تضمن الدولة التونسية الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ بحكم دستور البلاد، لكن ناشطين يشتكون نقص الإرادة السياسية لتحقيق ذلك.
ويسلط برنامج "الحرة تتحرى" الضوء على محاربة التلوث البيئي في تونس وهو منصوص عليه في الفصل 47 من الدستور التونسي.
تونس ... الملقبة بـ "الخضراء"
كانت تونس بلدا سباقا، عربيا وأفريقيا، في الانضمام للعديد من الاتفاقيات الدولية للحفاظ على البيئة ومنع التلوث.
الاتفاقيات الدولية عززتها دساتير البلاد، وآخرها الصادر، في أغسطس من عام 2022.
يقول حمدي شبعان، الخبير في تدوير النفايات، إن دستور عام 2022، كان واضحا في المسائل البيئية، "ما ينقصنا هو الإرادة السياسية الفعلية من طرف السياسيين المتواجدين اليوم في صلب الحكم".
وانعكست مشاكل البلاد السياسية والاقتصادية في أزمة بيئية غير مسبوقة، نتيجة تراكم النفايات المنزلية والصناعية داخل المصبات.
يقول منير حسين، عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية: "نحن لا نعالج النفايات، بل نقوم بنقلها من الأوساط الحضرية القوية، المدن، إلى غير ذلك. ونلقي بها في مصبات، عادة ما يتم اختيار الموقع بجانب مجموعات سكانية صغيرة، لا تملك الإمكانيات السياسية، والإمكانيات المادية للدفاع عن حقوقها".
وتشير مبروكة ابن براهيم، مواطنة مقيمة في مدينة عقارب، إلى أن سكان المنطقة لم يواجهوا مشاكل حتى اتخذ القرار بتحديد منطقتهم كمكب للنفايات، وتقول: "(كنا) عايشين لا بأس علينا، نقعدوا برا (في الخارج) ونمشوا، لا عندنا ريحة فيتور، ولا عندنا ريحة دخان، ولا ريحة ازبل (نفايات)، ما عندناش، حتى جانا هذا المصب".
يقول شبعان، إن عدم الاستقرار السياسي، هو الذي جعل موضوع النفايات في تونس "ما يتطورش".
ويضيف حسين أن "الشركات الكبرى هي التي تسيطر على أغلب المصبات، وتستخلص أموالا ضخمة جدا، وهذه المشاريع، مشاريع المصبات، تقريبا (تشكل) تكلفة على الدولة، أموالا ضخمة جدا، دون أن تقوم بتجويد (بتحسين) الواقع البيئي".
وبحلول منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبغرض مراقبة التصرف في النفايات وإزالتها اعتمد البرلمان التونسي آنذاك قانونا جديدا.
وينص "القانون 41" في الدستور التونسي على "تثمين النفايات عن طريق إعادة الاستعمال والتحويل، وكل الأعمال الأخرى الرامية إلى استخراج المواد القابلة لإعادة الاستعمال، ولاستخدامها كمصدر للطاقة، وتخصيص مصبّات مراقبة لإيداع النفايات المتبقية، أي بعد استيفاء كل مراحل التثمين الممكنة".
وبعد عام على صدور "القانون 41"، شرعت الحكومة التونسية في إنشاء مصبات مراقبة وصل عددها اليوم إلى عشرة، لكن الحال تغير بعد عام 2011.
ويقول محمد تومي، مسؤول سابق بالوكالة الوطنية للتصرف في النفايات: "في تونس حاليا نعيش أزمة، والأزمة هذه، على الأقل منذ ثماني أو تسع سنوات، ما بعد الثورة بالضبط، أصبحت مشكلة النفايات أزمة".
ويوضح أنه "قبل الثورة، كان هناك برنامج مُسطّر، فبعد الثورة، المركز الوحيد لمعالجة النفايات الخطرة تم إغلاقه، وبالتالي، وليت (أصبحت) كل النفايات الخطرة تُرمى في المحيط".
وطبقا لمؤشر الأداء البيئي لعام 2022 الصادر عن جامعة ييل الأميركية، تحتل تونس مستويات متدنية في مجال التعامل مع النفايات، وإعادة تدويرها ضمن 180 دولة شملها التقرير.
تقول بثينة الغانمي، نائبة رئيس لجنة الصناعة والبيئة في البرلمان التونسي المنحل: "هناك مصبات لم تعد مؤهلة، لأنها تحوي الكم الهائل من الفضلات، التي تعد متنوعة، يمكن أن تثمّن هذه النفايات، ويعني يتم استغلالها وتصبح ثروة، لكن الآليات والإمكانيات ربما تفوق توازنات (ميزانيات) وإمكانيات الدولة".
وبعدد سكان تعدى 12 مليون نسمة، ووفقا لأرقام الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات لعام 2023، تنتج تونس سنويا حوالي 2.6 مليون طن من المخلفات.
وفي تقرير الوكالة التونسية للتصرف في النفايات، فإنه وفقا للدراسات، تتميز هذه النفايات بنسبة عالية من المواد العضوية تتجاوز 60 في المئة، وبنسبة عالية من الرطوبة تتراوح بين 65 و70 في المئة.
ويرى تومي أن تكلفة حرق تلك النفايات أعلى مما يمكن الاستفادة منه في حال إعادة تدويرها وفرزها، وقال: "مثلا نحن، تونس العاصمة وما جاورها، المواد العضوية في حدود 68 في المئة"، موضحا "معناها ماعدش تعمل (لم نعد نعمل) عملية الفرز، كل شي يوقف، باش تقول إنت تشد الكتلة ككل، ونقول نحرقه، باش (من أجل أن) نخرج طاقة، ما تجيبش تخرج الطاقة، على خاطر، تكلفة الحرق أغلى من الي باش تنتج (الذي يمكن أن ينتج) الطاقة".
ودفع ازدياد حجم المخلفات سنويا، وكون معظمها غير قابل لإعادة التدوير، الجهات المختصة للجوء لطرق يراها خبراء لا تحافظ على البيئة.
يقول شبعان،"طمر النفايات شر لا بد منه، لكن كم كمية النفايات التي توضع بالمصبات؟ نحن في تونس نردم تقريبا 95 في المئة من جميع النفايات. في الدول الغربية اليوم وصلوا لخمسة في المئة".
وامتنعت الجهات الرسمية عن إجابة تساؤلات "الحرة تتحرى".
يقول تومي، الذي عمل سابقا كرئيس لمديرية التصرف في النفايات في الوكالة الوطنية: "بالنسبة للنفايات المنزلية والمشابهة، ما هيش (ليست) الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات فقط المسؤولة، على خاطر (لأن) النفايات المنزلية والمشابهة تتبع البلديات، هما المسؤولان مباشرة، وهنا، هناك تضارب في القوانين، من يفعل ماذا؟ بعد الثورة كل واحد يقول لك: 'أنا خاطيني (لا علاقة لهذا بي)، ويرمي الكرة للآخر'".
وطبقا لوسائل إعلام محلية، تحتكر شركات "سيغور" و"إيكوتي" و"فاليس" تشغيل كل مصبات النفايات القانونية في البلاد، والبالغ عددها عشرة، مقابل عقود سنوية تبلغ قيمتها 24 مليون دولار أميركي.
ويقول موقع مرصد مجلس النواب التونسي: "ثبت بأن الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات لا تحكم عملية تحديد احتياجاتها، سواء على المستوى الكمي أو النوعي، ويظهر ذلك من خلال التعديل في حاجياتها، وبعد الإعلان عن كراسات الشروط، وبعد الإعلان عن المنافسة.
ويضيف "كذلك شابت كراسات الشروط العديد من النقائص، التي ساهمت في توجيه طلبات العروض نحو مزودي أو مُقدّمي خدمات معينين".
ويقول شبعان: "عندما يُطلب، 30 مليون دينار للاشتراك في الصفقة، من هي الشركة التي تستطيع أن تنافس الشركات الكبرى (فيما يخص) مجال الخبرة؟ متواجدة في الغرب وليست متوفرة في تونس، وأغلب الشركات هي شركات فرنسية أو إيطالية، متواجدة في تونس، ليست شركات تونسية 100 في المئة، يعني كراسة شروط على المقاس".
حاولت قناة "الحرة" التواصل مع شركات"سيغور" و"إيكوتي" و"فاليس" للتعليق على الأمر، دون رد.
لأكثر من عقدين، ووفقا لأرقام رسمية، أدت عمليات طمر النفايات المستمرة في تونس إلى امتلاء المصبات المرخصة خاصة مع عدم إنشاء أي أماكن جديدة خلال العشر سنوات الماضية.
يقول شبعان إن "برج شكير تجاوز تقريبا 23 سنة في استغلاله"، مشيرا إلى أنه تجاوز أصلا عمره الافتراضي، "إلا أن الدولة التونسية ما تزال متمسكة باستغلال برج شكير، وبنفس الطريقة منذ 23 سنة بدون أي تغيير".
ووفقا لدراسات بحثية يتسبب طمر النفايات العضوية في تلوث كبير لعناصر البيئة: الماء والهواء والتربة".
وفي دراسة أجرتها جامعة كولورادو الأميركية، "يُطلِق تحلل الكتلة العضوية في مدافن النفايات غاز الميثان، الذي يعتبر أكثر فاعلية بمقدار 84 مرة في امتصاص حرارة الشمس من ثاني أكسيد الكربون، مما يجعله أحد أكثر الغازات مساهمة في الاحتباس الحراري وتغير المناخ".
وأضافت "في المتوسط، تقلل مدافن النفايات الكبيرة من قيمة الأراضي المجاورة لها بنسبة 12.9 بالمئة، وتتسبب في مخاطر مثل الروائح والدخان والضوضاء والحشرات وتلوث إمدادات المياه".
ويقول دكتور هشام العيسى، وهو متخصص في الأمراض السرطانية: "لاحظنا (في) المناطق القريبة من المصبات في صفاقس، نسبة حدوث مرضى (الإصابة بـ) السرطان ما بين 10 و20 في المئة أكثر من الولايات الأخرى".
ونوه إلى أنه تنبه إلى أن الحالات التي ازدادت في المناطق التي تضم مكبات النفايات، "هي أمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب وأمراض نقص المناعة، والتشوهات الخلقية لدى الأطفال حديثي الولادة. زيادة (بالإضافة إلى) طفرات جينية، تؤدي إلى مرض مقاوم للعلاج".
مصب صفاقس
واستقبل مصب النفايات الرئيسي لولاية صفاقس، المعروف باسم "مصب القنة"، أكثر من 600 طن من النفايات يوميا، حتى أواخر عام 2021.
وفي تقرير لجمعية نواة التونسية للصحافة المستقلة، في أكتوبر عام 2018، أصدرت الوكالة الوطنية لحماية المحيط تقريرا عقب حملة لقياس جودة الهواء بمعتمدية عقارب، أثبت أن التلوث في الهواء تجاوز الحدود المتعارف عليها، خاصة بالنسبة للغبار، ولسولفيد (كبريتيد) الهيدروجين، وأرجع التقرير هذا التلوث إلى احتمال تسبب مصانع هناك في التلوث، إضافة إلى مصب القنة.
يقول سامي البحري، الناشط بحركة "مانيش مصب": "ثما (هنالك) كوكتيل من الروائح في عقارب من (بسبب) المصب، من المعامل، من الميثان، هو الذي فاقم المشاكل الصحية، مسّنا في صحتنا معناتها، التقارير بتاع الهواء التي عملتها الـ ANPE، خرجت قالت راه (انظروا) يا ناس، الهواء بتاع (في) عقارب راه ملوث، وعملت صيحة فزع، راه (انظروا) الهواء هنا مسموم".
وإضافة إلى مشكلة تلوث الهواء في عقارب، عانى السكان من أضرار أخرى للمصب، إذ تشير مبروكة ابن ابراهيم إلى أن بعض السكان تعرضوا للسعات الحشرات ولدغات الأفاعي.
وعلى بعد أمتار من مصب القنة، تقيم مبروكة، وابنتها يسرى، التي تدهورت حالتها الصحية، في خريف عام 2019، إثر لسعة بعوضة، ونقلت للمستشفى.
وتقول مبروكة إن الأطباء المشرفين على ابنتها منعوها من رؤيتها، مشيرين إلى أنها تعرضت لجرثومة معدية ينقلها البعوض.
تقول سميرة العبيدي، المدير العام للتراتيب والنظافة بوزارة البيئة التونسية: "صحيح الأيام هذه، وبعد مرة المطر ومرة السخانة (نشهد أمطارا تارة وموجات الحر تارة)، معمول به (من الطبيعي) إنه تكثر الحشرات، وتكثر الناموس، واللدغة بتعها راه غير طبيعية، لكن نحب (أن) نؤكد واطمئن المواطنين، معندناش (لا تتواجد لدينا) النواقل هذه بتاع الأمراض الخطيرة".
ورغم نفي مسؤولي وزارة البيئة التونسية تواجد أي نوع خطير من الحشرات في البلاد، إلا أنه، وطبقا لتقرير طبي مستقل، أصيبت به عائلة ابن براهيم، إذ توفيت يسرى بسبب التهاب بكتيري ناتج عن لسعة بعوضة.
وفي 11 من يوليو عام 2019، وبعد سنوات من المعاناة، وتقدمِ قرابة 200 من سكان عقارب بشكاوى قضائية، صدر حكم المحكمة بغلق مصب القنة، وبعد أكثر من سنتين من صدور قرار المحكمة تم التنفيذ.
لكن إغلاق المصب، نتج عنه تراكم للنفايات في شوارع وأحياء الولاية، ولأكثر من 40 يوما، غابت فيها الحلول لأكبر أزمة فضلات في صفاقس، تقاطعت مع أزمة البيئة في عقارب، جراء مصب القنة.
تقول زهور الهلالي، المديرة العامة بوزارة البيئة التونسية، إن "الفضلات التي تراكمت في صفاقس، لازمنا نهزوها (يجب حلها)، ومش معقول أنها تقعد متراكمة، هذا السبب، إلى خلانا نعلنوا (وهذا ما دفعنا إلى الإعلان) عن استئناف نشاط مصب القنة بعقارب، هو مصب مراقب، وتنجم تقول (ومن الممكن القول) إنه تسكر (أغلق) بطريقة تعسفية".
وأشعل القرار نار الاحتجاجات في عقارب التي تطورت إلى مواجهات مع قوات الأمن.
يقول شكري البحري، عضو مجلس النواب التونسي المنحل عن دائرة عقارب، "كل أهالي عقارب خرجوا في الحراك، كل الناس خرجت، باش (كي) تقول 'لا للنفايات، نعم لتطبيق الاتفاقيات، والقرارات القضائية، والقرارات البلدية'. نحن كنا دائما ندافع عن بيئة نظيفة. إذا خرجنا للشارع وقلنا 'لا'، الشيء الذي حدث، عملية فتح بالقوة، وأدى إلى نتائج كارثية".
وفي 9 نوفمبر من عام 2021، وخلال المواجهات في عقارب، توفي عبد الرزاق لشهب، ونفت وزارة الداخلية التونسية علاقته بالاحتجاجات، وقالت إن الوفاة حدثت في منزله البعيد عن مناطق التظاهر".
لكن عائلته تصر على أنه مات مختنقا بالغاز المسيل للدموع الذي أطلقته الشرطة.
يقول عبد العزيز لشهب، شقيق عبد الرزاق: "مصدقتش (لم أصدق) إن هو طاح، دورت فيه هاكا، راهو يشخر! مخنوق! (رأيته وهو يختنق) ياك الزبلة صبيتها، ومزال تلاحق في العباد! معناها تحب تقتلهم انت! معاناتها الزبلة تتصب في المصب أغلى من العباد! (معنى ذلك أن النفايات أغلى من العباد)".
وفي غضون أيام من اندلاع الاحتجاجات، وصل صدى أزمة عقارب إلى الرئيس التونسي، قيس سعيد، فاستقبل نشطاء من حملة "مانيش مصب".
ويقول شكري البحري، عضو مجلس النواب المنحل عن دائرة عقارب،:"تلقينا دعوة من سيادة رئيس الجمهورية باش نفهموه (كي نفهمه)، ونوصلوا (ونوصل إليه) صوت أهالي عقارب، ومشكلتهم الدائمة مع النفايات، إذا، تفهّم الوضع، تفهم الطلبات، سيادة الرئيس مشكورا، وتعهد لنا، (أن) نعيد اجتماعا مع السيدة وزيرة البيئة، ومع سيادته في ظرف نهارين (يومين)، لإيجاد حل نهائي لمنصب النفايات بالقنة".
وبعد أيام من لقاء الرئيس، أغلق مصب القنة نهائيا، لكن البعض يرى أن أزمة التلوث في عقارب، وفي تونس كلها لم تنته بعد.
يقول حمدي شبعان، الخبير في تدوير النفايات: "أغلق مصب بصفاقس، لكن ليس هناك حل، على الأقل فيما هناك حل جزئي، لمصب شبه مراقب أو عشوائي منظم، وتشوبه كثير من التساؤلات أيضا، لكن في صفاقس اليوم تقريبا، ثمة هناك مئات من المصبات العشوائية، بمدخل المدينة صفاقس على جميع النواحي ككل، روائح كريهة، هذا بالنسبة لي، كمختص في مجالي، ليس إنجازا صحيحا، قضية بيئية ربحت من طرف المجتمع المدني في غلق المصب، لكنها أحدثت 100 مصب آخر، و100 مشكلة أخرى، وهذا ليس حلا".
وتفاقمت مشكلة التعامل مع النفايات في هذا البلد المغاربي، في منتصف عام 2020، بوصول أطنان من المخلفات المنزلية القادمة من أوروبا.
- المصدر: موقع "الحرة"