الإصلاح الديني في العالم العربي يبدأ بالفرد نفسه (أ ف ب)
الإصلاح الديني في العالم العربي يبدأ بالفرد نفسه (أ ف ب)

محمد المحمود

يقول روبرت غرين: "لا تستهن أبدا بميل الناس للاستقرار والمحافظة على ما اعتادوا عليه، فذلك شعور مسيطر وعميق" (قواعد السطوة، ص581). وبلا شك، فهذا الميل للاستقرار والمحافظة والاتباع هو ما يصنع المماثلة التي تصنع الألفة، وتنفي الوحشة والغرابة؛ فتكون هي أهم ما يسهم في صناعة الاجتماع الإنساني الذي ينهض على قاعدتين من "المماثلة" و"الامتثال" بوصفهما عنصرين أساسيين؛ لا في مسار تكوينه فحسب، وإنما أيضا في مسار تطوّره الخاص.

الإنسان كائن تقليدي بامتياز. هو كذلك خِلْقةً/ طبعًا، وسيبقى كذلك؛ ما لم يطرأ عليه طارئ نادر/ استثنائي من تمرّد العقل الجموح الممسوس بشيء من "خيال". ومن هنا، ليس غريبا أن تكون ظاهرة "عبادة الأسلاف" ظاهرة إنسانية عامة، رافقت تطور الاجتماع الإنساني منذ بداياته الأولى، وإلى اليوم، حتى وإن كانت تتّخذ ـ في بعض الأحوال وبعض المسارات التاريخية ـ تنويعا على أصل "العبادة"؛ فيما لا يُخْرِجها عن حقيقة التقليد/ الاتباع لـ"سَلَفٍ ما"، الذي يعني منح الأموات "حق التفكير" للأحياء، بل وحق احتكار التفكير دون الأحياء في كثير من الأحيان.

الدين، أي دين، ومن حيث هو دين، لا يخرج عن هذا السياق: سياق التقليد. الدين عُنصرُ ثَباتٍ، بل هو من أهم عناصر الثبات والرسوخ والاستدامة واليقين (ومن هنا كونه مصدر "طمأنينة" وسط رُعْب المُتغيّرات). بالدين، لا ينظر الإنسان بثقة إلى واقعه فحسب، بل ينظر كذلك إلى ماضيه وإلى مستقبله بقدر لا بأس به من الثقة والاطمئنان. وما ثقته بواقعه إلا تواصلا ـ مُسَبِّبا ـ لثقته بماضيه، بماضيه الذي منحه ـ في الوقت نفسه، وبدرجة أولى ـ ثقته بمستقبله القريب، و أيضا ـ وهو الأهم والأكثر فاعلية في راهنيته ـ منحه ثقته بمستقبله البعيد، الأبدي.

إذا كان الدين ثَباتا، ورسوخا، واستمرارية، فإن "الإصلاح الديني" يصبح صعبا ومُقلقا ومُسْتفِزا؛ من حيث هو زعزعة لهذا الاستقرار، وقطع لهذه الاستمرارية، وضرب للعنصر الخفي أو الجلي من إرادة "عبادة الأسلاف"، وهي الإرادة المحايثة لمسار تطوّر وعي الإنسان، كما هي محايثة لواقع الإنسان.

لكن، ليس "الإصلاح الديني" بالمطلق، هو الصعب والمقلق والمستفز. ما تنطبق عليه هذه الأحوال من رَدَّات الفعل هو الإصلاح الديني الحقيقي، أي الإصلاح الذي يُمارس نقدَ/ تفكيك التراث، ومِنْ ثَمَّ إعادة تركيبه بما يَتلاءم مع ضرورات المرحلة، بكل ما يسلتزمه ذلك من متغيرات جذرية تطال أهم أسسه المؤثرة في نظام الوعي. ما يعني أنه ـ وبالضرورة ـ إصلاح يختلف نوعيا ـ وليس كميا فحسب ـ عن ذلك الإصلاح المُدَّعى: إصلاح التجديد، الإصلاح الذي يقوم على استعادة صورة مُتَخَيَّلة عن مرحلة/ حالة مُتقدّمة في ماضٍ سحيق؛ بوصفها صحيح الدين. بتعبير أوضح، ليس هو البحث عن الجواهر المُخَبَّأة التي علاها غبارُ القرون المتطاولة، فيكون الإصلاح ـ حسب هذا الادعاء ـ مجرد نفض هذا الغبار عنها، وإعادة تلميعها، و وضعها في صدارة مقولات التجديد، بينما هي مجرد قَفْزٍ بهلواني على بضعة قرون؛ لِتقليدِ تراثِ قرونٍ أقدم ! 

لهذا، كنت ـ ولا أزال ـ أقول: الإصلاح الديني في بلاد الإسلام لم يبدأ بعد، حتى خطواته الأولى لم ترَ النور إلا ومضات خاطفة. ولهذا أيضا أُصِرّ على أن كل دعوات الإصلاح والتجديد هي خُطَط تكتيكية للالتفاف على الإصلاح الديني الحقيقي؛ في مسار استراتيجية عامة تتعمّد "الحفاظ على تراث الأسلاف" أي الإبقاء على "نمط الوعي الديني التراثي"؛ كما كان في القرون الأولى. وبهذا يكون الإصلاح المزعوم قناعا؛ لا اقتناعا، الإصلاح هنا قناع في مرحلة عابرة؛ لإخفاء معالم الهوية التراثية التقليدية التي باتت اليوم مُحْرِجَة بمقولاتها الإقصائية والخرافية الصادمة لبديهيات "المعقول العلمي" ولبديهيات "حقوق الإنسان".

إلى اليوم، لا يوجد "إصلاح ديني" تتبنّاه مُؤسّسات أو جماعات فاعلة ومؤثرة. وما هو موجود، ليس أكثر من حالات فردية نادرة، مُشَتَّتة، وغير متسقة في الحدود الدينا للتوافق الإجماعي المتعاضد الذي يصنع حالة "إصلاح ديني". ولأنها نادرة، ومُشَتَّتة، وغير مُنْتَمِية لإطارٍ مُؤَسَّسَاتي، فإنها سرعان ما تذبل وتموت؛ بمجرد موت أصحابها، أو إحباطهم وتواريهم عن المشهد، أو كسر أقلامهم بطريقة ما. وهذا ما ينتج عنه في الضفة الأخرى: التقليدية/ الإصلاح التقليدي، مظهر انتصار يمنح أصحابه ـ ومن ورائهم جماهيرهم البائسة ـ وَهْمَ الثقة بمقولاتهم وبمؤسساتهم، وأن قانون "البقاء للأصلح" قانونٌ يحكم لصالحهم، من حيث هو ـ كما يتوهمون ـ ضمانة إلهية لحفظ الدين.

حتى تلك المحاولات "العقلانية" للإصلاح الديني الإسلامي نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لم تكن أكثر من "استعادة" أو "تَسَلُّفٍ" ما؛ على الرغم من ضرورتها في مرحلتها. يقول المفكر المصري/ جابر عصفور عن إصلاحيّة محمد عبده والأفغاني: "السلفية العقلانية التي استبدلت بنقل الحنابلة ونفورهم من العقل، اجتهادَ المعتزلة وإعلائهم من شأن العقل، ولكن من غير وضع العقل نفسه [يقصد: العقل الاعتزالي المُسْتَعَاد] موضوع المساءلة، أو النظر إلى إنجازات المعتزلة والفلاسفة بوصفها نقطة للابتداء الذي يمضي بعيدا عن مبدأ المماثلة أو منطق الاستعادة". ويُبَرِّر عصفور وصفَ هذه المحاولات بـ"السلفية العقلانية"، أنها ظلت نزعة تقيس على السلف من أهل العقل، لمواجهة أهل النقل (نحو ثقافة مغايرة، جابر عصفور، 35 و36ص). 

ولعل ما يؤكد بؤس المطروح بوصفه "إصلاحا دينيا" على امتداد تاريخنا القريب أن هذه "السلفية العقلانية" (ومع المفارقة بكونها: سلفية وعقلانية؛ إذ هما ضدّان لا يجتمعان) على تواضعها، وعلى كونها تتوسل بالتراث، وتتمسّح بنوع من "عبادة الأسلاف"؛ إلا أنها ـ ولكونها أقل تقليدية/ أقل تَصنميّة ـ لم تستطع النمو ولا التمدد في وسط اجتماعي غارق في التقليد بكل مؤسساته التعليمية والإفتائية، وبكل جماعاته وأحزابه وتياراته المتأسلمة؛ حتى أصبح "الإصلاح" في مرحلة النصف الثاني من القرن العشرين لا يعني أكثر من تجريم إصلاحية محمد عبده؛ بوصفها انحرافا وزيغا وضلالا. 

لا بد من التأكيد على أن الإصلاح الديني ليس حالة ثابتة، قارَّة، بل حالة مُتَمَرْحِلة في التاريخ. فما كان "إصلاحا دينيا" في زمن ما، لا يبقى كذلك أبدا، بل يصبح ـ بعد تجاوز التاريخ لشرطه ـ تقليدية وجمودا، يصبح "سلفيّة" بكل ما في هذا المصطلح من انكفاء وإقصاء وجمود، يصبح موقفا يقع على التضاد من مسار التحقق التنويري الذي هو استجابة مستمرة لشرط التطور في مَسَاري: الوعي والواقع.  

إن ارتباط الإصلاح الديني بالتحوّل/ التغيّر، وفقا للتحوّل/ التغيّر في الاجتماع الإنساني (والإنسان الفرد مُتَضَمَّن فيه) هو ما تَنبَّه له المفكر الإيراني/ محمد مجتهد الشبستري، إذ يُؤكّد ـ بقدر ما يُظْهِر ويُجَليّ ـ اختلافَ إنسان اليوم عن إنسان الأمس (إنسان التراث/ إنسان الماضي)، ففي رأيه أن الإنسان الآن يعيش دائما في باطنه تعقيدات متزايدة، لأن العالم الخارجي يخضع دائما لأسئلة وعلامات استفهام، وتتعقّد الأمور في واقع الإنسان ويتعقّد الجو الذهني للإنسان تدريجيا.. وهذا الأمر لم يكن موجودا في حياة الإنسان التقليدية بسبب وجود الانسجام بين باطن الإنسان وخارجه وبسبب أن الواقع الخارجي يتمتع بالقوة والانسجام والثبات بحيث يكون الإنسان كالطفل في مهده هادئا مطمئنا، وهو مطمئن من حيث كون العالم بالنسبة له "معقولا"، يسير ـ على أساس القضاء والقدر ـ وِفْقَ نظام معين وقوانين صارمة (قراءة بشرية للدين، ص 46ـ 48)  

والشبستري يلمح هذا القلقَ الإنساني المرتبط بقلق الواقع الناتج عن متغيراته المتسارعة التي تسابق وعي الإنسان التقليدي، ويرى أن الإنسان في عصرنا/ عصر الحداثة يعيش الاختيار/ الانتخاب في كل مجال. وبالتالي "ليس أمامه طريق سوى أن يتحرك من موقع الانتخاب لا من موقع التبعية" (قراءة بشرية للدين، ص51). لكن، هذا الواقع القَلِق، وهذا الإنسان الذي يعيش القلقَ من زاوية حريته المُتَنامِية في فضاء الاختيار المتسع باستمرار، يصطدم بـ"جمودية التديّن التقليدي" التي تحدّ من الخيارات، حتى إنها تتجاوز ـ بالتعمية والتجاهل قبل المنع ـ ما هو متاح في الواقع من خيارات.  

هذا ـ في تصور الشبستري ـ ما يُسَبِّب مأزقا للوعي، لوعي الإنسان المسلم المعاصر، الذي يجنح إلى الخيار الديني في مرحلة العودة إلى الأديان؛ فيما الخيار الديني (الخيار الرسمي، المؤسساتي، الخيار المهيمن) المتاح له ينتمي ـ بِكُليّته ـ إلى عصر آخر مغاير تماما لعصره، مغاير ـ وبصورة أكثر تأزميّة ـ لما عليه إنسان هذا العصر وَعْيًا و واقعًا. وهذا هو السبب الذي جعله يُقرِّر منذ البداية أن "القراءة الرسمية الفقهية والحكومية للدين الإسلامي في إيران تُواجه مأزقا خطيرا" (قراءة بشرية للدين ص36)

إن كثرة الإشكاليات والتأزمات التي يُفْرِزُها اشتغالُ الدين على الواقع جعلت كثيرين يَرْبِطون رَبْطا آليًا بين كل صور التأزم والاستشكال وبين الدين. بينما المشكلة ليست في الدين ولا في التديّن مُجَرَّدَين، وإنما في الدين المتاح ونمط التدين السائد (الذي لم يمر بـ"حالة إصلاح" بعد). وللأسف، نمط التّديّن السائد في أكبر تُرَاثين إسلاميين (التراث السني والتراث الشيعي) ليس فقط تُرَاثا ماضويا مُغْرِقا في ماضويته فحسب، إنما هو تراث استقر وثبت على أسوأ ما في التراث، أي على أعلى مرحلة في مسار التزمت والإقصاء والجمود النصي ونفي العقل من دائرة الاهتمام، فضلا عن نفيه من دائرة التفعيل.    

يرصد المرحوم/ جورج طرابيشي في كتابه العميق (من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث) مسيرةَ عقلٍ إسلامي تقليدي منذ البداية. وكونه تقليديا/ نصيا منذ البداية ليس أساس المشكلة، المشكلة أنه كان يتحوّل ـ بمرور الزمن ـ إلى عقل أشد تقليدية وانغلاقا ونَصيَّة، بدل أن يتحول ـ بحكم التطور الزمني ـ إلى عقل أكثر انفتاحا وأقل نَصيَّة. فالإمام مالك ـ كما يرى ـ كان نموذجا "لعقل نصي، أي لعقل لم يفقد بعد كل مرونته الجدلية ولم يتأدَّ به انتماؤه إلى مرجعيته النصية إلى التنكر، كل التنكر، لثقل الواقع(ص111). بينما تلميذ مالك: الشافعي، سيكون أكثر من شيخه نصيّة وانغلاقا، وتلميذ الشافعي: ابن حنبل سيكون أكثر من شيخه نصية وانغلاقا، ومعهما سيأخذ العقل الإسلامي أشد صوره الانغلاقية على الإطلاق. 

اليوم، ومع كل التحولات الجذرية في واقع المسلمين على امتداد قرنين، لا يزال تراث عصر مالك والشافعي وابن حنبل (وبالتوفر على نسخته الأخيرة الأكثر نصيّة/ الأثرية)، هو التراث المعتمد في المؤسسات التعليمية والإفتائية على امتداد العالم الإسلامي. وكل محاولات الإصلاح تأتي من خلال هؤلاء، من خلال التشرعن بتراثهم، وليس من خلال تفكيك أصولهم ومساءلة مُنْطَلقاتهم، والانقلاب على منطقهم الاستدلالي؛ لحساب أصول جديدة، ومنطلقات عصرية، ومنطق استدلالي صادر عن رَاهنية تاريخية مشروطة بظروفها، وأهم ظروفها: مستقبلها المنشود المشروط بالمجتمع الإنساني.

-------------------------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

مواضيع ذات صلة

تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء
تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء

عبد الرحيم التوراني

تسود منذ فترة ليست باليسيرة حالة من الاستياء العام ومن تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب، تطفو نبرته الحادة على ألسنة الناس في أحاديثهم اليومية، وتعبيرهم عن شكواهم الصريحة من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء.

في هذا الصدد عرف الأسبوع الأخير الدعوة لمظاهرات احتجاجية، تم تفريقها في عدد من مدن وجهات المغرب. مظاهرات ومسيرات احتجاجية دعت إليها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمختلف الأقاليم، مسنودة بالأساس من تحالف الجبهة الاجتماعية المغربية، وضمنه أحزاب فيدرالية اليسار المغربي، والحزب الاشتراكي الموحد، وحزب النهج الديمقراطي العمالي، إضافة إلى الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وهيئات حقوقية ومدنية أخرى.

في بيان خاص نبهت المركزية النقابية إلى "الارتفاع المهول للأسعار بشكل غير مسبوق، وانهيار القدرة الشرائية للمواطنات والمواطنين، واتساع دائرة الفقر والفوارق الاجتماعية والمجالية في ظل توالي الأزمات وإصرار الحكومة على نفس الاختيارات السائدة منذ عقود".

وبالرغم من كونها ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها المغاربة إلى الاحتجاج بالنزول إلى الشارع، فإن الأمر أصبح يدفع باستمرار إلى طرح سؤال حارق قد يبدو للبعض أن به مبالغة: - هل يسير المغرب في اتجاه انفجار اجتماعي؟

إلا أن السلطات الأمنية عمدت إلى منع هذه المسيرات الشعبية، بدعوى "الحفاظ على الأمن العام". ما أفضى بتحول الاحتجاجات ضد الارتفاع الهائل في أسعار المواد الغذائية، إلى التنديد بالقمع وخنق حرية التعبير، والممارسات التي تتنافى وتتعارض مع نص الدستور.

صادف هذا الحدث إحياء الذكرى 12 لـ لانتفاضة "حركة 20 فبراير" المنبثقة عن ثورات الربيع العربي، وقد تمت استعادة شعاراتها المركزية المتمثلة بالأخص في المطالبة بـ"إسقاط الفساد"، ورفض "زواج المال والسلطة"، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وفي المقدمة سجناء حرية التعبير من صحفيين ومدونين ومدافعين عن حقوق الإنسان.

لا شك أن وسائل الإعلام الرقمي الجديد، وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي، سهلت إتاحة المعلومات المتعلقة بأغنى الأشخاص الذين يهيمنون على ثروات المغرب، وهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، من بينهم رئيس الحكومة الحالية عزيز أخنوش، صاحب محطات "إفريقيا" للمحروقات وأكبر فلاحي المغرب، وزوجته سلوى أخنوش، وذلك فق ما ينشر سنويا في تصنيفات مجلة "فوربيس" الأمريكية المهتمة برصد وإحصاء أرصدة أغنياء العالم.  وبينما ينعم هؤلاء الأغنياء في الرفاه وترف النِّعَم، يعيش ملايين المغاربة في فقر "كاريانات" مدن الصفيح، دون الحد الأدنى من المقومات الأساسية للعيش الكريم. وفي الوقت الذي تتسع فيه فجوة الفوارق الاجتماعية، ويتضاعف فيه معدل الفقر بنسب عالية، تجد حكومة عزيز أخنوش نفسها أمام تحديات كبيرة لاختبار استراتيجياتها وسياساتها التي أعدتها بهدف تجاوز الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.

فعلى ضوء ما وعدت به الحكومة الحالية وما قدمته في برنامجها وبيانها الحكومي، فإن حوالي عام ونصف على تنصيب عزيز أخنوش على رأسها (7 أكتوبر 2021)، هو زمن كافٍ لإجراء تقييم لإنجازاتها. إلا أن المؤشرات هنا توضح مدى ضعف الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه الحكومة، في خضم ما يعانيه العالم اليوم من تضخم قوي ناتج عن تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، وعن ذيول ومخلفات الأزمة الاقتصادية المترتبة عن وباء كورونا في 2020.

بيان الكونفدرالية الديمقراطية للشغل حمَّل حكومة أخنوش "كامل المسؤولية عما قد يترتب عن الوضع الاجتماعي المأزوم من ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي"، أمام تجاهل آثار هذه الأزمة الاجتماعية الخانقة. وأكد على ضرورة اتخاذ مبادرات وإجراءات جريئة وهيكلية لإيقاف ضرب وتدمير القدرة الشرائية لأغلبية المواطنات والمواطنين، و"محاربة كل أشكال الفساد والريع والمضاربات بدل مواصلة الانحياز للرأسمال الريعي والاحتكاري، وخنق الحريات". كما طالب بتنفيذ كافة الالتزامات الاجتماعية، وعدم المساس بمكتسبات التقاعد.

لكن الحكومة تبدو وكأنها غير آبهة بما يجري ويحدث أمام أنظارها من تفاعل وصراعات، وقد تآلفت أسماعها مع مثل هذه اللغة الاحتجاجية الموغلة في السلبية  والتشاؤم.

إلا أن نقابي من قطاع التعليم من مدينة طنجة، أبى إلا أن يذكرنا بالتاريخ القريب جدا، ففي الصيف الماضي فقط (يوليوز 2022) انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو ظهر في رئيس الحكومة عزيز أخنوش مصحوبا بوزير الشباب والثقافة والتواصل، المهدي بنسعيد، ووزيرة السياحة والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، فاطمة الزهراء عمور، وهم في مهرجان موسيقي. فجأة تعالت أصوات تردد: (أخنوش.. ارحل.. ارحل). إثرها شوهد رئيس الحكومة وهو يغادر المكان مسرعا ويركب سيارة.

ليلتها كانت ساكنة مناطق الشمال في المغرب تعاني من ويلات حرائق مهولة، ضمن سلسلة حرائق شملت الجنوب الأوروبي، فرنسا واليونان واسبانيا والبرتغال. وفي الوقت الذي هرع فيه رؤساء ومسؤولو حكومات تلك الدول باتجاه مناطق الكوارث ببلدانهم  للتضامن مع ضحايا الفجيعة الإنسانية، أدار رئيس الحكومة المغربية ظهره للآلاف من المغاربة الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مشردين وسط الغابات المحترقة، وقد دمرت قراهم وحقولهم، إذ فضل رئيس الحكومة المغربية النزول جنوبا لافتتاح مهرجان موسيقي راقص، في المدينة التي يشغل فيها مهمة عمدة، ولم يدر بخلده أنه سيواجه بمثل تلك المعاملة من جمهور مشتعل بالغضب، لم يتردد في تأسيس زلزال تحت المنصة التي وقف عليها المسؤول الحكومي الأول.

وللإشارة فقد اشتهرت هذه المدينة الجنوبية الساحلية بالزلزال الذي ضربها بتاريخ 29 فبراير 1960 وخلف أزيد من 15 ألف قتيلا، ومن تاريخها كلما وقعت هزة أرضية عنيفة على سطح الأرض، مثلما وقع أخيرا في تركيا وسوريا، تذكر العالم مدينة أغادير وزلزالها العنيف.

لم يعد أخنوش يأبه بشعارات المطالبة برحيله، منذ تصدر وسم "أخنوش ارحل" مواقع الفيسبوك والتويتر في المغرب، على خلفية ارتفاع أسعار الوقود. حيث يعد الرجل المحتكر رقم واحد للمحروقات في البلاد. ويتهمه الرأي العام في المغرب بكونه وراء ارتفاع أسعار المحروقات رغم هبوطها في الأسواق العالمية، باعتباره رئيسا للوزراء ثم بصفته صاحب أكبر شركة لبيع وتوزيع الوقود في المغرب (افريقيا غاز)، وطبعا هو دائما أكبر المستفيدين من ارتفاع الأسعار.

لقد تحول الشعار الذي خاض به حزب أخنوش الانتخابات الأخيرة إلى مسخرة لدى الناس، يهزؤون به كما يثير حفيظتهم، والشعار الموجه للناخبين والمواطنين عموما أثناء الحملة الانتخابية البلدية والبرلمانية صيف 2021، هو "تتساهل أحسن"، وترجمته الفصيحة: "أنت تستحق الأفضل". وكان رئيس حزب الأحرار عند كشفه للمرة الأولى لـ"شعار المرحلة" كما أسماه، قال في تجمع انتخابي بالدار البيضاء: (إن المغاربة "يستاهلو" حكومة قادرة أن تكون في المستوى الّلي بغا صاحب الجلالة).

ولما حصل حزب عزيز أخنوش (التجمع الوطني للأحرار) على المرتبة الأولى في انتخابات 8 سبتمبر 2021، وتم تعيينه رئيسًا للوزراء من قبل الملك محمد السادس، أكد أخنوش أنه سيلتزم بالرعاية الاجتماعية ودعم الأسر الأكثر ضعفا وتعزيز الصحة العامة والتعليم، والنهوض بالاقتصاد الوطني المتضرر من الوباء. ثم  أعلن مباشرة عن خطة طارئة لدعم السياحة، باعتبارها القطاع الرئيسي في الاقتصاد المغربي. ووافقت حكومته على برنامج حمل اسم "أوراش"، يهدف إلى خلق 250 ألف فرصة عمل بين عامي 2022 و2023. كما تكلم عن تقنين الإنفاق العام وتعزيز مشاريع البحث العلمي. والاتجاه نحو تقليص الفوارق الاجتماعية بين المغاربة.

وما يراه المواطنون اليوم هو تراجع واضح عن الوعود التي تضمن تحقيق "المغرب الديمقراطي الجديد"، كما جاء على لسان أخنوش دائما.

من بين تلك الوعود التي تعهدت بها الحكومة وظلت مجرد وعود: - "إخراج مليون أسرة من الفقر وانعدام الأمن"، ومكافحة البطالة عن طريق "خلق مليون فرصة عمل"، وتوفير ضمانات الرعاية الاجتماعية، ومنها "دخل الكرامة" الذي يصل إلى 400 درهم (حوالي 34 دولار أمريكي)، لمساعدة كبار السن، و300 درهم (حوالي 25 دولار أمريكي) لدعم الأسر الفقيرة ومساعدتها على تعليم أطفالها، والتزام مدى الحياة لدعم ذوي الاحتياجات الخاصة. ناهيك عما قيل عن إحداث ثورة في قطاع التعليم، "ثورة تجعل المغرب ضمن أفضل 60 دولة في العالم من حيث جودة التعليم".

ولم يرِد أي كلام هام في بيان حكومة أخنوش يخص محاربة الفساد، غير أن آخر ما حصل في هذا المجال هو  فضيحة "بيع تذاكر المونديال"، وقد تورط فيها رجال أعمال ونواب برلمانيين من الأحزاب المتحالفة ضمن الحكومة الحالية، وحتى اليوم لا زال الرأي العام في انتظار نتيجة التحقيقات التي قامت بها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالدار البيضاء في هذا الشأن. وقد سبقت هذه الفضيحة قضية امتحانات ولوج سلك المحاماة.

وآخر وليس الأخير بهذا الصدد، فضيحة استيراد الأبقار من البرازيل، وما رافقها من شبهات تسريب قبلي لعزم الحكومة إلغاء الرسوم على استيراد الأبقار المعدة للذبح، وكانت المفاجأة أن مستوردين "محظوظين" بعلاقاتهم مع جهاتٍ حكومية، استطاعوا أن يستوردوا من هذا البلد اللاتيني  قطعانا من العجول والأبقار المعفية من رسوم الاستيراد، بعد فترة زمنية قصيرة تناهز أسبوعين فقط، مباشرةً بعد تاريخ اتخاذ قرارالإعفاء في المجلس الحكومي. ما يعزز بقوة الشكوك والشبهاتحول وقوع عملية تسريب المعلومة المذكورة قبل اتخاذ القرار رسميا من طرف الحكومة"، وقد طرحت المسألة في مجلس النواب.

هكذا، مهما بلغت حاجة الناس لمشاعر النصر والابتهاج، لم تستطع كرة القدم والإنجاز الكبير للمنتخب المغربي في مونديال قطر، تبديد الاضطرابات الاجتماعية، والخوف كل الخوف من أي استقرار أو سلام اجتماعي هش، ومن ضعف المعارضة، فلا شيء مضمون لاستبعاد تطور مسار الأحداث وانجرافها نحو انفجار كبير!

================================================================

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).