتخاذ قرارالإعفاء في المجلس الحكومي. ما يعزز بقوة الشكوك والشبهاتحول وقوع عملية تسريب المعلومة المذكورة قبل اتخاذ القرار رسميا من طرف الحكومة"، وقد طرحت المسألة في مجلس النواب.

هكذا، مهما بلغت حاجة الناس لمشاعر النصر والابتهاج، لم تستطع كرة القدم والإنجاز الكبير للمنتخب المغربي في مونديال قطر، تبديد الاضطرابات الاجتماعية، والخوف كل الخوف من أي استقرار أو سلام اجتماعي هش، ومن ضعف المعارضة، فلا شيء مضمون لاستبعاد تطور مسار الأحداث وانجرافها نحو انفجار كبير!

================================================================

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).