The Imam of the  Zitouna mosque reads a document during the Eid al-Fitr prayer, Thursday, Aug.8, 2013 in Tunis. The prayer is…
The Imam of the Zitouna mosque reads a document during the Eid al-Fitr prayer, Thursday, Aug.8, 2013 in Tunis. The prayer is taking place at the so-called "Departure Sit-in" on the Bardo square, where people demand the resignation of the ruling…

محمد المحمود

 

منذ الفجر الأول للإسلام، وإلى اليوم، قام ـ ويقوم ـ رجالُ الدين في الإسلام بدور محوري في تشكيل أنماط الوعي السائدة على امتداد العالمين: العربي والإسلامي. الوعيُ الجماهيري المُكتسِح لكل النُتُوَءات الطارئة، كان يقوده رجال الدين، ويُسْهِمون إسهاما حاسما في تحديد محتواه المعرفي والنفسي، حتى وإن كانوا ـ في البداية أو في النهاية، أو في كليهما ـ واقعون تحت سيطرة العُرف الثقافي السائد الذي يشتغلون في حدوده، أو هم واقعون سيطرة التوجيهات المؤسساتية المباشرة التي كانت تدرك دورهم في الأرقام الصعبة لمعادلات القوة؛ تبعا لدورهم الكبير في التأثير على الجماهير.

قد يُنْكِر بعض المسلمين (ومنهم رجال دين !)، وجودَ رجال الدين في الإسلام؛ بدعوى تَميّز/ تفرّد الإسلام عن غيره من الأديان بأنه خطاب من الله إلى البشر مباشرة؛ دونما وسيط كهنوتي. أي أن المسلم مرتبط بنص مقدس/ نصوص مقدسة، تربطه مباشرة بالمتعالي/ اللاّبشري، فيما هو ـ حينئذٍ ـ يتساوى مع الآخرين أمام هذه النصوص. 

ادعاء التّميّز/ التفرّد هذا، قد يُصَدِّقه أولئك الذين يرون مجرد الادعاء دليلا قائما بذاته. لكن الإسلام كأي دين، يقوم على الخطاب اللاهوتي فيه رجالٌ مُتَخَصِّصُون أو شبه مُتَخصِّصين. الادعاء شيء، والواقع شيء آخر. 

فالجماهير(ويطلق عليهم رجالُ الدين الإسلامي: العوام، ويقصدون بذلك: غير المختصين بالخبرة الدينية؛ حتى ولو كان غير المختص عالِما في مجال آخر) لا تَأخُذ معرفتَها الدينية الأولية، ولا تصورها الديني العام، ولا الافتاء، ولا الإرشاد؛ من النص المقدس مباشرة، بل عبر وسيط كهنوتي، كانت "وساطته هذه" هي السبب المباشر لإنتاج عشرات الألوف من الكتب في المعرفة الدينية عبر تاريخ الإسلام الطويل.  

إذن، من الواضح أن منكري وجود "رجال الدين" في الإسلام من المسلمين، لا يخرجون من الباب إلا لكي يدخلوا من النافذة، إذ هم يعترفون، بل ويؤكدون على وجود "عُلماء دين" يمتهنون ـ احتكارا ـ تفسيرَ الدين، والإفتاء فيه، والدعوة إليه، والوعظ والإرشاد له، وإقامة الطقوس، بل ويُطالِبون الجماهيرَ بالعودة إليهم، والأخذ عنهم، وأنهم "الأمناء على الدين" و "أهل الذِّكر" و "وَرَثة الأنبياء"...إلخ العبارات التي تؤكد وجود طبقة خاصة تمتهن وتحتكر وظائف خاصة، لا يجوز ـ وفق دعواهم ـ لبقية الناس امتهانها إلا بعد مرحلة طويلة من التأهيل الكهنوتي الخاص. وطبعا، هذا التخصص والاحتكار على المستويين: النظري والعملي، هو منهج ومظهر ودور/ وظيفة رجال الدين في كل دين، ومحاولة استبدال الأسماء المُصْطَلحية الشهيرة بأسماء أخرى للظاهرة نفسها لا يُغَيّر من حقيقة الأمر/ المُسَمَّى شيئا.

نعم، في البدايات الأولى للإسلام، لم تكن طبقة "رجال الدين" قد تميّزت عن بقية الأطياف الفاعلة في المجال الحيوي الذي تشتغل فيه. في البدايات كانت المعرفة الدينية، مُضَافا إليها الاستقامة السلوكية، هي التي تُحَدِّد موقع/ مكانة الإنسان في المجتمع الإسلامي. وليس هذا في المجال الديني الذي لم يكن يَتميّز بصورة واضحة عن المجال الدنيوي فحسب، بل في كل المجالات، إذ رجال السلطة السياسية (= أولو الأمر)، على اختلاف مراتبهم ومواقعهم كانوا هم ـ في الوقت نفسه ـ رجال المعرفة الدينية والاستقامة السلوكية؛ كما يتصورها المجتمع الإسلامي آنذاك، أقصد: في الفترة التي شَكَّلَت العقودَ الثلاثة التي تَلت وفاة رسول/ نبي الإسلام ـ ص ـ.

كان خلفاء الرسول الأربعة، ورجال الشورى، والمقربون من السلطة، والقيّمُون على سلوكيات الناس العامة، هم ـ في الوقت نفسه ـ رجال المهام الدينية، بل وكانت ممارساتهم المدنية تتم من خلال صفتهم الدينية، ليس على سبيل الامتزاج/ التداخل المقصود، بل على سبيل الاتحاد المبني على حقيقة أن الدولة الناشئة/ المجتمع الناشئ إنما قام بالدين، وعلى مبررات الدين، وبالتالي، فالصفة الدينية إذ تُعَبِّرُ عن صفة الدولة، إنما كانت تعبر ـ بشكل آلي ومباشر ـ عن صفة القائمين عليها، افتراضا؛ وِفْقَ الاعتراف المجتمعي العام، و واقعا؛ في حدود ما وقع حتى عام 41 للهجرة.

لكن، ما حدث بعد الانقلاب الأموي عام 41هـ، والذي بدأ قبل ذلك بخمس سنوات ـ بصورة فرعية ـ، هو أن الانفصال التام بين المكانة المعتبرة اجتماعيا لـ"المعرفة الدينية+ الاستقامة السلوكية" وَقع في أعلى هرم السلطة، ثم ـ تبعا لذلك ـ في كل تفاصيلها. فالحاكم الجديد بعد 41هـ لم يكن يحظى بأي تقدير على مستوى المعرفة الدينية أو الاستقامة، بل ولا حتى السبق التاريخي في الإسلام، فيما هو يحاول امتطاء صهوة السلطة العليا في مجتمع يتوفّر على الألوف من ذوي السبق التاريخي، ومن ذوي الخبرة الدينية، ومن ذوي الاستقامة، وكثير من هؤلاء يحظون بالتبجيل الاجتماعي العلني والاعتراف الديني المشهود من رجال الإسلام الأوائل(= مصدر المشروعية)، بما يصبح معه الحاكم الأموي/ معاوية وكأنه طارئ نشاز على المسار الطبيعي المفترض في تصور عموم المسلمين آنذاك. 

في مثل هذه الحال، ماذا يفعل "رجل المعرفة الدينية + الاستقامة السلوكية" وقد أصبح معزولا عن أي دور في المراتب السلطوية للدولة الأموية؟ 

كانت السلطة تصدر ـ بشكل أو بآخر ـ عن رأي رجال الدين فترة الخلفاء الأربعة الأوائل، وفي النهاية، تقف محكمات النصوص حُجَجا لازمة بيد المتحدث بلسان الدين. بينما في الزمن الأموي، أصبح رجال المعرفة الدينية، والمكانة السابقة المُبجّلة اجتماعيا، مُهَمَّشين إلى أقصى درجات التهميش، رغم فتات المال الذي كان يتسرب إلى بعضهم على سبيل التهدئة أو الاسترضاء أو محاولة شراء الذمم بشكل صريح.

هنا، في تلك اللحظة الفارقة، أحس رجل المعرفة الدينية أنه أمام سلطة طارئة؛ ليس هو منها ولا هي منه. وفي الوقت نفسه، كان يشعر ـ وبشكل مباشر ويومي ـ أنه مُبَجَّل اجتماعيا؛ باعتباره خازنَ أسرار الدين، وباعتباره ـ بمسلكه التَّوَرّعي التّعفّفي ـ حارسَ أخلاقيات الاستقامة، تلك الأخلاقيات التي كانت السلطة الأموية تنتهكها باستمرار في وضح النهار. 

هكذا، بدأ يشعر رجل الدين بتميّزه عن السلطات الرسمية، وبتميزه إزاءها. وهو ـ إذ يشعر بذلك ـ ليس معدما من أي سلطة، هو ليس أعزلا تماما؛ مقابل مسلحين بالكامل، فنفوذه الاجتماعي راسخ، بل ويتزايد بالاطراد مع تزايد عسف السلطة واضطهادها لمعظم المكونات الاجتماعية، وخاصة فئة "الموالي" التي لم تكن "أموال شراء الذمم" تمتد إليها ولو بالفتات، كما كان عليه الحال مع رجال العشائر المتنفذين الذين كانوا يمثلون وحدات السلطة الصغرى.

هذا يُفَسِّر كيف أن جميع الثورات على الدولة الأموية إنما قام بها رجال دين أو دعمها ـ بشكل مباشر وحاسم ـ رجال دين. وفشلت كل هذه الثورات على امتداد تسعين عاما؛ حتى انتصرت الثورة العباسية بردائها الديني. ومع كل فَشلٍ، كان رجل الدين يلجأ إلى البعد الروحي/ المعرفي لتعويض خسارته، وحيث إن المعارك الفاشلة تُخَلِّف وَرَاءها مآسيَ كبيرة، وأحقادا مكتومة، وثارات مُؤجّلة، فقد كانت كل هذه تسهم في رفع أسهم رجل الدين ـ كملجأ أمين، وربما وحيد ـ للغضب الاجتماعي الذي يتراكم بفعل السياسات الغاشمة للأمويين.

كانت السلطة الأموية مرفوضة وممقوتة دينيا واجتماعيا على نطاق واسع. وفي المقابل، كان رجال المعرفة الدينية والاستقامة الأخلاقية مقبولين اجتماعيا على نطاق واسع. كانت السلطة الأموية تمتلك عناصر القوة المادية القسرية، وكانت سلطة رجال الدين تمتلك عناصر القوة الروحية المؤثرة عميقا في الحراك الاجتماعي. 

مَن هو الأقوى، خاصة وأن عناصر القوة تمايزت وتنوعت؛ بعد أن كانت ـ عهد الخلفاء الأربعة ـ متداخلة، ومتواصلة، ومتفاعلة؟ لا بد من مشهد مبارزة، لا بد مشهد استعراض للقوة، ولو بشكل عرضي. وهنا تأتي المناسبات العامة، وخاصة مناسك الحج؛ لِيُحاول المجتمع التعبير ـ بشكل ضمني ـ عن رفضه لمغتصبي السلطة من الأمويين، ولِيُحاول رجل الدين ومؤيدوه تأكيد نفوذهم المنافس لنفوذ رجال السلطة الرسميين. وهذا ما ينكشف من خلال "العبارات الموجزة" التي ترد في كتب التراث في تراجم رجال الدين، إذ تحكي أن الناس يتبعون عبدالله بن عمر في الحج ليستفتوه، وأن هؤلاء الناس بلغوا من الكثرة ما يفوق الذين التفوا حول الحاكم الأموي، وكذلك الحديث عن التفاف الناس حول التابعي/ عطاء بن أبي رباح، مقابل إهمالهم النسبي للحاكم الأموي/ سليمان بن عبد الملك...إلخ القصص الصادقة أو المتخيلة التي تحكي مشاهد ـ أكثرها غير مقصود بصورة واعية ـ لاستعراض القوة، ليس من قِبَل رموز/ أبطال الحكاية، بل من قبل أولئك الذين أخذوا على أنفسهم مهمة تسطيرها في تراجمهم، وأكثر هؤلاء هم من رجال الدين الذين كانوا يُحاولون تأكيد نفوذ أسلافهم مقابل السلطة في الماضي؛ لتأكيد نفوذهم هم أيضا، على سبيل المعنى السلطوي المتضمن في المشهد الاستعراضي. 

إن مشاهد المبارزة هذه، التي يصنعها ويستعرضها المخيال العام لرجال الدين ولأولئك المتعاطفين معهم، عَبَّرت عن نفسها بوضوح بعد سقوط الأمويين على يد الثورة العباسية التي تَلبّست لبوسَ الديني في البداية، ثم كشفت عن قناعها السلطوي المحض، على الأقل، إزاء/ مقابل رجال الدين الذين وجدوا أنفسهم مرة أخرى خارج نطاق السلطة تماما. وهنا نسمع وصف الإمام مالك بأنه كان يبدو في "هيئة سلطان"، أو أنه كان "مهيبا كسلطان"، أو أنه "أشبه بالسلاطين منه بالعلماء". بل ونسمع من يصف سفيان الثوري، أحد كبار رواة الحديث، بأنه كان "أمير المؤمنين في الحديث"، وربما وُصِفَ بهذا الفقيه/ عبد الله بن المبارك، وكان العز بن عبد السلام يُوصَف بأنه "سلطان العلماء"، تروي كتب التراجم التي كتبها في الغالب رجال الدين، مشاهدَ لِجُرْأة رجال الدين على السلاطين.  

هكذا يستعير رجل الدين ـ أو يُسْتَعار له ـ ألقاب السلطة الصريحة لتأكيد سلطته، لا سلطته هو كفرد، أي ليس سلطة مالك أو سفيان الثوري أو ابن المبارك أو العز بن بعد السلام...إلخ، بل سلطة "رجال الدين" كطبقة تُنَافِس رجال السلطة السياسية على مجال النفوذ/ عناصر القوة في المجتمع. 
وللحديث بقية في هذا السياق.

 

-------------------------------

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

 

مواضيع ذات صلة

تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء
تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء

عبد الرحيم التوراني

تسود منذ فترة ليست باليسيرة حالة من الاستياء العام ومن تصاعد السخط الاجتماعي في المغرب، تطفو نبرته الحادة على ألسنة الناس في أحاديثهم اليومية، وتعبيرهم عن شكواهم الصريحة من ارتفاع الأسعار ولهيب نار الغلاء.

في هذا الصدد عرف الأسبوع الأخير الدعوة لمظاهرات احتجاجية، تم تفريقها في عدد من مدن وجهات المغرب. مظاهرات ومسيرات احتجاجية دعت إليها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمختلف الأقاليم، مسنودة بالأساس من تحالف الجبهة الاجتماعية المغربية، وضمنه أحزاب فيدرالية اليسار المغربي، والحزب الاشتراكي الموحد، وحزب النهج الديمقراطي العمالي، إضافة إلى الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وهيئات حقوقية ومدنية أخرى.

في بيان خاص نبهت المركزية النقابية إلى "الارتفاع المهول للأسعار بشكل غير مسبوق، وانهيار القدرة الشرائية للمواطنات والمواطنين، واتساع دائرة الفقر والفوارق الاجتماعية والمجالية في ظل توالي الأزمات وإصرار الحكومة على نفس الاختيارات السائدة منذ عقود".

وبالرغم من كونها ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها المغاربة إلى الاحتجاج بالنزول إلى الشارع، فإن الأمر أصبح يدفع باستمرار إلى طرح سؤال حارق قد يبدو للبعض أن به مبالغة: - هل يسير المغرب في اتجاه انفجار اجتماعي؟

إلا أن السلطات الأمنية عمدت إلى منع هذه المسيرات الشعبية، بدعوى "الحفاظ على الأمن العام". ما أفضى بتحول الاحتجاجات ضد الارتفاع الهائل في أسعار المواد الغذائية، إلى التنديد بالقمع وخنق حرية التعبير، والممارسات التي تتنافى وتتعارض مع نص الدستور.

صادف هذا الحدث إحياء الذكرى 12 لـ لانتفاضة "حركة 20 فبراير" المنبثقة عن ثورات الربيع العربي، وقد تمت استعادة شعاراتها المركزية المتمثلة بالأخص في المطالبة بـ"إسقاط الفساد"، ورفض "زواج المال والسلطة"، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وفي المقدمة سجناء حرية التعبير من صحفيين ومدونين ومدافعين عن حقوق الإنسان.

لا شك أن وسائل الإعلام الرقمي الجديد، وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي، سهلت إتاحة المعلومات المتعلقة بأغنى الأشخاص الذين يهيمنون على ثروات المغرب، وهم لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، من بينهم رئيس الحكومة الحالية عزيز أخنوش، صاحب محطات "إفريقيا" للمحروقات وأكبر فلاحي المغرب، وزوجته سلوى أخنوش، وذلك فق ما ينشر سنويا في تصنيفات مجلة "فوربيس" الأمريكية المهتمة برصد وإحصاء أرصدة أغنياء العالم.  وبينما ينعم هؤلاء الأغنياء في الرفاه وترف النِّعَم، يعيش ملايين المغاربة في فقر "كاريانات" مدن الصفيح، دون الحد الأدنى من المقومات الأساسية للعيش الكريم. وفي الوقت الذي تتسع فيه فجوة الفوارق الاجتماعية، ويتضاعف فيه معدل الفقر بنسب عالية، تجد حكومة عزيز أخنوش نفسها أمام تحديات كبيرة لاختبار استراتيجياتها وسياساتها التي أعدتها بهدف تجاوز الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية، ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.

فعلى ضوء ما وعدت به الحكومة الحالية وما قدمته في برنامجها وبيانها الحكومي، فإن حوالي عام ونصف على تنصيب عزيز أخنوش على رأسها (7 أكتوبر 2021)، هو زمن كافٍ لإجراء تقييم لإنجازاتها. إلا أن المؤشرات هنا توضح مدى ضعف الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لهذه الحكومة، في خضم ما يعانيه العالم اليوم من تضخم قوي ناتج عن تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، وعن ذيول ومخلفات الأزمة الاقتصادية المترتبة عن وباء كورونا في 2020.

بيان الكونفدرالية الديمقراطية للشغل حمَّل حكومة أخنوش "كامل المسؤولية عما قد يترتب عن الوضع الاجتماعي المأزوم من ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي"، أمام تجاهل آثار هذه الأزمة الاجتماعية الخانقة. وأكد على ضرورة اتخاذ مبادرات وإجراءات جريئة وهيكلية لإيقاف ضرب وتدمير القدرة الشرائية لأغلبية المواطنات والمواطنين، و"محاربة كل أشكال الفساد والريع والمضاربات بدل مواصلة الانحياز للرأسمال الريعي والاحتكاري، وخنق الحريات". كما طالب بتنفيذ كافة الالتزامات الاجتماعية، وعدم المساس بمكتسبات التقاعد.

لكن الحكومة تبدو وكأنها غير آبهة بما يجري ويحدث أمام أنظارها من تفاعل وصراعات، وقد تآلفت أسماعها مع مثل هذه اللغة الاحتجاجية الموغلة في السلبية  والتشاؤم.

إلا أن نقابي من قطاع التعليم من مدينة طنجة، أبى إلا أن يذكرنا بالتاريخ القريب جدا، ففي الصيف الماضي فقط (يوليوز 2022) انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو ظهر في رئيس الحكومة عزيز أخنوش مصحوبا بوزير الشباب والثقافة والتواصل، المهدي بنسعيد، ووزيرة السياحة والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، فاطمة الزهراء عمور، وهم في مهرجان موسيقي. فجأة تعالت أصوات تردد: (أخنوش.. ارحل.. ارحل). إثرها شوهد رئيس الحكومة وهو يغادر المكان مسرعا ويركب سيارة.

ليلتها كانت ساكنة مناطق الشمال في المغرب تعاني من ويلات حرائق مهولة، ضمن سلسلة حرائق شملت الجنوب الأوروبي، فرنسا واليونان واسبانيا والبرتغال. وفي الوقت الذي هرع فيه رؤساء ومسؤولو حكومات تلك الدول باتجاه مناطق الكوارث ببلدانهم  للتضامن مع ضحايا الفجيعة الإنسانية، أدار رئيس الحكومة المغربية ظهره للآلاف من المغاربة الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مشردين وسط الغابات المحترقة، وقد دمرت قراهم وحقولهم، إذ فضل رئيس الحكومة المغربية النزول جنوبا لافتتاح مهرجان موسيقي راقص، في المدينة التي يشغل فيها مهمة عمدة، ولم يدر بخلده أنه سيواجه بمثل تلك المعاملة من جمهور مشتعل بالغضب، لم يتردد في تأسيس زلزال تحت المنصة التي وقف عليها المسؤول الحكومي الأول.

وللإشارة فقد اشتهرت هذه المدينة الجنوبية الساحلية بالزلزال الذي ضربها بتاريخ 29 فبراير 1960 وخلف أزيد من 15 ألف قتيلا، ومن تاريخها كلما وقعت هزة أرضية عنيفة على سطح الأرض، مثلما وقع أخيرا في تركيا وسوريا، تذكر العالم مدينة أغادير وزلزالها العنيف.

لم يعد أخنوش يأبه بشعارات المطالبة برحيله، منذ تصدر وسم "أخنوش ارحل" مواقع الفيسبوك والتويتر في المغرب، على خلفية ارتفاع أسعار الوقود. حيث يعد الرجل المحتكر رقم واحد للمحروقات في البلاد. ويتهمه الرأي العام في المغرب بكونه وراء ارتفاع أسعار المحروقات رغم هبوطها في الأسواق العالمية، باعتباره رئيسا للوزراء ثم بصفته صاحب أكبر شركة لبيع وتوزيع الوقود في المغرب (افريقيا غاز)، وطبعا هو دائما أكبر المستفيدين من ارتفاع الأسعار.

لقد تحول الشعار الذي خاض به حزب أخنوش الانتخابات الأخيرة إلى مسخرة لدى الناس، يهزؤون به كما يثير حفيظتهم، والشعار الموجه للناخبين والمواطنين عموما أثناء الحملة الانتخابية البلدية والبرلمانية صيف 2021، هو "تتساهل أحسن"، وترجمته الفصيحة: "أنت تستحق الأفضل". وكان رئيس حزب الأحرار عند كشفه للمرة الأولى لـ"شعار المرحلة" كما أسماه، قال في تجمع انتخابي بالدار البيضاء: (إن المغاربة "يستاهلو" حكومة قادرة أن تكون في المستوى الّلي بغا صاحب الجلالة).

ولما حصل حزب عزيز أخنوش (التجمع الوطني للأحرار) على المرتبة الأولى في انتخابات 8 سبتمبر 2021، وتم تعيينه رئيسًا للوزراء من قبل الملك محمد السادس، أكد أخنوش أنه سيلتزم بالرعاية الاجتماعية ودعم الأسر الأكثر ضعفا وتعزيز الصحة العامة والتعليم، والنهوض بالاقتصاد الوطني المتضرر من الوباء. ثم  أعلن مباشرة عن خطة طارئة لدعم السياحة، باعتبارها القطاع الرئيسي في الاقتصاد المغربي. ووافقت حكومته على برنامج حمل اسم "أوراش"، يهدف إلى خلق 250 ألف فرصة عمل بين عامي 2022 و2023. كما تكلم عن تقنين الإنفاق العام وتعزيز مشاريع البحث العلمي. والاتجاه نحو تقليص الفوارق الاجتماعية بين المغاربة.

وما يراه المواطنون اليوم هو تراجع واضح عن الوعود التي تضمن تحقيق "المغرب الديمقراطي الجديد"، كما جاء على لسان أخنوش دائما.

من بين تلك الوعود التي تعهدت بها الحكومة وظلت مجرد وعود: - "إخراج مليون أسرة من الفقر وانعدام الأمن"، ومكافحة البطالة عن طريق "خلق مليون فرصة عمل"، وتوفير ضمانات الرعاية الاجتماعية، ومنها "دخل الكرامة" الذي يصل إلى 400 درهم (حوالي 34 دولار أمريكي)، لمساعدة كبار السن، و300 درهم (حوالي 25 دولار أمريكي) لدعم الأسر الفقيرة ومساعدتها على تعليم أطفالها، والتزام مدى الحياة لدعم ذوي الاحتياجات الخاصة. ناهيك عما قيل عن إحداث ثورة في قطاع التعليم، "ثورة تجعل المغرب ضمن أفضل 60 دولة في العالم من حيث جودة التعليم".

ولم يرِد أي كلام هام في بيان حكومة أخنوش يخص محاربة الفساد، غير أن آخر ما حصل في هذا المجال هو  فضيحة "بيع تذاكر المونديال"، وقد تورط فيها رجال أعمال ونواب برلمانيين من الأحزاب المتحالفة ضمن الحكومة الحالية، وحتى اليوم لا زال الرأي العام في انتظار نتيجة التحقيقات التي قامت بها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بالدار البيضاء في هذا الشأن. وقد سبقت هذه الفضيحة قضية امتحانات ولوج سلك المحاماة.

وآخر وليس الأخير بهذا الصدد، فضيحة استيراد الأبقار من البرازيل، وما رافقها من شبهات تسريب قبلي لعزم الحكومة إلغاء الرسوم على استيراد الأبقار المعدة للذبح، وكانت المفاجأة أن مستوردين "محظوظين" بعلاقاتهم مع جهاتٍ حكومية، استطاعوا أن يستوردوا من هذا البلد اللاتيني  قطعانا من العجول والأبقار المعفية من رسوم الاستيراد، بعد فترة زمنية قصيرة تناهز أسبوعين فقط، مباشرةً بعد تاريخ اتخاذ قرارالإعفاء في المجلس الحكومي. ما يعزز بقوة الشكوك والشبهاتحول وقوع عملية تسريب المعلومة المذكورة قبل اتخاذ القرار رسميا من طرف الحكومة"، وقد طرحت المسألة في مجلس النواب.

هكذا، مهما بلغت حاجة الناس لمشاعر النصر والابتهاج، لم تستطع كرة القدم والإنجاز الكبير للمنتخب المغربي في مونديال قطر، تبديد الاضطرابات الاجتماعية، والخوف كل الخوف من أي استقرار أو سلام اجتماعي هش، ومن ضعف المعارضة، فلا شيء مضمون لاستبعاد تطور مسار الأحداث وانجرافها نحو انفجار كبير!

================================================================

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).