حسين عبد الحسين
على مدى الأشهر الماضية، اشتكى رجل الدين العراقي مقتدى الصدر من سلسلة من المواضيع وطلب حظرها جميعها، كان أولها اعتراضه المتكرر على المثلية الجنسية وإصراره على معاقبتها في العراق والعالم، وثانيها معارضته لأي حوار عراقي مع أي إسرائيلي أو عضو في الماسونية، وثالثها امتعاضه لقيام سويدي بإحراق نسخة من المصحف في ستوكهولم، وآخرها مطالبته السعودية بالإيعاز لشبكة "أم بي سي" بعدم بث مسلسل رمضاني من المقرر أن يتناول حياة الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان.
مقتدى مولود في بغداد وتفتحت عيناه على عراق لجدرانه آذان، يخشى الأخ وشاية أخيه. عراق يسوده العنف والغضب وتكرار العراقيين لكلمتي "أبسطه"، أي أضربه، و"أضربه طلقة" أي أطلق عليه النار.
عراق عشائري قروسطوي، لا حقوق فيه للمرأة ولا للطفل ولا مساواة، بل هرمية قاسية يردد فيه من هم في القاع عبارة "نعم سيدي" عشرات المرات في اليوم، ويهللون للحاكم، صدام كان أو خامنئي أو مقتدى.
في الأسابيع التي تلت انهيار النظام، مررت على مدرسة لانتظر أولاد أقربائي. لفتتني عدد الرسومات التي كانت تتناول صدام، واحدة فيها صدام رياضي، وأخرى صدام المحارب، وثالثة صدام يقرأ. استللت كامرتي ورحت أصور، إذ، في لحظات، خرجت علي سيدة في منتصف العمر وعرّفت عن نفسها أنها المديرة.
قالت لي بثقة: ممنوع التصوير. كان النظام انهار قبل أيام والناس تنهب الوزارات والمحال التجارية. أجبتها: بأمر ممن؟ فكّرت المديرة وشعرت أني محقّ. التصوير كان ممنوعا في زمن صدام، ولكن في غيابه، لأي شخص الحرية بالتصوير أينما كان. تراجعت المديرة وأومأت لي بالمضي بالتصوير براحتي.
يوم اقتلع الأميركيون صدام، منحوا العراقيين الحرية، فكانوا كمن أطلق سماك من شباك الصياد وأعادوهم للبحر. لكن أجيال العراقيين نسيت السباحة، فغرقت في الحرية، ولم تعرف كي تستمع بها، أو كيف تحترم حق الآخرين بالاستمتاع بها.
رحل صدام لكن الثقافة الصدامية في الكبت والمنع والرقابة والحظر كلها بقيت، هذه المرة ارتدت زي أناس يتحدثون باسم رب العالمين بدال من الحديث باسم الأمة العربية المجيدة، على غرار ما كان يفعل صدام.
بعد 20 عاما على اقتلاع أميركا لصدام، ما تزال ثقافة العراقيين عنفية قاسية لا مكان للحرية فيها. الأقوى يحكمون حسب القانون العشائري وبعض تقاليد الإسلام، وعلى كل الناس أن تعبد الإله نفسه، وتصلي بالطريقة نفسها، وتلتزم العادات والتقاليد نفسها. من يخرج عن هذه التقاليد لأن دينه يخالفها، مثل االمسيحيين أو الصابئة، يتم التعامل معهم على أنهم أقلية غير مرئية، لا حقوق لهم إلا بعض الحقوق الرمزية على شكل مقعد أو أكثر في مجلس النواب، وربما وزير وزارة لا قيمة لها، مثل حقوق الإنسان، أو وكالة وزارة بالأكثر.
مقتدى الصدر من أكثر ضحايا صدام في العراق. فقد أبيه وإخوته على أيدي النظام السابق. رحل صدام، لكن مقتدى بقي يعيش في العقلية نفسها: منع وحظر وبطش وتحذير وصراخ.
الظريف هنا هو أن معارضة مقتدى لمسلسل معاوية تشبه معارضة مسلمي العالم لرسوم الكاريكاتير عن النبي محمد واعتراضهم، مثل مقتدى، ضد السويدي الذي أحرق القرآن. منطق معارضة غالبية المسلمين لأي ما يعتقدونه مسيئا لرسولهم أو كتابهم هو نفس منطق معارضة مقتدى لمسلسل معاوية، وهو منطق لا يفهم معنى الحرية، ويعتقد أن ما هو مقدس لديه يجب أن يحوز على احترام الآخرين وأن إهانة مقدسه هو إهانة له، ما يعني أن هذه الإهانة محظورة لأن الحرية تشترط الاحترام، وهذا طبعا هذيان.
لا احترام في الحرية. الحرية مطلقة لا قيود لها، باستثناء التحريض على القتل. الناس تختلف في المعتقدات والمقدسات، ومعتقدات البعض هي إهانة تلقائية لمعتقدات الآخرين. مثلا، رأي المسلمين أن المسيح لم يكن ابن الله ولم يتعرض للصلب، ولم يقم من الموت، هو رأي يطعن في قلب العقيدة المسيحية، وهو اعتقاد يساوي قول المسيحيين أن محمدا لم يكن رسولا ولا نزل عليه وحي.
هذا التضارب في المعتقدات والمقدسات هو الذي دفع من صمموا الدول ومبدأ الحرية الى اعتبار أن كل واحد مسؤول عن اعتقاده هو وحده، وأن لا وصاية له أو للجماعة أو للمجتمع أو للدولة على معتقدات أو آراء أو أفعال الآخرين، حتى لو كانت أفعالهم مسيئة له.
مقتدى الصدر والشيعة عموما يلعنون معاوية بن أبي سفيان لاعتقادهم أنه لم يقبل بخلافة علي، بل نازعه عليها وحاربه ما أدى لمقتله. بعد ذلك، انتزع معاوية زعامة المسلمين من الحسن ابن علي، مع أن الحسن هو الذي بايع معاوية. ثم عند موت معاوية، لم يعترف الحسين ابن علي بخلافة يزيد ابن معاوية، ما أدى إلى معركة كربلاء التي قتل فيها جيش يزيد الحسين وصحبه.
الشيعة يكرهون معاوية وكل الأمويين ويلعنونهم، وهو ما يثير التساؤل حول أسباب تمسك شيعة إيران اليوم بمسجد قبة الصخرة الذي بناه الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان. أما السنة، فيعتبرون معاوية من الصحابة، ويعتبرون الخلفاء الأمويين أمراء المؤمنين الذين بايعهم المسلمون، ويعزّون خصوصا عبدالملك وعمر بن عبدالعزيز.
هذا اختلاف رأي واضح، من يحبهم السنة يلعنهم الشيعة، وهو ما يعني أنه يحق لكل من الطرفين التعبير عن رأيه الذي لن يعجب الآخر، بدون الحاجة للصراخ والقمع والعنف. والموضوع نفسه ينطبق على علاقة المسلمين بالغربيين الذين يهينون رموز الإسلام ومقدساته. للناس آراء مختلفة وحسب ما ورد في القرآن "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". فإذا كان كتاب المسلمين يسمح بالكفر، فلماذا يعتقد المسلمون أن عليهم فرض رقابة ومنع التجاوز على معتقداتهم ومقدساتهم؟
فلتبث شبكة "أم بي سي" مسلسل معاوية، ولتبث الشبكات التابعة لإيران مسلسل السيد المسيح (الذي منعته الكنيسة في لبنان)، وليبث القبطي الأميركي فيلمه المسيء عن الرسول، وليرسم من يرسم الرسول ويحرق من يحرق القرآن، بل التوراة أو أي كتاب يحلو لهم. الحرية مطلقة، وإلغاء القيود يخفف من الكبت والغضب والحاجة لإهانة الآخر والتضارب معه.
================================================================
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).