فتاة عراقية تشارك في تظاهرة شعبية وتحمل لافتة كتب عليها "الخائفون لا يصنعون الحرية".
فتاة عراقية تشارك في تظاهرة شعبية وتحمل لافتة كتب عليها "الخائفون لا يصنعون الحرية".

محمد المحمود

كثيرا ما يتشبع الإنسان العربي بما ليس فيه؛ في حاضره وماضيه. إنه يفخر كثيرا، ويحب أن يقول ـ يقول؛ لا يفعل ! ـ في الفخر بما لا يستع له رَحْبُ الفضاء أحيانا، يحب أن يُحْمَد بما لم يَفعل؛ وكأنه يطابَق ـ توهما وإيهاما ـ بين القول والفعل، بين الادعاء والحقيقة، إلى أن يصل درجة يتوهم فيها أن ما قاله؛ قد فعله حقا، وأن ما زعمها صفة: مدح/ فخر؛ قد حازها أزلا وأبدا؛ فهي ـ وفق ما يدعي/ يزعم ـ طبيعته الخالدة؛ ثم يبني تصوراته وتقريراته وقراراته على هذا الأساس من الادعاء المجاني!

من هنا، يجب الحذر من أخذ كلامه عن ذاته على محمل الجد، إذ هو ـ وخاصة في سياق تقريره الفضائل الذاتية ـ يدخل في عملية لا شعورية من "التعويض عن المفقود"، عملية ترميم للتصدعات التي تطال حقيقته في الواقع، ترميم بِطِلاءٍ من الدعاوى العريضة التي تتضخم بحجم الإحراجات التي تصنعها تلك التصدعات الغائرة في نفس حائرة، في نفس تائهة، في نفس فاقدة لانتظام المعنى المتضمن في اتساق حركة التاريخ، أو ـ على نحو أدق ـ في التصور المُنَسِّق لعملية الوعي بالتاريخ.

على أي حال، ما نحن بصدده اليوم هو الزعم العربي/ زعم الإنسان العربي أنه ابن الحرية وسليلها الأنقى، زعمه أنه "عاشق الحرية" الأصيل، و"التواق إلى عوالمها" من فجر تاريخه الأول، وإلى اليوم. ويستدل على ذلك، لا بحركة الصعلكة الأولى فحسب، بل ـ أيضا، وأساسا ـ بالفوضى التي لازمت تاريخه منذ حاول كتابة سطوره الأولى في الواقع وإلى اليوم، على اعتبار أن تلك الفوضى وامتداداتها في تاريخه وجغرافياته تشَكل دليل تمرد حرياتي، ناتج عن اعتباره "الحرية" قيمة تتجاوز قيمة الشروط الموضوعية الناظمة للحياة في حَدّها المادي الخالص.

لكن، ليست الحرية هي الفوضى، ولا نمط من الفوضى، والفوضى ليست هي الحرية بحال. الفوضى هي عدوان على الحرية أصلا، هي تقويض لشرطها الضروري في الواقع. ومجتمعات الفوضى التي تغيب عنها شروط الضمانة القانونية؛ هي مجتمعات بلا حرية، إذ الفوضى تعني تلاشي الحدود الفردية المضمونة التي يستطيع أن يمارس الفرد فيها حريته، والتي بدونها يصبح مشرعا على العدوان في كل آن، ومن كل أحد.

الحرية ليست حالة عدم، أي ليست فراغا سلبيا، ليست هي "الحالة الطبيعية" الأولى، المتحققة أو المفترضة، بل هي حالة بناء تراكمي، حالة إيجابية تعني الفعل المُتجاوِز لـ"حالة الطبيعية"، ولحالة  الفوضى. "إن الحرية حق مكتسب بالجهد، وليست منة إلهية، أو منحة من الطبيعية" (الديمقراطية وتحديات الحداثة، إيليا حريق، ص192). 

إذن، الحرية ليست اختيار العالم الفوضوي العبثي، ليست تحللا من القوانين والأنظمة المضافة إلى "حالة الطبيعية"؛ ليكون الإنسان أقدر على تمثل الحرية والامتثال لها. إنها الاختيار الحر، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ الاختيار المسؤول الذي يقدم ـ عن وعي وعن إرادة، وعن وعي كامل بهذه الإرادة ـ كل الأثمان اللازمة التي هي شرط الحرية الأولي، كما هي/ الأثمان شرطها الضروري المحايث على مدى الوعي بها ـ إرادة وتمثلا ـ.  

ومن هنا، ولكونها إضافة إيجابية تشترط فعلا واعيا، ثم لِتَقاطع طرق الوعي بالواقع (الواقع مُتَضمِّنًا الواقعةَ الإنسانية ذاتها) الذي تتموضع فيه الحرية، ولتقاطع طرق الوعي بالحرية ذاتها؛ تصبح الحرية متعددة الأبعاد بالضرورة. وهي أبعاد يشترط بعضها بعضا، ولا تتحقق كـ"حرية" فاعلة بالذات ومن خلال الذات إلا بتعاضد وتساند هذه الأبعاد كلها. يقول المفكر العراقي الكبير/ عبد الجبار الرفاعي ـ كاشفا عن ملامح هذا الشرط الإيجابي، وتعدد أبعاده ـ: "الحرية أشق من العبودية؛ ذلك أنها: إرادة، وحضور، واستقلال، وشجاعة، ومسؤولية، وخيار إيماني، وموقف حيال الوجود. أن تكون حرا فهو يعني أنك تواجه العالم كله، وتتحمل كل شيء وحدك. العبودية: هشاشة، وغياب، واستقالة، وخضوع، وانقياد، وتفرج، وتبعية، ولا موقف، ولا أبالية، ولا مسؤولية. أن تكون عبدا يعني أنك لست مسؤولا عن أي شيء، حتى عن نفسك" (الدين والظمأ الأنطولوجي، ص16).

هنا، يصبح من الطبيعي أن تكون المجتمعات التي لم تقطع شوط التاريخ الأهم، عاجزة عن الوعي بالحرية، وبالتالي، عاجزة عن تمثّلها؛ إلا بفهم مغلوط ـ معاكس لحقيقتها ـ يتصورها: الحد الأقصى للفوضى؛ من حيث هو وعي/ فهم فوضوي. فالوعي هو ـ في النهاية ـ ابن الواقع. ما يعني أن الوعي بالحرية يبقى فرعا على الوعي بالواقع، هذا الواقع المشروط بتحولاته ذات البعد التراكمي، التي هي ـ في نهاية الأمر ـ شروط الوعي. 

وإذا عرفنا أن الحرية ـ في جوهرها، وفي تحقّقها الأصدق ـ هي حرية فردية، لا حرية جمعانية تأكل حرية أفرادها، ويبقى بعد ذلك الشعار ـ والشعار وحده ـ حرا؛ عرفنا أن الحرية الحقة هي الحرية الليبرالية ذات البعد الفرداني. فهذه الحرية الليبرالية الفردانية هي ابنة الواقع، واقع التطورات منذ بداية نشوء الرأسمالية، وصولا إلى الثورة البرجوازية التي أقرّ عبد الوهاب المسيري (وهو المفكر الضدي الذي يُشاغب نسق التقدم الغربي)، أنها هي التي جعلت الفرد مركزا لكل شيء؛ كما تجلى ذلك في آدابها الرومانسية، في الوقت الذي كانت فيه الثورة الصناعية (ابنة الرأسمالية) تخلق إمكانيات واقعية ضخمة لتحقيق حرية الفرد، وما نتج عن ذلك من ظهور المُدن الكبرى، أو المدينة بالمفهوم الحديث، أي المدينة التي ارتبط بها ظهور التفرّد (دراسات معرفية في الحداثة الغربية، عبد الوهاب المسيري، ص179 و180).

أين العرب من كل ذلك ؟ لا تطورات عميقة في الواقع، وبالتالي؛ لا وجود لوعي متطور مُحايِث. حتى المدن العربية الكبرى التي كان من المكن أن تُفْرِز حالةً برجوازية حقيقية تصنع مقدمات موضوعية  للتفرد الذي هو شرط الحرية، لم تكن مدنا بحق، بل كانت مجرد قرى متضخمة، أو قرى متجاورة، أو هي ثُكنات لـ"تجمعات ما قبل مدنية"، تؤكد هذا الـ"ما قبل مدني" في الوقت الذي تجهض فيه عناصر التشكل المدني. 

وإذا كان النصف الأول من القرن العشرين قد شهد طلائع لطبقة برجوازية عربية ناشئة على استحياء، وعلى قلق، وعلى اضطراب هوياتي ومادي/ واقعي، فإن الإيديولوجيات الشمولية (القوموية والإشتراكية والإسلاموية) تكفلت بالإجهاز على تلك الطلائع، وتحويل ـ ما رضي منها بالترويض ـ إلى مكونات أدبية ومادية لتحفيز التغول الشمولي الذي كانت العسكراتية عموده الفقري في مراكز التأثير العربي. 

وبالاستناد إلى دلالة "التلقي"، نجد أن التيارات الليبرالية بكل أطروحاتها منذ قرن ونصف لم تستطع التجمهر عربيا، لم تستطع غزو وعي الجماهير؛ فبقيت نخبوية معزولة، ومحل ارتياب وتوجس. بينما التيارات الشمولية (= القوموية والإشتراكية والإسلاموية) حظيت باستقبال جماهيري واسع، بل كاسح في كثير من الأحيان. ما يعني أنها ـ كجماهير عربية تعكس حقيقية المزاج العربي/ الروح العميق للإنسان العربي ـ غير معنية بسؤال الحرية أصلا وأصالة، بل على العكس، يبدو سؤال الحرية لها مقلقا ومريبا؛ عكس جواب الجمعانية والشمولية التي يبدو لها مريحا ومطمئنا وباعثا على الاستقرار الذي يعني ـ في وعي هذه الجماهير ـ تشكيل المستقبل على صورة معهودة/ مألوفة من الماضي التليد.  

عندما يقول جوستاف لوبون: لا يخلو استبداد الطبقات الاجتماعية من فائدة، فآراء الجماعة تمنح أكثر الناس استقرارا نفسيا ـ يمتلكون قدرا من الثبات. وعندما يؤكد ـ نصا ـ أن "من المفيد أن تكون الآراء العامة قليلة التسامح، إذ الخوف من انتقاد الآخرين هو أحد الأسس الأخلاقية المتينة" (الآراء والمعتقدات، ص57و190)، فإنه ـ من غير أن يقصد ـ يُعبّر عن جوهر التصور العربي لموقع الفرد من الجماعة، ولدور الجماعة في تكييف ـ وربما تقييد ـ حرية الفرد، بل ونفيها بالكامل إن لزم الأمر (ولزومه هنا هو وفق ما تعتقده الجماعة حقا أو أخلاقا لازمة الامتثال). ولا مشكلة ـ والحال كذلك عند لوبون، والوعي العربي المشابه ـ أن تصل درجة القسر الاجتماعي إلى التخويف أو الإرهاب لـ"الفرد" الذي يخرج عن سياق المُحَدِّد الأخلاقي الجمعاني. 

حتى عندما يطرح العربي نفسه كـ"حداثي" أو كـ"مستنير"؛ فهو ـ في الغالب ـ مستريب بالحرية لصالح المبدأ الشمولي الجمعاني المُتوارِي خلفَ أخلاقيات اجتماعية راسخة، أو خلف تصورات دينية مدموغة بكونها حقائق مطلقة، أو خلف شوفينية قومية: أممية أو قطرية، أو خلف ادعاءات مصلحية عامة...إلخ. وبقوة دفع هذه الاسترابة؛ تصبح مقولات الحرية مخترقة بحزمة من الاستثناءات حينا، وبتوجس متخيل/ متوقع، يحيل إلى فرضيات مستقبلية في أحايين أخرى. 

لاحظ ما يقوله الكاتب المصري/ صلاح سالم ـ المعلن عن نفسه ككاتب حداثي/ تنويري ـ محاكما النزعة الفردية بضرورة النهاية المفترضة: "فإذا ما تركنا النزعة الفردية تصل إلى ذروتها المطلقة سنكون بشكل أو بآخر أمام أنانية جديدة، ليست القديمة البدائية قليلة الحيلة، بل الحديثة المسلحة بكل عوامل القوة والدهاء القادرة على النيل من كل فرد آخر أو قيمة اجتماعية مستقرة"(جدل الدين والحداثة، ص276). وطبعا، هذا لسان الأغلبية الساحقة، وهكذا يستجيب العربي لنداء الحرية؛ حتى وهو يزعم أنه يُفَكِّر في سياق حداثي. 

إذن، العربي يعيش فوضى العقل، وما فوضى الواقع إلا انعكاس له، وانعكاس عليه. الفوضى مرحلة تاريخية سابقة للتنوير، وبدرجة أولى سابقة للحداثة. وبما أن الحرية محايثة لهما (= التنوير والحداثة)، وتمثلها الأكمل لاحق لتحققهما في الواقع كأرضية لإمكانيات، وبما أن العرب لم يدخلوا عصر التنوير بعد ـ فضلا عن عصر الحداثة ـ؛ فمن الطبيعي أنهم لم يدخلوا عصر الحرية بعد، بل وأنهم بَعيدون عن هذا العصر بقدر بعدهم وعجزهم عن الوصول إلى عصر تنوير عربي حقيقي.  

-------------------------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

مواضيع ذات صلة

تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء
تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء

عبد الرحيم التوراني

تسود منذ فترة ليست باليسيرة حالة من الاستياء العام ومن تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب، تطفو نبرته الحادة على ألسنة الناس في أحاديثهم اليومية، وتعبيرهم عن شكواهم الصريحة من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء.

في هذا الصدد عرف الأسبوع الأخير الدعوة لمظاهرات احتجاجية، تم تفريقها في عدد من مدن وجهات المغرب. مظاهرات ومسيرات احتجاجية دعت إليها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمختلف الأقاليم، مسنودة بالأساس من تحالف الجبهة الاجتماعية المغربية، وضمنه أحزاب فيدرالية اليسار المغربي، والحزب الاشتراكي الموحد، وحزب النهج الديمقراطي العمالي، إضافة إلى الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وهيئات حقوقية ومدنية أخرى.

في بيان خاص نبهت المركزية النقابية إلى "الارتفاع المهول للأسعار بشكل غير مسبوق، وانهيار القدرة الشرائية للمواطنات والمواطنين، واتساع دائرة الفقر والفوارق الاجتماعية والمجالية في ظل توالي الأزمات وإصرار الحكومة على نفس الاختيارات السائدة منذ عقود".

وبالرغم من كونها ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها المغاربة إلى الاحتجاج بالنزول إلى الشارع، فإن الأمر أصبح يدفع باستمرار إلى طرح سؤال حارق قد يبدو للبعض أن به مبالغة: - هل يسير المغرب في اتجاه انفجار اجتماعي؟

إلا أن السلطات الأمنية عمدت إلى منع هذه المسيرات الشعبية، بدعوى "الحفاظ على الأمن العام". ما أفضى بتحول الاحتجاجات ضد الارتفاع الهائل في أسعار المواد الغذائية، إلى التنديد بالقمع وخنق حرية التعبير، والممارسات التي تتنافى وتتعارض مع نص الدستور.

صادف هذا الحدث إحياء الذكرى 12 لـ لانتفاضة "حركة 20 فبراير" المنبثقة عن ثورات الربيع العربي، وقد تمت استعادة شعاراتها المركزية المتمثلة بالأخص في المطالبة بـ"إسقاط الفساد"، ورفض "زواج المال والسلطة"، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وفي المقدمة سجناء حرية التعبير من صحفيين ومدونين ومدافعين عن حقوق الإنسان.

لا شك أن وسائل الإعلام الرقمي الجديد، وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي، سهلت إتاحة المعلومات المتعلقة بأغنى الأشخاص الذين يهيمنون على ثروات المغرب، وهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، من بينهم رئيس الحكومة الحالية عزيز أخنوش، صاحب محطات "إفريقيا" للمحروقات وأكبر فلاحي المغرب، وزوجته سلوى أخنوش، وذلك فق ما ينشر سنويا في تصنيفات مجلة "فوربيس" الأمريكية المهتمة برصد وإحصاء أرصدة أغنياء العالم.  وبينما ينعم هؤلاء الأغنياء في الرفاه وترف النِّعَم، يعيش ملايين المغاربة في فقر "كاريانات" مدن الصفيح، دون الحد الأدنى من المقومات الأساسية للعيش الكريم. وفي الوقت الذي تتسع فيه فجوة الفوارق الاجتماعية، ويتضاعف فيه معدل الفقر بنسب عالية، تجد حكومة عزيز أخنوش نفسها أمام تحديات كبيرة لاختبار استراتيجياتها وسياساتها التي أعدتها بهدف تجاوز الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.

فعلى ضوء ما وعدت به الحكومة الحالية وما قدمته في برنامجها وبيانها الحكومي، فإن حوالي عام ونصف على تنصيب عزيز أخنوش على رأسها (7 أكتوبر 2021)، هو زمن كافٍ لإجراء تقييم لإنجازاتها. إلا أن المؤشرات هنا توضح مدى ضعف الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه الحكومة، في خضم ما يعانيه العالم اليوم من تضخم قوي ناتج عن تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، وعن ذيول ومخلفات الأزمة الاقتصادية المترتبة عن وباء كورونا في 2020.

بيان الكونفدرالية الديمقراطية للشغل حمَّل حكومة أخنوش "كامل المسؤولية عما قد يترتب عن الوضع الاجتماعي المأزوم من ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي"، أمام تجاهل آثار هذه الأزمة الاجتماعية الخانقة. وأكد على ضرورة اتخاذ مبادرات وإجراءات جريئة وهيكلية لإيقاف ضرب وتدمير القدرة الشرائية لأغلبية المواطنات والمواطنين، و"محاربة كل أشكال الفساد والريع والمضاربات بدل مواصلة الانحياز للرأسمال الريعي والاحتكاري، وخنق الحريات". كما طالب بتنفيذ كافة الالتزامات الاجتماعية، وعدم المساس بمكتسبات التقاعد.

لكن الحكومة تبدو وكأنها غير آبهة بما يجري ويحدث أمام أنظارها من تفاعل وصراعات، وقد تآلفت أسماعها مع مثل هذه اللغة الاحتجاجية الموغلة في السلبية  والتشاؤم.

إلا أن نقابي من قطاع التعليم من مدينة طنجة، أبى إلا أن يذكرنا بالتاريخ القريب جدا، ففي الصيف الماضي فقط (يوليوز 2022) انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو ظهر في رئيس الحكومة عزيز أخنوش مصحوبا بوزير الشباب والثقافة والتواصل، المهدي بنسعيد، ووزيرة السياحة والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، فاطمة الزهراء عمور، وهم في مهرجان موسيقي. فجأة تعالت أصوات تردد: (أخنوش.. ارحل.. ارحل). إثرها شوهد رئيس الحكومة وهو يغادر المكان مسرعا ويركب سيارة.

ليلتها كانت ساكنة مناطق الشمال في المغرب تعاني من ويلات حرائق مهولة، ضمن سلسلة حرائق شملت الجنوب الأوروبي، فرنسا واليونان واسبانيا والبرتغال. وفي الوقت الذي هرع فيه رؤساء ومسؤولو حكومات تلك الدول باتجاه مناطق الكوارث ببلدانهم  للتضامن مع ضحايا الفجيعة الإنسانية، أدار رئيس الحكومة المغربية ظهره للآلاف من المغاربة الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مشردين وسط الغابات المحترقة، وقد دمرت قراهم وحقولهم، إذ فضل رئيس الحكومة المغربية النزول جنوبا لافتتاح مهرجان موسيقي راقص، في المدينة التي يشغل فيها مهمة عمدة، ولم يدر بخلده أنه سيواجه بمثل تلك المعاملة من جمهور مشتعل بالغضب، لم يتردد في تأسيس زلزال تحت المنصة التي وقف عليها المسؤول الحكومي الأول.

وللإشارة فقد اشتهرت هذه المدينة الجنوبية الساحلية بالزلزال الذي ضربها بتاريخ 29 فبراير 1960 وخلف أزيد من 15 ألف قتيلا، ومن تاريخها كلما وقعت هزة أرضية عنيفة على سطح الأرض، مثلما وقع أخيرا في تركيا وسوريا، تذكر العالم مدينة أغادير وزلزالها العنيف.

لم يعد أخنوش يأبه بشعارات المطالبة برحيله، منذ تصدر وسم "أخنوش ارحل" مواقع الفيسبوك والتويتر في المغرب، على خلفية ارتفاع أسعار الوقود. حيث يعد الرجل المحتكر رقم واحد للمحروقات في البلاد. ويتهمه الرأي العام في المغرب بكونه وراء ارتفاع أسعار المحروقات رغم هبوطها في الأسواق العالمية، باعتباره رئيسا للوزراء ثم بصفته صاحب أكبر شركة لبيع وتوزيع الوقود في المغرب (افريقيا غاز)، وطبعا هو دائما أكبر المستفيدين من ارتفاع الأسعار.

لقد تحول الشعار الذي خاض به حزب أخنوش الانتخابات الأخيرة إلى مسخرة لدى الناس، يهزؤون به كما يثير حفيظتهم، والشعار الموجه للناخبين والمواطنين عموما أثناء الحملة الانتخابية البلدية والبرلمانية صيف 2021، هو "تتساهل أحسن"، وترجمته الفصيحة: "أنت تستحق الأفضل". وكان رئيس حزب الأحرار عند كشفه للمرة الأولى لـ"شعار المرحلة" كما أسماه، قال في تجمع انتخابي بالدار البيضاء: (إن المغاربة "يستاهلو" حكومة قادرة أن تكون في المستوى الّلي بغا صاحب الجلالة).

ولما حصل حزب عزيز أخنوش (التجمع الوطني للأحرار) على المرتبة الأولى في انتخابات 8 سبتمبر 2021، وتم تعيينه رئيسًا للوزراء من قبل الملك محمد السادس، أكد أخنوش أنه سيلتزم بالرعاية الاجتماعية ودعم الأسر الأكثر ضعفا وتعزيز الصحة العامة والتعليم، والنهوض بالاقتصاد الوطني المتضرر من الوباء. ثم  أعلن مباشرة عن خطة طارئة لدعم السياحة، باعتبارها القطاع الرئيسي في الاقتصاد المغربي. ووافقت حكومته على برنامج حمل اسم "أوراش"، يهدف إلى خلق 250 ألف فرصة عمل بين عامي 2022 و2023. كما تكلم عن تقنين الإنفاق العام وتعزيز مشاريع البحث العلمي. والاتجاه نحو تقليص الفوارق الاجتماعية بين المغاربة.

وما يراه المواطنون اليوم هو تراجع واضح عن الوعود التي تضمن تحقيق "المغرب الديمقراطي الجديد"، كما جاء على لسان أخنوش دائما.

من بين تلك الوعود التي تعهدت بها الحكومة وظلت مجرد وعود: - "إخراج مليون أسرة من الفقر وانعدام الأمن"، ومكافحة البطالة عن طريق "خلق مليون فرصة عمل"، وتوفير ضمانات الرعاية الاجتماعية، ومنها "دخل الكرامة" الذي يصل إلى 400 درهم (حوالي 34 دولار أمريكي)، لمساعدة كبار السن، و300 درهم (حوالي 25 دولار أمريكي) لدعم الأسر الفقيرة ومساعدتها على تعليم أطفالها، والتزام مدى الحياة لدعم ذوي الاحتياجات الخاصة. ناهيك عما قيل عن إحداث ثورة في قطاع التعليم، "ثورة تجعل المغرب ضمن أفضل 60 دولة في العالم من حيث جودة التعليم".

ولم يرِد أي كلام هام في بيان حكومة أخنوش يخص محاربة الفساد، غير أن آخر ما حصل في هذا المجال هو  فضيحة "بيع تذاكر المونديال"، وقد تورط فيها رجال أعمال ونواب برلمانيين من الأحزاب المتحالفة ضمن الحكومة الحالية، وحتى اليوم لا زال الرأي العام في انتظار نتيجة التحقيقات التي قامت بها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالدار البيضاء في هذا الشأن. وقد سبقت هذه الفضيحة قضية امتحانات ولوج سلك المحاماة.

وآخر وليس الأخير بهذا الصدد، فضيحة استيراد الأبقار من البرازيل، وما رافقها من شبهات تسريب قبلي لعزم الحكومة إلغاء الرسوم على استيراد الأبقار المعدة للذبح، وكانت المفاجأة أن مستوردين "محظوظين" بعلاقاتهم مع جهاتٍ حكومية، استطاعوا أن يستوردوا من هذا البلد اللاتيني  قطعانا من العجول والأبقار المعفية من رسوم الاستيراد، بعد فترة زمنية قصيرة تناهز أسبوعين فقط، مباشرةً بعد تاريخ اتخاذ قرارالإعفاء في المجلس الحكومي. ما يعزز بقوة الشكوك والشبهاتحول وقوع عملية تسريب المعلومة المذكورة قبل اتخاذ القرار رسميا من طرف الحكومة"، وقد طرحت المسألة في مجلس النواب.

هكذا، مهما بلغت حاجة الناس لمشاعر النصر والابتهاج، لم تستطع كرة القدم والإنجاز الكبير للمنتخب المغربي في مونديال قطر، تبديد الاضطرابات الاجتماعية، والخوف كل الخوف من أي استقرار أو سلام اجتماعي هش، ومن ضعف المعارضة، فلا شيء مضمون لاستبعاد تطور مسار الأحداث وانجرافها نحو انفجار كبير!

================================================================

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).