"الفهم الشعبي للدين" يتحول إلى ابتداع دين جديد مختلف | صورة تعبيرية من احتفال ديني في تركيا
"الفهم الشعبي للدين" يتحول إلى ابتداع دين جديد مختلف | صورة تعبيرية من احتفال ديني في تركيا

عبد الرحيم التوراني

على هامش كأس أمم أفريقيا لكرة القدم المنظمة حاليا بالكاميرون، وتعثر منتخب الجزائر بطل النسخة الأخيرة، بخروجه من الدور الأول، انتشرت بين الجمهور الجزائري خرافات تزعم أن سبب الخسارة هو السحر، وأن الواجب يتطلب إبطال السحر بسحر مضاد يتولاه فقهاء ورقاة شرعيون. وقد سارع اتحاد الكرة الجزائري إلى نفي الأخبار التي نسبت إليه تجنيده لفقيه جزائري بهذا الشأن. خصوصا وأن هناك اعتقاد باستعانة بعض المنتخبات الأفريقية بـ"الغريغري"، أي السحر الأفريقي.

هو أمر يلفت إلى ظاهرة سيطرة الخرافة والدجل على عقول عديدة من الناس. ولا ريب أن المجتمعات العربية لا تزال تعيش في مستنقع الخرافة وتؤمن بالسحر والشعوذة، وببركات الأولياء الصالحين، أو بنبوة يزعمها أشخاص غير متزنين عقليا، أو محتالون يستغلون سذاجة البسطاء ممن ليس لديهم وعي ديني وتعليمي كافٍ.

في المغرب، وتحت أنظار السلطات، وبترخيص منها أحيانا، تنتشر دكاكين عرافين وعرافات (الشوَّافة) وقد تكاثرت في العقود الأخيرة بشكل متزايد. ولم يعد زبائنها من الأميين والنساء فقط، بعد تساوي الرجال والمتعلمين معهن في طلب خدمة قراءة الطالع. كما ارتفع الإقبال على من يسمون بـ"الرقاة الشرعيين"، من يوهمون الناس بقدرتهم على علاج الأمراض المستعصية بتلاوة القرآن. بل هناك من نجح في إقناع بسطاء بأداء مناسك الحج بدلا عنهم، بمبلغ أقل من مصاريف السفر إلى الأماكن المقدسة البعيدة بآلاف الكيلومترات، حيث يروِّج المحتالون لـ"حج المسكين"، وهو زيارة ضريح على مشارف مدينة أسفي (جنوب الرباط)، يسمى ضريح الولي الصالح "سيدي شاشكال". ففي الفترة المتزامنة مع موسم الحج يقوم "حجاج " سيدي امحمد سرحال " (اسمه الأصلي)، بالطواف حفاة حول ضريحه كمن يطوف حول الكعبة، مرددين لفظ التلبية، ولا ينقصهم سوى لباس الإحرام وتقبيل الحجر الأسود ورمي الجمرات. غير أنهم يعوضون ماء "زمزم" ببئر قريبة يشربون ويتوضؤون من مائها، وقد أطلقوا عليها اسم "بئر زمزم". أما صعود جبل عرفة فقد تم تعويضه هو الآخر بربوة "للا نوارة"، وسمّوها "جبل الرحمة"، لتمثل الركن الأهم في الحج، أي "الوقوف بعرفة".

وإذا كان ضريح الولي "سيدي سرحال" قد حظي بهذا "التقديس"، فإن آخرين وجدوا أن ضريح الولى إدريس الأول بزرهون (مؤسس دولة الأدارسة قبل 12 قرنا)، بضواحي مدينة فاس، هو الأولى، باعتباره من أحفاد الرسول العربي. لذلك يطلق عليه أيضا وصف "حج المسكين"، حيث يحول موسم زيارته سنويا إلى مناسبة دينية كبرى لعدد من مريدي الصوفية بالمغرب وأفريقيا.

وقد أوجد بعض مسلمي آسيا الوسطى مكة لهم بكازاخستان، كما أوجد مسلمو أفريقيا مكة أخرى لهم بالسينغال.

في مطلع هذه السنة 2022 ظهر في لبنان رجل يدعي النبوة، وزعم أن بمقدوره علاج وباء كورونا، ويا ليت كانت بيده معجزة إنقاذ بلد الأرز من الانهيار الشامل الذي يغرق فيه منذ أعوام، بعد إنهاكه المتواصل منذ عقود على يد أمراء الحرب الأهلية، وساسة المحاصصة الطائفية والتعصب المذهبي. وقد طرق الفقر والجوع أبواب غالبية اللبنانيين بعد السقوط المدوي لعملتهم الوطنية مقابل الارتفاع الصاروخي للدولار الأميركي، واحتجاز البنوك لودائع الزبائن.

النبي اللبناني الجديد يسمي نفسه "نشأت الحكيم منذر مجد النور"، تم تقديمه على مواقع التواصل كنبي "مرسل من السماء لمساعدة البشر". ولم يكن راعي غنم كأنبياء الأزمنة الغابرة، بل كان طبالا بفرقة فلكلورية بأحد الكازينوهات، كما يظهر في صورة له. ولأن لكل نبي معجزة، فمعجزة "النبي الطبال" هي إشفاء مرضى السرطان، خاصة وأنه في خضم الأزمة العامة التي تهز البلد، اختفت الأدوية المعالجة لهذا الداء وغيره من أدوية الأمراض المزمنة من صيدليات لبنان.

لن نطيل الكلام حول النبي اللبناني، الذي يريد أن ينسي العالم في "النبي المصطفى"، الذي تحدث عنه جبران خليل جبران في كتابه "النبي" (1923)، وكتب على لسانه خلاصة آرائه وأفكاره حول العلاقات الإنسانية، كالزواج والأبناء والصداقة والحرية والموت. وللإشارة فإن كتاب "النبي" لجبران هو الكتاب الأكثر ترجمة إلى مختلف اللغات من بين كل الكتب العربية، ولا يزال بعد قرن هو الكتاب الأكثر تداولا بين ملايين القراء في العالم.

تلك قصة أخرى تختلف، لكنها تطرح علينا سؤال أيننا من جبران خليل جبران، ومن تأملاته الفلسفية، وفصاحته الشاعرية، ومن سلاسة كتاباته الإبداعية، أمام رقصة "نشأت الطبال"، الذي يزوق نهاية صلعته بوشم مبهم، ويمسك بيمناه ما يشبه الصولجان وعلى كتفيه عباءة فضفاضة، نشأت الذي لم يتجنب الوقوع بشجار صاخب مع الساخرين منه في الشبكة العنكبوتية، حتى أنه تنبأ لهم بالويل والثبور وبعظائم الأمور.

كان ظهور النبي اللبناني الجديد، مناسبة للتذكير بمن سبقوا من أمثاله من مدعي النبوة عبر مختلف العصور، ممن جاؤوا بدين وقرآن جديد وشرائع غريبة، خاصة بعد وفاة نبي الإسلام، الذي يعده المسلمون "آخر وخاتم الأنبياء" على الإطلاق. وقد ساد الاعتقاد في العصر الحديث بأن باب النبوة بات موصدا أمام تطور العقل البشري، وإزاء حقائق العلم ومنجزاته الهائلة بالاكتشافات والاختراعات المتسارعة في مختلف المجالات. إلا أن توافد الأنبياء الجدد لم ينقطع. إذ بين فترة وأخرى يظهر شخص أو أكثر ممن يدعون النبوة، والمثير أن أغلبية هؤلاء ينتمون إلى منطقة الشرق الأوسط، "مهبط الرسل والأنبياء" وأصحاب الرسالات السماوية، أو تجدهم يتحدرون من منطقة شمال أفريقيا. وقد تساءل مرة روائي عربي من العراق عن السر الإلهي في عدم إرسال الخالق رسلا وأنبياء لبقية العالم، مثل الأميركيتين الشمالية واللاتينية، أو أستراليا.

وبالحديث عن العقود الأخيرة، فقد تعددت أسماء من زعموا النبوة، في مصر والعراق والسعودية واليمن والسودان وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. ومع انتشار الانترنت أصبحت أخبار هؤلاء "الأنبياء" تصل سريعا قبل أن يتم قمعهم وإيداعهم السجون، أو حبسهم بمصحات الأمراض العقلية والنفسية.

لكن ظهور "النبي نشأت" أعاد إلى أذهان الرأي العام واقعة ادعاء أحد المغاربة للنبوة قبل ثلاثة أعوام. وهو سعيد بن جبلي (43 سنة)، الذي كان ينتمي في السابق لجماعة "العدل والإحسان" الإسلامية (شبه محظورة)، قبل أن يكون ضمن النواة التي دعت إلى الانخراط في "ثورات الربيع العربي" بتنظيم "حركة 20 فبراير" سنة 2011. وبعد تأسيسه لجمعية المدونين المغاربة وأخرى للمدونين العرب استدعي بن جبلي إلى الولايات المتحدة الأميركية وهناك أعلن إلحاده، وعند بلوغه سن الأربعين أطلق من بوسطن "رسالته النبوية" باسم "سيدنا خضر، والنبي بن داويد"، النبي الذي خرج على الناس في الشارع صارخا "أنا المسيح المخلص والمهدي المنتظر والوحي يأتيني لإنقاذ العالم"، لكن الشرطة الأميركية أوقفته ونقلته إلى مصحة لعلاجه من الضغوط النفسية والصدمات الفكرية التي أصابته. ثم غاب بعدها واختفى ذكره زمنا. إلا أن من "معجزات" النبي نشأت إعادة "النبي بن داويد" إلى الواجهة من جديد، حيث عاد سعيد بن جبلي ليذكر الناس بأنه لا يزال على قيد النبوة، بل إن "نشأت اللبناني" أوحى للنبي المغربي "الميركياني" بفكرة "كيفية دمقرطة وتأطير قطاع النبوة". وبعدما كان يطمح إلى دمقرطة المجتمع المغربي عبر "حركة 20 فبراير"، ها هو اليوم يسعى إلى تطوير "قطاع النبوة"، بعزمه "تأسيس مدرسة للاهوت والنبوات، وأمانة عامة للأنبياء والنبيات، من أجل العمل الجماعي لما فيه مصلحة البشرية"، ويخطط لإرشاد الأنبياء إلى "ضوابط النبوة الصادقة الصحية ومبادئها وأسسها"، بتأليف دليل خاص لمن يرغب في أن يكون نبيا.

مما كتبه بن جبلي في آخر تدويناته قبل يومين، أن الزمن الحالي يحتاج لأكثر من نبي. وطلب من الراغبين في النبوة التواصل معهم عبر الخاص.

يفتخر بن جبلي بمساهمته "بشكل كبير في إعادة فتح باب النبوة ودمقرطتها، حيث أننا "قريبا سنرى نبيا لكل دولة وربما نبيا لكل مدينة. ولن تعود النبوة محصورة على الأموات الذين أكل الدود لحومهم وحللت الأرض عظامهم بعدما شبعوا موتا ورقادا في قبورهم. كما أن التنافس بين هؤلاء الأنبياء هو أمر محمود لأنه سيميز من هو أفضل الأنبياء منهاجا وأكثرهم إلهاما وهو من سيتبوأ القمة. أما الآخرون فتخمد دعوتهم".

ربما سنشاهد مستقبلا تنظيم دوريات إقصائية تشبه منافسات مونديال الكرة، يتبارى فيها "الأنبياء"، والفائز من منهم ربما يفوز بكأس أو بردة "نبي الأنبياء".

لذلك نجد بن جبلي أطلق على نفسه اليوم لقب "مؤسس الجيل الجديد من النبوات"، ويضيف بنبرة قد تتقاطع مع نبي جبران: "إن النبوة في عصرنا يجب أن تستند على التنوير والفكر المتحرر وتبتعد عن الخرافات وادعاء علاقة مع السماء التي لا توجد. إن أكبر معجزة يمكن للأنبياء تقديمها هي تنوير الناس وتحريرهم من شرور أنفسهم، مثل الضعف والخوف والمعاناة التي يعانونها فالنبوة في عصرنا يجب أن تدور حول الازدهار والسعادة في الحياة وليس حول ما بعد الموت. كما أنه يجب على النبي أن لا يكون جامدا على التقليد مستنسخا لنبوة محمد أو غيره. بل عليه يكون ديناميا حتى يطور دعوته ويرقى بمنهاجه إلى الأفضل مع مرور الزمن".

جدير بالذكر أن السلطات المغربية، في إطار مكافحتها للتطرف الديني، تشجع بجهد ملحوظ على العناية بالأضرحة والزوايا الصوفية، وتخصص لها ضمن ميزانية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مبالغ مالية كبيرة تقترب من العشرين مليون دولار، ناهيك عن الهبات الملكية غير المعروف قدرها، بغاية ترميم مباني الأضرحة الواصل عددها 5471 ضريحا و1588 زاوية. ومن أجل أداء ما سماه وزير الأوقاف أحمد التوفيق (من مريدي الزاوية البوتشيشية) بـ"ضمان الأمان الروحي للمغاربة بتمسكهم بالقيم الإسلامية والأولياء الصالحين". وجوابا على انتقادات أعضاء من البرلمان لظاهرة "عبادة الأضرحة" واعتبارها منافية للدين الإسلامي، دافع أحمد التوفيق عما سماه بـ "الفهم الشعبي للدين"، قائلا إن محاربته أمر صعب، وإنها "ممارسة موجودة في كل دول العالم".

لكن "الفهم الشعبي للدين" يتحول إلى ابتداع دين جديد مختلف، مثقل بالخرافة وبذهنية الشعوذة المسيطرة على العقول، لذا فهو الأشد خطرا بتأثيره في الناس والمجتمع، خصوصا عندما يضيعون الحدود الفاصلة بين احترام العقل الإنساني ومنجزات العلم وتطوره، ويلجؤون إلى الاستعانة بالخرافة وبتنجيم "الشوافات" وبفتاوى فقهاء مزيفين، أمام اليأس والعجز الناتج عن ضغوط اجتماعية واقتصادية أو أزمات نفسية، وأمام رعب المتحكمين وخوفهم من التغيير. لذلك سيستمر حال هذه المجتمعات على ما هو عليه، وسيتناسل الدجالون والمتلاعبون بعقول البسطاء، ويتكاثر الأنبياء حتى يصبح لكل زقاق نبي، ولكل دين ما لا يعد ولا يحصى من التفسيرات الغامضة والتأويلات المتناقضة، التي تعادي التطور العلمي وتعطل التغيير وتبطل القيم الإنسانية.

-------------------------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

مواضيع ذات صلة

تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء
تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء

عبد الرحيم التوراني

تسود منذ فترة ليست باليسيرة حالة من الاستياء العام ومن تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب، تطفو نبرته الحادة على ألسنة الناس في أحاديثهم اليومية، وتعبيرهم عن شكواهم الصريحة من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء.

في هذا الصدد عرف الأسبوع الأخير الدعوة لمظاهرات احتجاجية، تم تفريقها في عدد من مدن وجهات المغرب. مظاهرات ومسيرات احتجاجية دعت إليها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمختلف الأقاليم، مسنودة بالأساس من تحالف الجبهة الاجتماعية المغربية، وضمنه أحزاب فيدرالية اليسار المغربي، والحزب الاشتراكي الموحد، وحزب النهج الديمقراطي العمالي، إضافة إلى الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وهيئات حقوقية ومدنية أخرى.

في بيان خاص نبهت المركزية النقابية إلى "الارتفاع المهول للأسعار بشكل غير مسبوق، وانهيار القدرة الشرائية للمواطنات والمواطنين، واتساع دائرة الفقر والفوارق الاجتماعية والمجالية في ظل توالي الأزمات وإصرار الحكومة على نفس الاختيارات السائدة منذ عقود".

وبالرغم من كونها ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها المغاربة إلى الاحتجاج بالنزول إلى الشارع، فإن الأمر أصبح يدفع باستمرار إلى طرح سؤال حارق قد يبدو للبعض أن به مبالغة: - هل يسير المغرب في اتجاه انفجار اجتماعي؟

إلا أن السلطات الأمنية عمدت إلى منع هذه المسيرات الشعبية، بدعوى "الحفاظ على الأمن العام". ما أفضى بتحول الاحتجاجات ضد الارتفاع الهائل في أسعار المواد الغذائية، إلى التنديد بالقمع وخنق حرية التعبير، والممارسات التي تتنافى وتتعارض مع نص الدستور.

صادف هذا الحدث إحياء الذكرى 12 لـ لانتفاضة "حركة 20 فبراير" المنبثقة عن ثورات الربيع العربي، وقد تمت استعادة شعاراتها المركزية المتمثلة بالأخص في المطالبة بـ"إسقاط الفساد"، ورفض "زواج المال والسلطة"، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وفي المقدمة سجناء حرية التعبير من صحفيين ومدونين ومدافعين عن حقوق الإنسان.

لا شك أن وسائل الإعلام الرقمي الجديد، وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي، سهلت إتاحة المعلومات المتعلقة بأغنى الأشخاص الذين يهيمنون على ثروات المغرب، وهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، من بينهم رئيس الحكومة الحالية عزيز أخنوش، صاحب محطات "إفريقيا" للمحروقات وأكبر فلاحي المغرب، وزوجته سلوى أخنوش، وذلك فق ما ينشر سنويا في تصنيفات مجلة "فوربيس" الأمريكية المهتمة برصد وإحصاء أرصدة أغنياء العالم.  وبينما ينعم هؤلاء الأغنياء في الرفاه وترف النِّعَم، يعيش ملايين المغاربة في فقر "كاريانات" مدن الصفيح، دون الحد الأدنى من المقومات الأساسية للعيش الكريم. وفي الوقت الذي تتسع فيه فجوة الفوارق الاجتماعية، ويتضاعف فيه معدل الفقر بنسب عالية، تجد حكومة عزيز أخنوش نفسها أمام تحديات كبيرة لاختبار استراتيجياتها وسياساتها التي أعدتها بهدف تجاوز الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.

فعلى ضوء ما وعدت به الحكومة الحالية وما قدمته في برنامجها وبيانها الحكومي، فإن حوالي عام ونصف على تنصيب عزيز أخنوش على رأسها (7 أكتوبر 2021)، هو زمن كافٍ لإجراء تقييم لإنجازاتها. إلا أن المؤشرات هنا توضح مدى ضعف الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه الحكومة، في خضم ما يعانيه العالم اليوم من تضخم قوي ناتج عن تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، وعن ذيول ومخلفات الأزمة الاقتصادية المترتبة عن وباء كورونا في 2020.

بيان الكونفدرالية الديمقراطية للشغل حمَّل حكومة أخنوش "كامل المسؤولية عما قد يترتب عن الوضع الاجتماعي المأزوم من ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي"، أمام تجاهل آثار هذه الأزمة الاجتماعية الخانقة. وأكد على ضرورة اتخاذ مبادرات وإجراءات جريئة وهيكلية لإيقاف ضرب وتدمير القدرة الشرائية لأغلبية المواطنات والمواطنين، و"محاربة كل أشكال الفساد والريع والمضاربات بدل مواصلة الانحياز للرأسمال الريعي والاحتكاري، وخنق الحريات". كما طالب بتنفيذ كافة الالتزامات الاجتماعية، وعدم المساس بمكتسبات التقاعد.

لكن الحكومة تبدو وكأنها غير آبهة بما يجري ويحدث أمام أنظارها من تفاعل وصراعات، وقد تآلفت أسماعها مع مثل هذه اللغة الاحتجاجية الموغلة في السلبية  والتشاؤم.

إلا أن نقابي من قطاع التعليم من مدينة طنجة، أبى إلا أن يذكرنا بالتاريخ القريب جدا، ففي الصيف الماضي فقط (يوليوز 2022) انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو ظهر في رئيس الحكومة عزيز أخنوش مصحوبا بوزير الشباب والثقافة والتواصل، المهدي بنسعيد، ووزيرة السياحة والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، فاطمة الزهراء عمور، وهم في مهرجان موسيقي. فجأة تعالت أصوات تردد: (أخنوش.. ارحل.. ارحل). إثرها شوهد رئيس الحكومة وهو يغادر المكان مسرعا ويركب سيارة.

ليلتها كانت ساكنة مناطق الشمال في المغرب تعاني من ويلات حرائق مهولة، ضمن سلسلة حرائق شملت الجنوب الأوروبي، فرنسا واليونان واسبانيا والبرتغال. وفي الوقت الذي هرع فيه رؤساء ومسؤولو حكومات تلك الدول باتجاه مناطق الكوارث ببلدانهم  للتضامن مع ضحايا الفجيعة الإنسانية، أدار رئيس الحكومة المغربية ظهره للآلاف من المغاربة الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مشردين وسط الغابات المحترقة، وقد دمرت قراهم وحقولهم، إذ فضل رئيس الحكومة المغربية النزول جنوبا لافتتاح مهرجان موسيقي راقص، في المدينة التي يشغل فيها مهمة عمدة، ولم يدر بخلده أنه سيواجه بمثل تلك المعاملة من جمهور مشتعل بالغضب، لم يتردد في تأسيس زلزال تحت المنصة التي وقف عليها المسؤول الحكومي الأول.

وللإشارة فقد اشتهرت هذه المدينة الجنوبية الساحلية بالزلزال الذي ضربها بتاريخ 29 فبراير 1960 وخلف أزيد من 15 ألف قتيلا، ومن تاريخها كلما وقعت هزة أرضية عنيفة على سطح الأرض، مثلما وقع أخيرا في تركيا وسوريا، تذكر العالم مدينة أغادير وزلزالها العنيف.

لم يعد أخنوش يأبه بشعارات المطالبة برحيله، منذ تصدر وسم "أخنوش ارحل" مواقع الفيسبوك والتويتر في المغرب، على خلفية ارتفاع أسعار الوقود. حيث يعد الرجل المحتكر رقم واحد للمحروقات في البلاد. ويتهمه الرأي العام في المغرب بكونه وراء ارتفاع أسعار المحروقات رغم هبوطها في الأسواق العالمية، باعتباره رئيسا للوزراء ثم بصفته صاحب أكبر شركة لبيع وتوزيع الوقود في المغرب (افريقيا غاز)، وطبعا هو دائما أكبر المستفيدين من ارتفاع الأسعار.

لقد تحول الشعار الذي خاض به حزب أخنوش الانتخابات الأخيرة إلى مسخرة لدى الناس، يهزؤون به كما يثير حفيظتهم، والشعار الموجه للناخبين والمواطنين عموما أثناء الحملة الانتخابية البلدية والبرلمانية صيف 2021، هو "تتساهل أحسن"، وترجمته الفصيحة: "أنت تستحق الأفضل". وكان رئيس حزب الأحرار عند كشفه للمرة الأولى لـ"شعار المرحلة" كما أسماه، قال في تجمع انتخابي بالدار البيضاء: (إن المغاربة "يستاهلو" حكومة قادرة أن تكون في المستوى الّلي بغا صاحب الجلالة).

ولما حصل حزب عزيز أخنوش (التجمع الوطني للأحرار) على المرتبة الأولى في انتخابات 8 سبتمبر 2021، وتم تعيينه رئيسًا للوزراء من قبل الملك محمد السادس، أكد أخنوش أنه سيلتزم بالرعاية الاجتماعية ودعم الأسر الأكثر ضعفا وتعزيز الصحة العامة والتعليم، والنهوض بالاقتصاد الوطني المتضرر من الوباء. ثم  أعلن مباشرة عن خطة طارئة لدعم السياحة، باعتبارها القطاع الرئيسي في الاقتصاد المغربي. ووافقت حكومته على برنامج حمل اسم "أوراش"، يهدف إلى خلق 250 ألف فرصة عمل بين عامي 2022 و2023. كما تكلم عن تقنين الإنفاق العام وتعزيز مشاريع البحث العلمي. والاتجاه نحو تقليص الفوارق الاجتماعية بين المغاربة.

وما يراه المواطنون اليوم هو تراجع واضح عن الوعود التي تضمن تحقيق "المغرب الديمقراطي الجديد"، كما جاء على لسان أخنوش دائما.

من بين تلك الوعود التي تعهدت بها الحكومة وظلت مجرد وعود: - "إخراج مليون أسرة من الفقر وانعدام الأمن"، ومكافحة البطالة عن طريق "خلق مليون فرصة عمل"، وتوفير ضمانات الرعاية الاجتماعية، ومنها "دخل الكرامة" الذي يصل إلى 400 درهم (حوالي 34 دولار أمريكي)، لمساعدة كبار السن، و300 درهم (حوالي 25 دولار أمريكي) لدعم الأسر الفقيرة ومساعدتها على تعليم أطفالها، والتزام مدى الحياة لدعم ذوي الاحتياجات الخاصة. ناهيك عما قيل عن إحداث ثورة في قطاع التعليم، "ثورة تجعل المغرب ضمن أفضل 60 دولة في العالم من حيث جودة التعليم".

ولم يرِد أي كلام هام في بيان حكومة أخنوش يخص محاربة الفساد، غير أن آخر ما حصل في هذا المجال هو  فضيحة "بيع تذاكر المونديال"، وقد تورط فيها رجال أعمال ونواب برلمانيين من الأحزاب المتحالفة ضمن الحكومة الحالية، وحتى اليوم لا زال الرأي العام في انتظار نتيجة التحقيقات التي قامت بها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالدار البيضاء في هذا الشأن. وقد سبقت هذه الفضيحة قضية امتحانات ولوج سلك المحاماة.

وآخر وليس الأخير بهذا الصدد، فضيحة استيراد الأبقار من البرازيل، وما رافقها من شبهات تسريب قبلي لعزم الحكومة إلغاء الرسوم على استيراد الأبقار المعدة للذبح، وكانت المفاجأة أن مستوردين "محظوظين" بعلاقاتهم مع جهاتٍ حكومية، استطاعوا أن يستوردوا من هذا البلد اللاتيني  قطعانا من العجول والأبقار المعفية من رسوم الاستيراد، بعد فترة زمنية قصيرة تناهز أسبوعين فقط، مباشرةً بعد تاريخ اتخاذ قرارالإعفاء في المجلس الحكومي. ما يعزز بقوة الشكوك والشبهاتحول وقوع عملية تسريب المعلومة المذكورة قبل اتخاذ القرار رسميا من طرف الحكومة"، وقد طرحت المسألة في مجلس النواب.

هكذا، مهما بلغت حاجة الناس لمشاعر النصر والابتهاج، لم تستطع كرة القدم والإنجاز الكبير للمنتخب المغربي في مونديال قطر، تبديد الاضطرابات الاجتماعية، والخوف كل الخوف من أي استقرار أو سلام اجتماعي هش، ومن ضعف المعارضة، فلا شيء مضمون لاستبعاد تطور مسار الأحداث وانجرافها نحو انفجار كبير!

================================================================

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).