الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة صحبة الرئيس السينغالي ليوبولد سنغور في زيارة إلى العاصمة داكار عام 1974
الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة صحبة نظيره السينغالي ليوبولد سنغور في داكار عام 1974

ألقت تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيد حول المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء بظلالها على علاقات هذا البلد المغاربي مع بلدان القارة.

ولكن باحثين في التاريخ بتونس يصفون ما يحدث بين الجانبين بـ"الحدث العابر"، قائلين إن ما "يجمع تونس بقارتها أكبر بكثير مما يفرقها" خاصة في الجوانب الثقافية والسياسية والتاريخية.

وكانت تونس تحمل قديما اسم "إفريقية" مثلما جاء في عدد من المراجع التاريخية على غرار  مؤلف "المؤنس في أخبار إفريقية وتونس" لابن أبي دينار.

"تبادل تجاري وروحي"

يؤكد باحثون في التاريخ التونسي وجود "علاقات ضاربة في الزمن" بين تونس ودول أفريقيا جنوب الصحراء تعززت عن طريق القوافل التجارية التي كانت تربط جنوب القارة بشمالها.

وفي هذا السياق، يقول أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية عميرة علية الصغير إن "بعض النصوص والبحوث تتحدث عن أن جزءا من سكان شمال أفريقيا قدموا من المنطقة الصحراوية".

ويوضح أن "التركيبة البشرية لتونس تضم جزءا مهما من سمر البشر الذين وفدوا إلى تونس منذ القدم إذ كان جيش قرطاج مكونا من السكان المحليين وجاليات أخرى من بينها أصيلي منطقة أفريقيا جنوب الصحراء".

وتركز وجود الأفارقة من جنوب الصحراء الذين توافدوا على تونس في مراحل تاريخية مختلفة في عدة مناطق بالجنوب من بينها قبلي وقابس خاصة بالواحات لقربها من طريق القوافل.

ويوضح الصغير أن "تونس كانت على طريق القوافل بين شمال أفريقيا وجنوبها وكانت هناك حركة تجارية حيث كان سكان هذا البلد يجلبون الذهب والمعادن بينما يقومون بتصدير بعض المنتجات المحلية كالملابس".

كما يسلط المتحدث الضوء على "وجود حركة تبادل روحي وديني وعقائدي بين تونس وأفريقيا جنوب الصحراء إذ كان جامع الزيتونة مؤثرا رئيسيا في عدة مناطق في مالي والسنغال والنيجر وغيرها فضلا عن انتشار مؤلفات صوفية تونسية في هذه البلدان".

"تأثير ثقافي مهم" 

"استقرار أصيلي أفريقيا جنوب الصحراء بتونس منذ القدم كان له تأثير ثقافي مهم في البلاد"، وفق الصغير الذي يرى أن "الفنون الشعبية من رقص وعزف جنوب البلاد يديرها بشكل رئيسي تونسيون من ذوي البشرة السمراء".

ولم يمنع وجود "الصحراء كحاجز جغرافي" بين تونس ودول أفريقيا جنوب الصحراء وفق المتحدث ذاته من حدوث "تبادل ثقافي وتواصل بين الشعوب".

وتعد موسيقى "السطمبالي" في تونس مؤشرا واضحا على الارتباط الثقافي لتونس بمحيطها الأفريقي، وفق دراسات منشورة حول هذا النمط الموسيقي.

ويشير الباحث في الموسيقى هيكل  الحزقي إن "المكوّن التاريخي لتوطين هذه الموسيقى في تونس لا يعود فقط إلى جذور استعبادية، بل استقر جزءٌ منها نتيجة التجارة وأغراضها بين القوافل العابرة لصحارى أفريقيا وبلدان المغرب، التي ازدهرت في تونس خاصة بعد إلغاء الرق رسمياً سنة 1846". 

ويضيف الحزقي في دراسته المعنونة بـ "السطمبالي التونسي: سجع السلاسل ورنين الأصفاد" المنشورة في موقع"معازف" مقدما شرحا لأصل هذه الموسيقى إن "موسيقى السطمبالي نُسبت خطأ إلى الباشا آغا السطمبولي الذي ينحدر من مدينة إسطنبول التركية، بينما تعود طرق العزف التي نراها في السطمبالي التونسي إلى جماعة سعد الشوشان أو بوسعدية، والذي يعتبر أحد الأولياء الصالحين".

"دعم حركات التحرر"

لا يقتصر التأثير المتبادل بين تونس وأفريقيا جنوب الصحراء على مجالات الثقافة والدين والتجارة فحسب إذ يشمل الجوانب السياسية خاصة منها حركات التحرر من الاستعمار التي شهدتها القارة.

في هذا السياق، يؤكد المؤرخ التونسي عبد اللطيف الحناشي في تصريح لـ"أصوات مغاربية" أن "الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة كان يحتفظ بعلاقات مميزة مع زعماء حركات التحرر الوطني أثناء فترة دراستهم في فرنسا".

ويضيف الحناشي "كانت تونس أحد أول الدول الأفريقية التي حصلت على استقلالها عام 1956 وقد كان واضحا أنها ستدعم بقية حركات التحرر الأفريقية وهو ما ظهر في خطابات بورقيبة حول الجزائر وناميبيا والكونغو وجنوب أفريقيا فضلا عن احتضان البلاد لمكاتب وتمثيليات لهذه الحركات".

ويُعد بورقيبة أحد مؤسسي "منظمة الوحدة الأفريقية" عام 1963 وكانت تهدف إلى تعزيز وحدة وتضامن الدول الأفريقية، والدفاع عن سيادتها وسلامة أراضيها.

وإلى جانب هذه المساهمة التاريخية، لا تزال تونس تضطلع بدور في مهمة حفظ السلام الأممية في عدد من الدول التي تشهد نزاعات داخلية.

ففي نهاية العام الفائت مددت تونس نشر وحدة المروحيات بجمهورية أفريقيا الوسطى لعام إضافي ينتهي في 21 ديسمبر المقبل.

وتضم هذه الوحدة 130 عسكريا وتعمل في إطار الدعم لبعثة الأمم المتّحدة المتكاملة المتعدّدة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في ذلك البلد الأفريقي الذي يعيش منذ سنوات في دوامة من العنف والفوضى.

وتشتغل البعثة العسكرية التونسية في مجال التدخل السريع والمرافقة الجوية والبحث والإنقاذ.

ومنذ العام 1960 كان الجيش التونسي جزءا من 16 مهمة حفظ سلام بالعالم تحت راية الأمم المتحدة ونحو 4 مهام تحت راية الاتحاد الأفريقي من بينها مهمتين متواصلين إلى حد الآن بالكوت ديفوار والكونغو الديمقراطية.

"سحابة عابرة" 

فجرت تصريحات الرئيس التونسي حول المهاجرين غير النظاميين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء والتي نددت بها منظمات محلية ودولية وصفتها بـ"العنصرية"، تساؤلات عديدة في الأوساط الحقوقية والسياسية حول مستقبل العلاقات بين هذا البلد المغاربي والدول الأفريقية.

لكن الصغير يعتقد أن  "ما يجري سحابة عابرة" وأنه "قد تم النفخ في الأحداث بسبب خلفيات سياسية رغم وقوع بعض الاعتداءات من قبل تونسيين على مهاجرين مثلما يحدث في عديد الدول" على حد تعبيره.

ويشير المتحدث ذاته إلى أن "الرئيس قيس سعيد ووزير الخارجية أجريا لقاءات مع عدة مسؤولين أفارقة وهي جهود ستقود لطي هذه الصفحة في قادم الأشهر".

من جهته، يشدد الحناشي على أن "ما يجمع تونس بقارتها أكبر بكثير مما يفرقها في ظل وجود تاريخ مشترك وبالتالي فإن تونس جزء لا يتجزأ من أفريقيا ضمن خصوصيات معينة".

 

  • المصدر: أصوات مغاربية 

مواضيع ذات صلة

خطر الإرهاب يتهدد منطقة الساحل وضمنها الجزائر
خطر الإرهاب يتهدد منطقة الساحل وضمنها الجزائر

تمر الإثنين 16 سبتمبر 25 سنة على "استفتاء الوئام المدني" الذي أقرته الجزائر "آلية للمصالحة" مع الجماعات المتشددة.

وتتزامن الذكرى مع فوز الرئيس عبد المجيد تبون بولاية ثانية، وهو الذي كان قد أمر الحكومة بـ"إعادة النظر في قانون 'لم الشمل' لفائدة الأشخاص الذين سلموا أنفسهم"، في أغسطس 2022، إلا أن القانون لم الجديد يصدر بعد.

وعول الرئيس الجزائري على قانون "لم الشمل" لتحديد طرق التعامل مع المتشددين الذين يسلمون أنفسهم، وذلك بعد انقضاء الحيز الزمني لتطبيق قانون "الوئام المدني"، وفق بيان لمجلس الوزراء آنذاك.

وسبق لتبون أن أعلن في لقاء دوري مع وسائل إعلام محلية نهاية يوليو 2022 أن هذه المبادرة "ستكون امتدادا لقوانين الرحمة والوئام المدني والمصالحة الوطنية، وستشمل كل من تم تغليطهم وأدركوا بعدها أن مستقبلهم مع الجزائر، وليس مع بعض الأطراف الخارجية".

وتعود قوانين المصالحة الوطنية في الجزائر إلى عهد الرئيس الأسبق ليامين زروال الذي أصدر قانون "الرحمة" في فبراير 1995، ثم قانون "الوئام المدني" الذي تبناه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وعرضه لاستفتاء 16 سبتمبر 1999، تلاه ميثاق "السلم والمصالحة" في سبتمبر 2005. وشجعت هذه القوانين مئات المتشددين المسلحين على الاستسلام والتخلي الطوعي عن أسلحتهم.

ومع تزايد أعداد المتشددين الذين يتم توقيفهم من قبل وحدات الجيش الجزائري (تحييد 30 مسلحا خلال السداسي الأول من 2024)، أو الذين يسلمون أنفسهم، تثار تساؤلات بشأن الإطار القانوني للتعامل معهم، بين من يرى إمكانية إصدار قانون جديد ينظم الأمر، وبين من يعتبر أن التغييرات السياسية والأمنية "طوت صفحة الوئام المدني والمصالحة مع المتشددين".

"روح المصالحة" 

وتعليقا على هذا النقاش، يؤكد الحقوقي فاروق قسنطيني أن "روح المصالح باقية في الجزائر"، لافتا في حديثه لـ"أصوات مغاربية" إلى "أهمية الحلول السلمية في معالجة قضايا الإرهاب والتشدد الديني بالجزائر".

ويتوقع قسنطيني إمكانية أن تلجأ الحكومة إلى "عرض مشروع قانون تكميلي للوئام المدني والمصالحة من أجل استكمال ملف العفو المشروط الذي تبنته الدولة سابقا".

وأشار المتحدث إلى أن "نجاح مشاريع المصالحة السابقة في حقن الدماء بالجزائر، سيكون حافزا أمام الرئيس عبد المجيد تبون لعرض مشروع جديد للتكفل بالمسلحين الذين سلموا أنفسهم خلال السنوات الأخيرة".

"صفحة مطوية"

ويرى المحلل السياسي، فاتح بن حمو، أن التعامل مع الحالات الجديدة وفق قانون الوئام المدني "لا يبدو ممكنا اليوم، بحكم أن هذا القانون يعتبر صفحة مطوية في الجزائر".

ويتابع بن حمو قائلا لـ"أصوات مغاربية" إن قانون الوئام المدني "حقق جزءا كبيرا من أهدافه قبل 25 سنة من اليوم، ولا يمكن إعادة العمل به لاختلاف الظروف والأولويات".

ويعتقد المتحدث أن إمكانية صدور قانون للمصالحة "أمر لن يتحقق على الأقل في المديين القريب والمتوسط، بحكم أن الأولوية الحالية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية التي يعمل عليها الجميع، بينما تتواصل عمليات مكافحة الإرهاب في شقها الأمني".

 

المصدر: أصوات مغاربية