العرب ومعاداة أميركا
في رواية جورج أورويل الشهيرة "1984" التي تصوّر الحياة تحت أحد الأنظمة الشمولية، يتم جمع أعضاء الحزب كل يوم لدقيقتين في صالات كبيرة وتعرض عليهم أفلام تصوّر الجرائم التي ارتكبها أعداء الحزب والتي قد يكون بعضها مبالغا فيه أو حتى مختلقا؛ وفي حمّى الغضب الجماعي الذي يعيشونه يبدأ الحضور بالهتاف بشكل هيستيري "الموت للأعداء".
يقول جورج أورويل على لسان بطله وينستون سميث: "إن أبشع ما في فقرة دقيقتي الكراهية ليس التزام المرء بالمشاركة فيها ولا أنه لا سبيل إلى تجنّبها، بل نشوة الخوف والرغبة البشعة بالانتقام والقتل والتنكيل وسحق الوجوه بمطرقة ثقيلة والتي تسري بالجمع بأسره كتيار كهربائي".
دقيقتان فقط من الكراهية في اليوم كانتا فوق قدرة بطل الرواية على التحمّل، فكيف لمن قضى عمرا كاملا في جو نفسي مماثل لهاتين الدقيقتين، وكيف ستكون تركيبته النفسية؟ وما هي التصرفات التي سيكون قادرا على القيام بها؟
يمكن أخذ فكرة عما يمكن أن يحدث في هذه الحالة عند مشاهدة فيلم "يونايتد 93"، الذي تدور أحداثه حول عملية اختطاف إحدى الطائرات الأميركية في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وتبدو شخصية الخاطفين في الفيلم قريبة من الخاطفين الحقيقيين: شباب من الطبقة الوسطى وأغلبهم طلاب جامعات وبعضهم حسن المظهر، أي أن لديهم كافة المواصفات والإمكانيات التي تتيح لهم إمكانية الاستمتاع بحياة سعيدة لولا مشاعر الكراهية لأميركا التي استحوذت عليهم وجعلتهم يرحّبون بالموت إذا ترافق مع إلحاق أكبر ضرر بها.
نتيجة الانطباعات الخاطئة التي كونها كثير من العرب عن أميركا والكراهية التي تغلغلت عميقا فيهم، فإنهم يأخذون دائما موقفا معاديا للولايات المتحدة
وكما هو واضح من الأهداف التي اختاروها فإن غضبهم كان موجّها إلى كل الأميركيين بما فيهم النساء والأطفال والشيوخ، فالجميع حسب رأيهم يستحق الموت. ويتفق معهم في ذلك كل من شعر بالسعادة بعد "غزوة" أيلول وخصوصا من نزل للشوارع للتعبير عن فرحته بها رغم معرفته بأن الأغلبية المطلقة من ضحاياها كانوا من المدنيين، مما يؤكّد عدم صحّة ادعاءات بعضهم بأنهم ضد ممارسات رئيس أميركي معين أو مواقف إدارة دون غيرها، ويمكن ملاحظة نفس الناحية في لهجة التشفّي عند بعض العرب عندما يتحدثون عن الأعداد الكبيرة لوفيات وباء فيروس كورونا في أميركا، ومنهم من اعتبر ذلك شكلا من الانتقام الإلهي.
وبعضهم كان ينتظر مقتل رجل من أصول أفريقية على يد شرطي أبيض، ليؤكد على صحّة قناعاته عن استفحال العنصرية والقمع في أميركا. وقد عبّر عنهم خامنئي على حسابه في موقع تويتر "إذا كنت صاحب بشرة سمراء في أميركا فلا يمكنك التأكد إذا كنت ستبقى حيا خلال الدقائق القادمة". ومثله فعل إعلام النظام السوري الذي ندد بعنف الشرطة الأميركية!
الانتشار الواسع لحالة العداء لأميركا في الأوساط العربية جعل من الصعب ملاحظة فارق كبير في تغطية القنوات العربية للأحداث الحالية في أميركا بين إعلام محور الممانعة وإعلام محور الاعتدال، إذ أن العداء لأميركا هو جزء ثقافة شعبية في مختلف هذه البلدان وتؤثر بالجميع.
فمثلا من المسلمات في المنطقة العربية أن الشرطة الأميركية لا تستهدف في عنفها إلا الذين ينحدرون من أصول أفريقية، ولكن هذا الكلام غير دقيق. فقد قتلت الشرطة الأميركية خلال عام 2017 في سياق مواجهات أو مطاردات أو سرقات وغيرها 457 شخصا من البيض و223 شخصا من السود. وفي العام 2018 كان عدد القتلى البيض 399 يقابله 209 من السود، وفي العام 2019 كان عدد القتلى البيض 370 وقابله 235 من السود، وفي العام 2020 بلغ عدد القتلى على يد الشرطة من البيض حتى الآن 42 يقابله 31 من السود.
وبالمقارنة مع نسبة السود إلى عدد السكان، وهي 13 في المئة مقابل 70 في المئة من البيض يصبح تعرّض السود للقتل على يد الشرطة أعلى بكثير من بقية مكونات المجتمع الأميركي.
ولكن في المقابل هناك فروق كبيرة أيضا في نسبة ارتكاب الجرائم بين الأعراق، حيث أن 52.5 في المئة من الذين ارتكبوا جريمة قتل بين الأعوام 1980 و2008 كانوا من السود، مقابل 45.3 لجرائم قتل ارتكبها بيض، وكان 50.3 في المئة من ضحايا جرائم القتل هذه من البيض مقابل 47.4 من السود. وهذا يؤكد وجود مشكلة حقيقية في الولايات المتحدة لجهة استخدام الشرطة العنف المفرط غير المبرر خاصة تجاه الأميركيين من أصول أفريقية، لكن القضية أكثر تعقيدا من الصورة المبسّطة التي يرددها الإعلام العربي بأن رجال الشرطة البيض يقتلون بسبب وبلا سبب المواطنين السود.
ولأن نسبة واسعة من الشعب الأميركي تتطلع إلى المستقبل وإلى بناء دولة أكثر عدلا، فقد اعترفت بأخطاء وجرائم الماضي، بحق السكان الأصليين وبحق من تم جلبهم من أفريقيا من أجل استعبادهم وبحق الشعب الفيتنامي وغيرها من الأخطاء، وتعمل على التكفير عن ممارساتها تلك، ويمكن ملاحظة ذلك اليوم في الدور الكبير الذي يلعبه الأميركيون من أصول أفريقية في الحياة السياسية والإعلامية والفنية والرياضية وغيرها، ولكن الإعلام العربي لا يناسبه التطرّق إلى ذلك، ويفضّل نقل الجوانب السلبية مثل عنف الشرطة الأميركية مع تجاهل العنف الذي تتعرّض له الشرطة نفسها على يد المحتجين.
ولذلك، لن ينقل هذا الإعلام مواقف أشخاص محبّين ومتعاطفين مثل شريف مقاطعة جينيسي "كريس سوانسون" الذي انضم إلى المحتجين السلميين مع زملائه وقال: "هكذا يجب أن يكون الوضع الشرطة تقف مع المجتمع نحن ندين ما حدث، ذلك الرجل ليس منّا"، وتابع وهو من العرق الأبيض "عندما نرى ظلما ننتقد ما حدث بشكل علني في الشرطة والمجتمع".
ساعد في تكوين مشاعر الكراهية لأميركا عند شريحة واسعة من الشعوب العربية أن كل الأطراف تتفق على تعزيز هذه المشاعر، الحكومات ومعارضاتها، اليمين واليسار، الإسلاميون والقوميون
ومن خلال تجربتي الشخصية طوال السنوات التي قضيتها في أميركا، فإن الأغلبية المطلقة من الذين تعرّفت عليهم وتعاملت معهم كانوا أشخاصا طيبين وودودين مثل هذا الشريف، ولذلك أرى أن الصورة التي ينقلها أغلب الإعلام العربي عن أميركا غير منصفة.
ونتيجة الانطباعات الخاطئة التي كونها كثير من العرب عن أميركا والكراهية التي تغلغلت عميقا فيهم، فإنهم يأخذون دائما موقفا معاديا للولايات المتحدة، فعندما اختلفت مع الصين حول من المسؤول عن جائحة كورونا وقفوا إلى جانب الصين رغم معرفتهم أن عادات الصين الغذائية والتي تتضمن تعاملا لصيقا مع الحيوانات الحية كان هو السبب في انتقال كورونا ومن قبله السارس للإنسان. ولا يؤثّر على التعاطف العربي مع الصين قيامها بسجن مئات آلاف المسلمين في معسكرات اعتقال، لأن وقوفها ضد أميركا كفيل بغفران جميع ذنوبها.
وإذا أوقفت الولايات المتحدة تمويلها لمنظمة الصحة العالمية لأنها لم تقم بالوظيفة التي أنشئت من أجلها وهو التحذير ومواجهة كارثة صحية تسببت في وفاة أكثر من مئة ألف أميركي، كانت مشاعر العرب مع هذه المنظمة البيروقراطية المترهلة عديمة الفعالية تماما مثل أمها منظمة الأمم المتحدة.
وساعد في تكوين مشاعر الكراهية لأميركا عند شريحة واسعة من الشعوب العربية أن كل الأطراف تتفق على تعزيز هذه المشاعر، الحكومات ومعارضاتها، اليمين واليسار، الإسلاميون والقوميون، مما جعل معزوفات الكراهية تجاه أميركا تتكرر يوميا في المدارس ووسائل الإعلام والمنتديات الثقافية والأعمال الفنية حتى أصبحت أمرا مفروغا منه، وأضيف فوقها قوة أميركا الاقتصادية والعسكرية الاستثنائية وهيمنتها الثقافية لتكون عامل استفزاز إضافي أوصل مشاعر الغضب والكراهية عند خصومها إلى مستويات مرضيّة بحيث لم يعد باستطاعتهم إخفاءها.
-------------------------------
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).