عبد الرحيم التوراني
رغم مرور أزيد من نصف قرن على ذلك اليوم البعيد، الذي اختفى فيه إلى الأبد زعيم المعارضة المغربي المهدي بن بركة، لم تتوقف مطاردة روحه وفكره، ولم تنته ملاحقته من قبل الجهات المسؤولة عن مصيره المأساوي، ملاحقة أخطر مما حصل معه وهو ينعم بالحياة. والهدف ليس دفن ملف القضية فقط، بل تشويه سيرته والإساءة إلى ذاكرته وأمجاده، وبالتالي إخراس الأصوات التي لا تزال تصر على المطالبة بالكشف عن حقيقة لغز هذا الاختطاف الذي يعد من أكبر ألغاز اغتيالات القرن العشرين.
هذا ما يمكن استشفافه من مزاعم اتهمته بالتجسس وبأن بن بركة ليس بطلا أمميا ضد الإمبريالية صارع من أجل توحيد الحركات الثورية في العالم الثالث.
المُروِّج المتجول للثورة
فعشية نهاية السنة المنصرمة، استعيدت صفحة تم الاعتقاد بأنها طويت قبل عقد ونصف، إذ حدث تكرار لأزمة الإساءة لـ بن بركة، الذي ظلت تحركاته تحت مراقبة أكبر الشبكات الاستخباراتية العالمية، من "السي أي إيه" الأمريكية، والموساد الإسرائيلي، والـ"سيديك" الفرنسية، وصولا إلى جهاز "الكاب وان" في الرباط. التي سعت للتخلص من شخصيته المزعجة، بعد أن تحول إلى قائد أممي يرأس أكبر تكتل ضد الهيمنة الإمبريالية والاستعمارية (رئيس مؤتمر القارات الثلاث). وسبب تنحيته "يكمن في هذا الزخم الثوري لـ"التريكونتيننتال"، كما ذكر المؤرخ الفرنسي روني غاليسو.
ورغم السنوات والعقود، وطول الانتظار للكشف عن الحقيقة الكاملة لعملية اختطافه من وسط باريس في يوم الجمعة 29 أكتوبر 1965، لم يلتفت لمطالب العائلة ومعها القوى الديمقراطية والحقوقية عبر العالم، ولم تتم الاستجابة للإفراج عن وثائق القضية لدى فرنسا وأميركا. وسبق لـ"السي إيه أي" أن أقرت بامتلاكها لـ 1800 وثيقة تخص بن بركة، وعددها أكبر من الوثائق التي لديها حول رفيقه الثائر تشي غيفارا. إلا أن الانتظار تمخض عن "سبق صحفي" يزعم أن قائد اليسار المغربي في الستينيات لا يستحق الوصف الذي أطلقه عليه المؤرخ الفرنسي جان لاكوتور، حينما نعته بـ"الدينامو" و"المُروِّج المتجول للثورة"، ولم يكن ذاك "المفكر صاحب الشخصية الجذابة والمنظم السياسي" فقط، فلربما كان أيضا جاسوسًا وعميلا صغيرا لاستخبارات دولة صغيرة تابعة للاتحاد السوفييتي.
"سبْقٌ" تصدر العديد من المواقع والصحف، وتلقته المجالس من غير تدقيق لمدى صدقيته وتحليل لخلفياته، خاصة أن الأمر يتصل بحقبة هامة من التاريخ السياسي للمغرب والعالم. إلا أن "الخبر" سرعان ما أعيد إلى أصحابه كقذيفة كروية ارتدت بعكس المجرى. إذ اصطفت القوى الديمقراطية والحقوقية، ممثلة بأطياف سياسية وثقافية عديدة في المغرب وخارجه، على رفض الإساءة إلى "عريس الشهداء"، والعبث بذاكرته الحية، باعتباره "رمزا لمقاومة الاستعمار والكفاح ضد الاستعمار الجديد والصهيونية والإمبريالية".
من أجل حفنة دولارات
الملف يطرح "عمالة المهدي بن بركة للمخابرات التشيكوسلوفاكية" أثناء الحرب الباردة. ولم يكن صعبا التذكر بأن المنشور ليس جديدا، بل هو تسخين لأكلة بائتة، جلبت من مطبخ 2006 حيث أعد أول مرة ونشر بـ "الإكسبريس" الأسبوعية الفرنسية. وتبنته نقلا عنها منابر أخرى، منها مجلة "جون أفريك" لصاحبها التونسي - الفرنسي بشير بنيحمد، الذي زاد من نسخ كمية ذلك العدد الموجه إلى الأكشاك المغربية، بعد أن خصص له غلافا مثيرا بصورة بن بركة.
ليس خفيا أن من روجوا لهذه الإساءة وأطلقوها في البداية، لم يجنوا منها ما انتظروه. لتصل جهة ثانية (في حالة لم تكن نفس الجهة الأولى) لتقديم تلك "الأكلة" السيئة الطهي، في توقيت وظرفية مختلفة عما سبقها قبل 15 سنة. وبدل وضعها على مائدة من باريس، التي شهدت آخر ظهور لبن بركة ماشيا على قدميه في منتصف نهار خريفي دافئ ومشمس أمام مطعم "براسري ليب"، ستقدم فوق مائدة بعاصمة الضباب، بواسطة صحيفة "الغارديان" البريطانية، التي عمدت إلى نشر تقرير خاص في ملحقها الأسبوعي "الأوبزرفر"، جاء فيه أن "المهدي بن بركة كان جاسوسا"، عمل لفائدة الأجهزة السرية التشيكوسلوفاكية، "من أجل حفنة دولارات"، كما عنوان أحد أفلام رعاة البقر الإيطالية (وسترن سباغيتي)، الذي عرض سنة 1964، عاما قبل واقعة اختطاف بن بركة.
بن بركة مهرب مخدرات!
ما تضمنه تقرير "الإكسبريس" سنة 2006 من "سكوب" لا يختلف عن مضمون المعطيات التي أعيد نشرها في "الغارديان" يوم 26 ديسمبر 2021، بل إنه نسخة طبق الأصل من دون إضافة. والاختلاف الوحيد هو في اللغة، إذ تمت ترجمته من لغة المارشال فيليب بيتان إلى لغة المرأة الحديدية مارغريت تاتشر. ولا حقيقة معززة بالبرهان الساطع والحجة الموثقة الدامغة، لم يكن صعبا على المخلصين لذاكرة بنبركة دحض وتفنيد اتهامات "الوثائق السرية" المزعومة. بما أنها معطيات متناقضة إجمالا وتفصيلا مع شخصية صاحب "الاختيار الثوري" ومع تاريخه، وفق ما تناقله عنه أصدقاؤه ورفاقه وعدد كبير من الشخصيات العالمية التي عايشته وأتت على ذكره في شهاداتها، بصفته مناضلا ومثقفا موسوعيا حاد الذكاء، كافح بإيمان منذ يفاعته وعلى امتداد سنوات عمره القصير (45 سنة) من أجل سيادة الحرية والديمقراطية والعدالة في بلده وفي العالم الثالث.
لكنها ليست الأولى في تجريب تشويه سيرة بن بركة. فقد اتهم بعيد استقلال المغرب، بتسيير عصابة لتصفية عدد من رجالات المقاومة ضد المستعمر الفرنسي، أبرزهم المقاوم عباس المسعدي. وتزعم الاتهام الدكتور عبد الكريم الخطيب راعي تنظيمات الإسلاميين في المغرب (حزب العدالة والتنمية)، من ضمنهم وفتح لهم مجال العمل ضمن إطار الشرعية.
وفي 2009 لم يتردد حميد شباط الأمين العام للاتحاد العام للشغالين (مركزية نقابية تابعة لحزب الاستقلال) ليتهم بن بركة بكونه وراء اغتيال عدد من المقاومين بين سنتي 1955 و1959، وذهب شباط أبعد من ذلك، ووصفه بـ"القاتل"، محملا إياه مسؤولية مجزرة ذهب ضحيتها مئات القتلى في مدينة سوق الأربعاء (شمال الرباط) في 1958. إلا أن "هيئة الإنصاف والمصالحة" أكدت على أن الحقائق التي توصلت إليها لا تشير من قريب ولا من بعيد لتورط أو مشاركة بن بركة في أي عمل من هذا القبيل.
وكان أحد شيوخ الحركة الإسلامية (عبد الباري الزمزمي) قد أفتى في مقال نشره بجريدة "التجديد" الناطقة باسم حزب العدالة والتنمية، بعدم أحقية المهدي بن بركة بصفة "الشهيد".
بل إن بن بركة تعرض للأذى حتى من بعض رفاقه الحزبيين، فبعد يوم من تأكيد خبر اختطافه في 29 أكتوبر 1965 في فرنسا، سارعت جماعة من خصومه في الذراع النقابي لحزبه بزعامة المحجوب بن الصديق أحد قادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إلى التملص من التضامن مع الضحية، قائلين: "من يدرينا ماذا كان يفعل بن بركة في جولاته بالخارج؟! لعله ذهب ضحية تصفيات عصابات المخدرات (!!!)".
ولم تتوقف أجهزة الجنرال محمد أوفقير، المتورط في جريمة الاختطاف والاغتيال، في فبركة الأكاذيب المضللة وبثها عبر أجهزة الإعلام الرسمي.
وكان الحسن الثاني إثر عملية الاختطاف، أدلى بتصريحات ضد بن بركة المتهم بالخيانة العظمى والمحكوم غيابيا بالإعدام، ورفض تسليم الجنرال أوفقير للقضاء الفرنسي، كما أمر التلفزيون بعدم بث أي لقطة يظهر فيها بن بركة، خصوصا وأن الأرشيف المصور يتضمن أفلاما يظهر فيها بجانب الملك محمد الخامس ومع الحسن الثاني نفسه. إلا أن الملك في آخر حياته ألقى بعض عبارات الإطراء لصالح بن بركة، وردت في كتاب "ذاكرة ملك" (1993)، ثم أمر بإطلاق اسم المهدي بن بركة على أكبر شوارع الرباط، بحضور زعماء أحزاب اليسار، يتقدمهم وزير الداخلية إدريس البصري.
صداقة الضحية والجلاد
في 2019، تحدث الصحفي حميد برادة عن صلات "صداقة غير عادية" جمعت بن بركة بالجنرال أوفقير. وأعاد نشر نفس الكلام بأسبوعية "تيل كيل" الصادرة بالدار البيضاء، في مقال نعته نجل المهدي بن بركة بـ"المقال الملغوم". وللإشارة فإن الصحفي حميد برادة كان اتحاديا في الستينيات، ومن المحكومين بالإعدام غيابيا. وأن والده عبد القادر برادة ، من حزب الشورى والاستقلال، اختطف وجرت تصفيته رفقة صهره في بداية الاستقلال، في عملية تنسب لرجال بن بركة. وقد استفاد حميد برادة من العفو الملكي في الثمانينيات، وصار من المقربين من القصر في العهد الجديد.
وبالاطلاع على بطاقات تعريف مطلقي الاتهامات ضد شخصية بن بركة، ومعرفة سيرهم ومآلاتهم، ندرك خلفيات الإصرار على اغتيال الرصيد الرمزي لزعيم اليسار التاريخي في المغرب (اليسار الذي يستحق اليوم وصفه بـ"التاريخي" بعد انتكاسته). ونعرف، كما يقول مثقف طنجاوي: "إنهم لا يتورعون عن تزوير التاريخ والتدثر بلباس الوطنية الزائفة". ومن هؤلاء الوزير السابق المحجوبي أحرضان، أمين عام حزب مخزني (توفي عام 2020)، وكان أورد في مذكراته أن "بن بركة بالنسبة إليه خائن وقاتل، ومجرد طامع في السلطة، وصفته الوحيدة التي التصقت به هي المكر، وهو من المتآمرين على الملكية".
لكن الملك محمد السادس في الرسالة الملكية التي بعثها إلى المحتفلين في الرباط بالذكرى الخمسين لاختفاء بن بركة (2015) أثنى عليه كرجل وطني، وأكد أن "بنبركة قد دخل التاريخ.. التاريخ الذي يمثل ذاكرة شعب بأكمله". ما زرع التفاؤل وقتها لدى عائلة بن بركة ورفاقه باقتراب حل الملف. لكن لا شيء حصل سوى التضليل والتلفيق والاعتداء على ذاكرة بن بركة، و"لا جديد تحت شمس الافتراء"، كما صرح البشير بن بركة الابن بعد نشر ملف "الغارديان".
في الحاجة لشجاعة أنجيلا ميركل
كل هذا وغيره يفضي إلى التساؤل حول مغزى هذه الهجومات، خصوصا عندما نجد زعيم ثورة الريف محمد عبد الكريم الخطابي لم ينج هو الآخر من الإساءة والتشويه. فقد اتهم الخطابي بالعمالة لاسبانيا قبل انقلابه عليها، وبسرقة أموال المجاهدين، وأنه وظف هو الآخر الغازات السامة في الحرب. إلى نهاية التهم المنتقاة من قاموس القتل المعنوي.
هي لعبة مفضوحة لخلط الأوراق، ولتضليل الرأي العام الوطني والدولي، لن تثني أصحاب الحق في مطلبهم من أجل استجلاء الحقيقة كاملة في قضية اختطاف بن بركة.
حرب شرسة تخاض ضد الذاكرة، وأصحابها ينطلقون من أن السيطرة على المستقبل تقتضي السيطرة على الماضي، وأن السيطرة على الحاضر تبنى على السيطرة على التاريخ، وما دام التاريخ ليس في صالحهم فلا ضير من تزويره وإعادة كتابته و"تصحيحه". ألم يزعم رئيس وزراء إسرائيل السابق بنيامين نتنياهو أن فكرة الهولوكست هي نصيحة من الفلسطيني الحاج أمين الحسيني قدمها لهتلر، إلا أن المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ماركيل كذبت زعيم "الليكود"، محملة مسؤولية ما حدث إلى الألمان ولهتلر "الذي لم يكن بحاجة إلى نصيحة أحد".
***
كان الطعم الذي استدرج به المهدي بنبركة هو استشارته في صنع فيلم سينمائي حول قضية العالم الثالث، بعنوان "باسطا!" (كفى!). ويبدو أنهم في كل مرة يلجؤون إلى تعديل السيناريو وتنقيحه، وآخر ما تفتق عنه خيال السيناريست هو تحويل البطل الإيجابي في نهاية الفيلم إلى "جاسوس" ماكر، أليست هي هكذا أفلام الجريمة والغموض المليئة بالإثارة والتشويق؟
- هل نردد كفى !... أم نستسلم ونستمتع، ونصمت على ترك جثة الضحية بلا قبر في عراء الإفلات من العقاب؟؟
-------------------------------
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).