مطرح للنفايات بتونس- أرشيف

تضمن الدولة التونسية الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ بحكم دستور البلاد، لكن ناشطين يشتكون نقص الإرادة السياسية لتحقيق ذلك.

ويسلط برنامج "الحرة تتحرى" الضوء على محاربة التلوث البيئي في تونس وهو منصوص عليه في الفصل 47 من الدستور التونسي.

تونس ... الملقبة بـ "الخضراء" 

كانت تونس بلدا سباقا، عربيا وأفريقيا، في الانضمام للعديد من الاتفاقيات الدولية للحفاظ على البيئة ومنع التلوث.

الاتفاقيات الدولية عززتها دساتير البلاد، وآخرها الصادر، في أغسطس من عام 2022.

يقول حمدي شبعان، الخبير في تدوير النفايات، إن دستور عام 2022، كان واضحا في المسائل البيئية، "ما ينقصنا هو الإرادة السياسية الفعلية من طرف السياسيين المتواجدين اليوم في صلب الحكم".  

وانعكست مشاكل البلاد السياسية والاقتصادية في أزمة بيئية غير مسبوقة، نتيجة تراكم النفايات المنزلية والصناعية داخل المصبات.

يقول منير حسين، عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية: "نحن لا نعالج النفايات، بل نقوم بنقلها من الأوساط الحضرية القوية، المدن، إلى غير ذلك. ونلقي بها في مصبات، عادة ما يتم اختيار الموقع بجانب مجموعات سكانية صغيرة، لا تملك الإمكانيات السياسية، والإمكانيات المادية للدفاع عن حقوقها". 

وتشير مبروكة ابن براهيم، مواطنة مقيمة في مدينة عقارب، إلى أن سكان المنطقة لم يواجهوا مشاكل حتى اتخذ القرار بتحديد منطقتهم كمكب للنفايات، وتقول: "(كنا) عايشين لا بأس علينا، نقعدوا برا (في الخارج) ونمشوا، لا عندنا ريحة فيتور، ولا عندنا ريحة دخان، ولا ريحة ازبل (نفايات)، ما عندناش، حتى جانا هذا المصب". 

يقول شبعان،  إن عدم الاستقرار السياسي، هو الذي جعل موضوع النفايات في تونس "ما يتطورش".

ويضيف حسين أن "الشركات الكبرى هي التي تسيطر على أغلب المصبات، وتستخلص أموالا ضخمة جدا، وهذه المشاريع، مشاريع المصبات، تقريبا (تشكل) تكلفة على الدولة، أموالا ضخمة جدا، دون أن تقوم بتجويد (بتحسين) الواقع البيئي". 

وبحلول منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبغرض مراقبة التصرف في النفايات وإزالتها اعتمد البرلمان التونسي آنذاك قانونا جديدا. 

وينص "القانون 41" في الدستور التونسي على "تثمين النفايات عن طريق إعادة الاستعمال والتحويل، وكل الأعمال الأخرى الرامية إلى استخراج المواد القابلة لإعادة الاستعمال، ولاستخدامها كمصدر للطاقة، وتخصيص مصبّات مراقبة لإيداع النفايات المتبقية، أي بعد استيفاء كل مراحل التثمين الممكنة".

وبعد عام على صدور "القانون 41"، شرعت الحكومة التونسية في إنشاء مصبات مراقبة وصل عددها اليوم إلى عشرة، لكن الحال تغير بعد عام 2011.

ويقول محمد تومي، مسؤول سابق بالوكالة الوطنية للتصرف في النفايات: "في تونس حاليا نعيش أزمة، والأزمة هذه، على الأقل منذ ثماني أو تسع سنوات، ما بعد الثورة بالضبط، أصبحت مشكلة النفايات أزمة". 

ويوضح أنه "قبل الثورة، كان هناك برنامج مُسطّر، فبعد الثورة، المركز الوحيد لمعالجة النفايات الخطرة تم إغلاقه، وبالتالي، وليت (أصبحت) كل النفايات الخطرة تُرمى في المحيط".  

وطبقا لمؤشر الأداء البيئي لعام 2022 الصادر عن جامعة ييل الأميركية، تحتل تونس مستويات متدنية في مجال التعامل مع النفايات، وإعادة تدويرها ضمن 180 دولة شملها التقرير.

تقول بثينة الغانمي، نائبة رئيس لجنة الصناعة والبيئة في البرلمان التونسي المنحل: "هناك مصبات لم تعد مؤهلة، لأنها تحوي الكم الهائل من الفضلات، التي تعد متنوعة، يمكن أن تثمّن هذه النفايات، ويعني يتم استغلالها وتصبح ثروة، لكن الآليات والإمكانيات ربما تفوق توازنات (ميزانيات) وإمكانيات الدولة". 

وبعدد سكان تعدى 12 مليون نسمة، ووفقا لأرقام الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات لعام 2023، تنتج تونس سنويا حوالي 2.6 مليون طن من المخلفات.

وفي تقرير الوكالة التونسية للتصرف في النفايات، فإنه وفقا للدراسات، تتميز هذه النفايات بنسبة عالية من المواد العضوية تتجاوز 60 في المئة، وبنسبة عالية من الرطوبة تتراوح بين 65 و70 في المئة. 

ويرى تومي أن تكلفة حرق تلك النفايات أعلى مما يمكن الاستفادة منه في حال إعادة تدويرها وفرزها، وقال: "مثلا نحن، تونس العاصمة وما جاورها، المواد العضوية في حدود 68 في المئة"، موضحا "معناها ماعدش تعمل (لم نعد نعمل) عملية الفرز، كل شي يوقف، باش تقول إنت تشد الكتلة ككل، ونقول نحرقه، باش (من أجل أن) نخرج طاقة، ما تجيبش تخرج الطاقة، على خاطر، تكلفة الحرق أغلى من الي باش تنتج (الذي يمكن أن ينتج) الطاقة".  

ودفع ازدياد حجم المخلفات سنويا، وكون معظمها غير قابل لإعادة التدوير، الجهات المختصة للجوء لطرق يراها خبراء لا تحافظ على البيئة.

يقول شبعان،"طمر النفايات شر لا بد منه، لكن كم كمية النفايات التي توضع بالمصبات؟ نحن في تونس نردم تقريبا 95 في المئة من جميع النفايات. في الدول الغربية اليوم وصلوا لخمسة في المئة".

وامتنعت الجهات الرسمية عن إجابة تساؤلات "الحرة تتحرى".

يقول تومي، الذي عمل سابقا كرئيس لمديرية التصرف في النفايات في الوكالة الوطنية: "بالنسبة للنفايات المنزلية والمشابهة، ما هيش (ليست) الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات فقط المسؤولة، على خاطر (لأن) النفايات المنزلية والمشابهة تتبع البلديات، هما المسؤولان مباشرة، وهنا، هناك تضارب في القوانين، من يفعل ماذا؟ بعد الثورة كل واحد يقول لك: 'أنا خاطيني (لا علاقة لهذا بي)، ويرمي الكرة للآخر'".

وطبقا لوسائل إعلام محلية، تحتكر شركات "سيغور" و"إيكوتي" و"فاليس" تشغيل كل مصبات النفايات القانونية في البلاد، والبالغ عددها عشرة، مقابل عقود سنوية تبلغ قيمتها 24 مليون دولار أميركي.

ويقول موقع مرصد مجلس النواب التونسي: "ثبت بأن الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات لا تحكم عملية تحديد احتياجاتها، سواء على المستوى الكمي أو النوعي، ويظهر ذلك من خلال التعديل في حاجياتها، وبعد الإعلان عن كراسات الشروط، وبعد الإعلان عن المنافسة.

ويضيف "كذلك شابت كراسات الشروط العديد من النقائص، التي ساهمت في توجيه طلبات العروض نحو مزودي أو مُقدّمي خدمات معينين". 

ويقول شبعان: "عندما يُطلب، 30 مليون دينار للاشتراك في الصفقة، من هي الشركة التي تستطيع أن تنافس الشركات الكبرى (فيما يخص) مجال الخبرة؟ متواجدة في الغرب وليست متوفرة في تونس، وأغلب الشركات هي شركات فرنسية أو إيطالية، متواجدة في تونس، ليست شركات تونسية 100 في المئة، يعني كراسة شروط على المقاس".

حاولت قناة "الحرة" التواصل مع شركات"سيغور" و"إيكوتي" و"فاليس" للتعليق على الأمر، دون رد.

لأكثر من عقدين، ووفقا لأرقام رسمية، أدت عمليات طمر النفايات المستمرة في تونس إلى امتلاء المصبات المرخصة خاصة مع عدم إنشاء أي أماكن جديدة خلال العشر سنوات الماضية.

يقول شبعان إن "برج شكير تجاوز تقريبا 23 سنة في استغلاله"، مشيرا إلى أنه تجاوز أصلا عمره الافتراضي، "إلا أن الدولة التونسية ما تزال متمسكة باستغلال برج شكير، وبنفس الطريقة منذ 23 سنة بدون أي تغيير".

ووفقا لدراسات بحثية يتسبب طمر النفايات العضوية في تلوث كبير لعناصر البيئة: الماء والهواء والتربة".

وفي دراسة أجرتها جامعة كولورادو الأميركية، "يُطلِق تحلل الكتلة العضوية في مدافن النفايات غاز الميثان، الذي يعتبر أكثر فاعلية بمقدار 84 مرة في امتصاص حرارة الشمس من ثاني أكسيد الكربون، مما يجعله أحد أكثر الغازات مساهمة في الاحتباس الحراري وتغير المناخ".

وأضافت "في المتوسط، تقلل مدافن النفايات الكبيرة من قيمة الأراضي المجاورة لها بنسبة 12.9 بالمئة، وتتسبب في مخاطر مثل الروائح والدخان والضوضاء والحشرات وتلوث إمدادات المياه".

ويقول دكتور  هشام العيسى، وهو متخصص في الأمراض السرطانية: "لاحظنا (في) المناطق القريبة من المصبات في صفاقس، نسبة حدوث مرضى (الإصابة بـ) السرطان ما بين 10 و20 في المئة أكثر من الولايات الأخرى".

ونوه إلى أنه تنبه إلى أن الحالات التي ازدادت في المناطق التي تضم مكبات النفايات، "هي أمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب وأمراض نقص المناعة، والتشوهات الخلقية لدى الأطفال حديثي الولادة. زيادة (بالإضافة إلى) طفرات جينية، تؤدي إلى مرض مقاوم للعلاج". 

مصب صفاقس

واستقبل مصب النفايات الرئيسي لولاية صفاقس، المعروف باسم "مصب القنة"، أكثر من 600 طن من النفايات يوميا، حتى أواخر عام 2021.

وفي تقرير لجمعية نواة التونسية للصحافة المستقلة، في أكتوبر عام 2018،  أصدرت الوكالة الوطنية لحماية المحيط تقريرا عقب حملة لقياس جودة الهواء بمعتمدية عقارب، أثبت أن التلوث في الهواء تجاوز الحدود المتعارف عليها، خاصة بالنسبة للغبار، ولسولفيد (كبريتيد) الهيدروجين، وأرجع التقرير هذا التلوث إلى احتمال تسبب مصانع هناك في التلوث، إضافة إلى مصب القنة. 

يقول سامي البحري، الناشط بحركة "مانيش مصب": "ثما (هنالك) كوكتيل من الروائح في عقارب من (بسبب) المصب، من المعامل، من الميثان، هو الذي فاقم المشاكل الصحية، مسّنا في صحتنا معناتها، التقارير بتاع الهواء التي عملتها الـ ANPE، خرجت قالت راه (انظروا) يا ناس، الهواء بتاع (في) عقارب راه ملوث، وعملت صيحة فزع، راه (انظروا) الهواء هنا مسموم". 

وإضافة إلى مشكلة تلوث الهواء في عقارب، عانى السكان من أضرار أخرى للمصب، إذ تشير مبروكة ابن ابراهيم إلى أن بعض السكان تعرضوا للسعات الحشرات ولدغات الأفاعي.

وعلى بعد أمتار من مصب القنة، تقيم مبروكة، وابنتها يسرى، التي تدهورت حالتها الصحية، في خريف عام 2019، إثر لسعة بعوضة، ونقلت للمستشفى. 

وتقول مبروكة إن الأطباء المشرفين على ابنتها منعوها من رؤيتها، مشيرين إلى أنها تعرضت لجرثومة معدية ينقلها البعوض.

تقول سميرة العبيدي، المدير العام للتراتيب والنظافة بوزارة البيئة التونسية: "صحيح الأيام هذه، وبعد مرة المطر ومرة السخانة (نشهد أمطارا تارة وموجات الحر تارة)، معمول به (من الطبيعي) إنه تكثر الحشرات، وتكثر الناموس، واللدغة بتعها راه غير طبيعية، لكن نحب (أن) نؤكد واطمئن المواطنين، معندناش (لا تتواجد لدينا) النواقل هذه بتاع الأمراض الخطيرة".

ورغم نفي مسؤولي وزارة البيئة التونسية تواجد أي نوع خطير من الحشرات في البلاد، إلا أنه، وطبقا لتقرير طبي مستقل، أصيبت به عائلة ابن براهيم، إذ توفيت يسرى بسبب التهاب بكتيري ناتج عن لسعة بعوضة. 

وفي 11 من يوليو عام 2019، وبعد سنوات من المعاناة، وتقدمِ قرابة 200 من سكان عقارب بشكاوى قضائية، صدر حكم المحكمة بغلق مصب القنة، وبعد أكثر من سنتين من صدور قرار المحكمة تم التنفيذ.   

لكن إغلاق المصب، نتج عنه تراكم للنفايات في شوارع وأحياء الولاية، ولأكثر من 40 يوما، غابت فيها الحلول لأكبر أزمة فضلات في صفاقس، تقاطعت مع أزمة البيئة في عقارب، جراء مصب القنة. 

تقول زهور الهلالي، المديرة العامة بوزارة البيئة التونسية، إن "الفضلات التي تراكمت في صفاقس، لازمنا نهزوها (يجب حلها)، ومش معقول أنها تقعد متراكمة، هذا السبب، إلى خلانا نعلنوا (وهذا ما دفعنا إلى الإعلان) عن استئناف نشاط مصب القنة بعقارب، هو مصب مراقب، وتنجم تقول (ومن الممكن القول) إنه تسكر (أغلق) بطريقة تعسفية".

وأشعل القرار نار الاحتجاجات في عقارب التي تطورت إلى مواجهات مع قوات الأمن.  

يقول شكري البحري، عضو مجلس النواب التونسي المنحل عن دائرة عقارب، "كل أهالي عقارب خرجوا في الحراك، كل الناس خرجت، باش (كي) تقول 'لا للنفايات، نعم لتطبيق الاتفاقيات، والقرارات القضائية، والقرارات البلدية'. نحن كنا دائما ندافع عن بيئة نظيفة. إذا خرجنا للشارع وقلنا 'لا'، الشيء الذي حدث، عملية فتح بالقوة، وأدى إلى نتائج كارثية". 

وفي 9 نوفمبر من عام 2021، وخلال المواجهات في عقارب، توفي عبد الرزاق لشهب، ونفت وزارة الداخلية التونسية علاقته بالاحتجاجات، وقالت إن الوفاة حدثت في منزله البعيد عن مناطق التظاهر".

لكن عائلته تصر على أنه مات مختنقا بالغاز المسيل للدموع الذي أطلقته الشرطة.

يقول عبد العزيز لشهب، شقيق عبد الرزاق: "مصدقتش (لم أصدق) إن هو طاح، دورت فيه هاكا، راهو يشخر! مخنوق! (رأيته وهو يختنق) ياك الزبلة صبيتها، ومزال تلاحق في العباد! معناها تحب تقتلهم انت! معاناتها الزبلة تتصب في المصب أغلى من العباد! (معنى ذلك أن النفايات أغلى من العباد)".

وفي غضون أيام من اندلاع الاحتجاجات، وصل صدى أزمة عقارب إلى الرئيس التونسي، قيس سعيد، فاستقبل نشطاء من حملة "مانيش مصب".

ويقول شكري البحري، عضو مجلس النواب المنحل عن دائرة عقارب،:"تلقينا دعوة من سيادة رئيس الجمهورية باش نفهموه (كي نفهمه)، ونوصلوا (ونوصل إليه) صوت أهالي عقارب، ومشكلتهم الدائمة مع النفايات، إذا، تفهّم الوضع، تفهم الطلبات، سيادة الرئيس مشكورا، وتعهد لنا، (أن) نعيد اجتماعا مع السيدة وزيرة البيئة، ومع سيادته في ظرف نهارين (يومين)، لإيجاد حل نهائي لمنصب النفايات بالقنة".  

وبعد أيام من لقاء الرئيس، أغلق مصب القنة نهائيا، لكن البعض يرى أن أزمة التلوث في عقارب، وفي تونس كلها لم تنته بعد.

يقول حمدي شبعان، الخبير في تدوير النفايات: "أغلق مصب بصفاقس، لكن ليس هناك حل، على الأقل فيما هناك حل جزئي، لمصب شبه مراقب أو عشوائي منظم، وتشوبه كثير من التساؤلات أيضا، لكن في صفاقس اليوم تقريبا، ثمة هناك مئات من المصبات العشوائية، بمدخل المدينة صفاقس على جميع النواحي ككل، روائح كريهة، هذا بالنسبة لي، كمختص في مجالي، ليس إنجازا صحيحا، قضية بيئية ربحت من طرف المجتمع المدني في غلق المصب، لكنها أحدثت 100 مصب آخر، و100 مشكلة أخرى، وهذا ليس حلا". 

وتفاقمت مشكلة التعامل مع النفايات في هذا البلد المغاربي، في منتصف عام 2020، بوصول أطنان من المخلفات المنزلية القادمة من أوروبا.

مواضيع ذات صلة

العنف الرقمي يشمل التحرش والابتزاز والتنمر والتمييز والسب والقذف
العنف الرقمي يشمل التحرش والابتزاز والتنمر والتمييز والسب والقذف

"أتمنى من الله أن يعجل بموتي حتى لا أعيش في هذا العذاب"، هكذا بدأت نعيمة حديثها لـ"الحرة"، وهي تصف الصدمة العميقة التي اجتاحت عائلتها بعد تعرض ابنتها القاصر مريم لابتزاز رقمي إثر نشر فيديو اعتداء ومحاولة اغتصاب لها عبر تطبيق التواصل الفوري "واتساب".

نعيمة (44 سنة)، أم لولد وثلاث بنات بمدينة الدار البيضاء، وجدت نفسها في مواجهة أزمة تفوق قدرتها على التحمل وغارقة في دوامة اليأس والقلق وهي تشاهد حياة أسرتها تنهار أمام عينيها، حيث بدأت مأساتها عندما أخذ شاب رقم هاتف ابنتها مريم عنوة أثناء اشتغالها كبائعة متجولة لشرائح الهاتف، وأصبح يضايقها رغم محاولاتها التخلص منه، وانتهت بالاعتداء عليها وتصويرها في وضع مهين، ما أدى إلى انهيارها النفسي وعزلتها عن العالم.

ورغم تقديم نعيمة لشكوى ضد الشاب الذي عنف ابنتها وحاول اغتصابها وتم الحكم عليه مؤخرا بالسجن لثلاث سنوات، إلا أن معاناة الأم المكلومة لا تزال متواصلة بعد أن تسبب الفيديو الذي أرسله الجاني إلى أخت مريم في تفكيك كامل للأسرة، زوجها هجرها وابنها الأكبر ترك المنزل، ومريم تزوجت عرفيا بشاب آخر وعدها بكتابة عقد الزواج عند إتمامها السن القانوني (18 سنة).

تعيش نعيمة اليوم مع ابنتيها المتبقيتين في حالة من الصدمة والاضطرابات النفسية، تتنقل بين المستشفى ومحاولات العمل لتوفير لقمة العيش، وتخشى نشر الفيديو على المنصات الاجتماعية أمام تهديدات مستمرة لأخ الجاني، معتبرة أن حياة أسرتها مرهونة بحجب هذا الفيديو مما يعمق معاناتها.

انتقام وتهديد
كما هو الحال مع مريم، نجد في قصة نجوى (19 سنة) نموذجا آخر لامرأة اختارت مواجهة العنف الرقمي بعد أن تعرضت لمحاولة اغتصاب من طرف شاب تعرفت عليه وعمرها يصل 16 سنة، فاضطرت للزواج من المعتدي تحت ضغوط اجتماعية رغم عدم تحرير عقد زواج رسمي بسبب سنها غير القانوني.

لم تنته معاناة نجوى بعد انتقالها إلى بيت زوجها، بل تحولت إلى حلقة من العنف الجسدي والنفسي، بالإضافة إلى تصويرها سرا وهي تغير ملابسها وفي وضعيات حميمية معه، وبعد بلوغها 18 سنة تم توثيق الزواج لكن سرعان ما طردها زوجها من المنزل وهي حامل، مهددا إياها بنشر فيديوهاتها إذا لم تتقدم بطلاق اتفاقي والتنازل عن حقوقها.

تقول نجوى لـ"الحرة": "رفضت الخضوع لابتزازه رغم الظروف الصعبة بعد الإنجاب والعيش مع أسرتي الفقيرة القاطنة بإحدى بيوت دور الصفيح، إذ رفعت دعوى قضائية ضده وتم اعتقاله لسبعة أشهر إلى أن تنازلت عن الدعوى بعد تسوية مع عائلته بأداء واجبات النفقة والحضانة، لكن التهديدات استمرت بعد الإفراج عنه ورفض أداء مستحقاتي".

لا تزال نجوى تواجه الابتزاز الرقمي من زوجها وتقف عاجزة على رفع دعوى قضائية جديدة بسبب ظروفها المادية الصعبة، مشيرة إلى أنها تعيش وضعا من اليأس والاكتئاب والخوف المستمر بعد أن أصبح هاتفها رمزا للرعب إذ في أي لحظة قد تنشر تلك الصور لتدمر ما تبقى من حياتها.

التفكير في الانتحار
وفي الوقت الذي قررت مريم ونجوى التبليغ ضد العنف الرقمي، فإن أغلب النساء في المغرب مازلن يترددن في اتخاذ هذه الخطوة مخافة الوصم الاجتماعي، وهو ما حصل مع قصة هدى (26 سنة)، وهي طالبة في السنة الأخيرة بشعبة الطب والصيدلة، حيث تعيش تجربة قاسية مع العنف الرقمي الذي قلب حياتها رأسا على عقب.

وفي حديثها لـ"الحرة"، تحكي هدى أنها كانت على علاقة عاطفية لمدة ثلاث سنوات مع شاب يبلغ من العمر 29 سنة، يشتغل في مركز اتصال بمدينة المحمدية، وتقول "رغم أنني كانت على علاقة رضائية معه إلا أنني قررت إنهاءها للتركيز على دراستي، لكنه لم يتقبل ذلك وبدأ يهددني بنشر فيديو جنسي سجله لي دون علمي".

وتوضح هدى أن التهديدات كانت موجهة إلى أسرتها ومعارفها على منصات التواصل الاجتماعي وتخاف أن تدمر سمعتها المهنية كمستقبل طبيبة، منبهة إلى أنها "تحولت من شابة مفعمة بالحياة ومقبلة على مهنة إنقاذ الأرواح إلى شابة مكتئبة تعيش في السواد وتفكر في الانتحار".

رغم رغبتها في تقديم شكاية، تخشى هدى من اتهامها بالفساد نظرا لتجريم القانون الجنائي للعلاقات الرضائية، ولا تزال مترددة في اتخاذ هذه الخطوة، مكتفية بالبوح وكسر حاجز الصمت مما وفر لها بعض الارتياح بعيدا عن أحكام المجتمع القاسية، بحسب تعبيرها.

أرقام مقلقة
في السنوات الأخيرة، نبهت تقارير رسمية وحقوقية إلى تنامي معدلات العنف الرقمي ضد النساء بالمغرب، إذ سجل المجلس الوطني لحقوق الإنسان (رسمي) في دراسة أجراها عام 2023 وشملت 180 حكما قضائيا تتعلق بقضايا العنف ضد النساء، بأن العنف الرقمي يتصدر قائمة أشكال العنف التي تتعرض لها النساء بنسبة 33٪.

وذكر تقرير للمندوبية السامية للتخطط (مؤسسة رسمية) صدر خلال مارس من العام الماضي، أن قرابة 1.5 مليون امرأة تعرضن للعنف الرقمي إما بواسطة الرسائل الإلكترونية أو المكالمات الهاتفية أو الرسائل النصية، بينما تؤكد معطيات المديرية العامة للأمن الوطني وجود ارتفاع في عدد الشكايات المتعلقة بالعنف ضد النساء والفتيات بواسطة التكنولوجيا الحديثة، إذ سجلت 622 شكاية عام 2019 و761 عام 2020.

وسجلت دراسة أعدتها جمعية "التحدي للمساواة والمواطنة" تزايد العنف الرقمي خلال الخمس سنوات الأخيرة (سبتمبر 2018 إلى غاية سبتمبر 2023)، موضحة أن العنف الرقمي يمارس في معظم الحالات من قبل الأشخاص المقربين من الضحية بما في ذلك الزوج (14٪) والمقربون بنسبة 36٪، وأن وسائل التواصل الاجتماعي هي الأكثر استخداما في ممارسة العنف الرقمي ضد المرأة بنسبة 70.2٪ من إجمالي وسائل التواصل التي تم استخدامها.

وبحسب الجمعية، فإن العنف الرقمي هو "كل عمل من أعمال العنف ضد المرأة التي تستخدم في ارتكابه أو تساعد عليه أو تزيد من حدته جزئيا أو كليا تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كالهواتف المحمولة والذكية أو الانترنت أو منصات التواصل الاجتماعي أو البريد الالكتروني، ويستهدف المرأة أو يؤثر في النساء بشكل غير متناسب".

"أكثر تعقيدا"
وتعتبر منسقة مراكز الاستماع بجمعية "تحدي المساواة والمواطنة"، رجاء حمين، أن العنف الرقمي ضد النساء هو "أخطر أنواع العنف ضد المرأة وأكثر تعقيدا من أشكال العنف التقليدية وأعمقها أثرا حيث ينتشر بسرعة وغير محدود في الزمان والمكان"، مشيرة إلى أنه يشمل التحرش والابتزاز والتنمر والتمييز والسب والقذف والتهديد بنشر صور حميمة وأنه يبقى مفتوحا على أشكال أخرى أمام التطور التكنولوجي.

وتؤكد حمين في حديثها لـ"أصوات مغاربية"، أن هذا العنف لا يقتصر على فئة عمرية أو اجتماعية محددة، بل يستهدف نساء وفتيات من مختلف الأعمار والشرائح الاجتماعية، بما في ذلك المتزوجات اللواتي يتعرضن للابتزاز والتهديد بنشر صورهن الحميمية من أجل التنازل عن حقوقهن في النفقة أو حضانة الأطفال.

وتشدد الناشطة الحقوقية على ضرورة تعزيز التوعية والتحسيس في ظل التنامي المهول لهذه الظاهرة بسبب انتشار الأمية الرقمية، داعية إلى تشجيع الضحايا على التبليغ عن الجرائم التي يتعرضن لها "لأن الصمت يشجع الجناة على الإفلات من العقاب واستهداف ضحايا جدد".

وبشأن تداعيات العنف الرقمي، تقول المتحدثة ذاتها إنه "يدمر حياة الأسر ويصعب علاج آثاره النفسية التي تصل إلى حد انتحار الضحايا أو أقربائهم"، مؤكدة أنه لا يمكن الحديث عن ناجيات من هذا العنف في غياب أي ضمان لإعادة نشر مثلا تلك الصور أو مقاطع الفيديو على المواقع الرقمية بعد مرور سنوات.

"أزمة قيم"
ومن جانبها، ترى عضوة "فيدرالية رابطة حقوق النساء"، خديجة تيكروين، أن البيئة الاجتماعية والثقافية بالمغرب تشكل تربة خصبة لانتشار العنف الرقمي ضد النساء، حيث تعامل المرأة كجسد ويطبع المجتمع مع العنف ضدها، سواء في الواقع أو الفضاء الرقمي.

وأوضحت تيكروين في تصريح لـ"أصوات مغاربية"، أن العديد من شهادات النساء ضحايا العنف الرقمي أظهرت قلة الوعي التقني والجهل بإدارة المحتوى الشخصي على وسائل التواصل الاجتماعي مما يعرضهن لخطر انتشار صورهن الخاصة بسبب ضعف أدوات الحماية، إضافةً إلى العقلية الاجتماعية التي غالبا ما تلقي باللوم على الضحية.

وفي هذا السياق، تحذر الناشطة الحقوقية أن هناك أزمة قيم اجتماعية باتت تساهم بارتفاع نسبة ضحايا العنف الرقمي عبر ما يتم ترويجه في تطبيقات ومنصات التواصل الاجتماعي مثل "تيك توك"، إذ تدفع الفتيات للتركيز على مظهرهن الخارجي كأداة لجذب الانتباه، ما يغير من نظرة المجتمع لهن كأفراد رغم أن الواقع والإحصائيات تشير إلى أن الفتيات متفوقات أكاديميا.

ويضيف المصدر ذاته، أن القوالب الثقافية السائدة تدين النساء بشكل مضاعف وتحد من الإبلاغ عن حالات الابتزاز الرقمي، خاصة عندما ينظر للنساء على أنهن مسؤولات عن تعرضهن للعنف، منبهة إلى تفاقم آثار العنف الرقمي ضد النساء في ظل غياب الدعم النفسي والمجتمعي الكافي لهن.

ضعف المعالجة الرقمية
وبدوره يؤكد الخبير في الأمن الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، أمين رغيب، استمرار تنامي العنف الرقمي ضد النساء بالمغرب بسبب الارتفاع المتزايد لمستخدمي المنصات الاجتماعية وتطور التكنولوجيات الحديثة وغياب الوعي بمخاطرها لاسيما في صفوف النساء، مشيرا إلى استغلال أدوات الذكاء الاصطناعي في توليد صور وفيديوهات غير حقيقية للضحايا مما يساهم في انتشار الظاهرة.

وينبه رغيب في حديثه لـ"أصوات مغاربية"، إلى أنه من الناحية التقنية يصعب القضاء على جريمة العنف الرقمي لأن الأمر لا يتعلق بحجب الفيديو حتى لا ينتشر أكثر وإنما لغياب ضمانات بعدم تخزينه ونشره لاحقا، مسجلا ضعف الاستجابة من منصات التواصل الاجتماعي أثناء الإبلاغ عن المحتوى المسيء لضحايا العنف الرقمي.

وفي هذا الصدد، يؤكد الخبير الرقمي على أهمية وعي النساء بمخاطر العالم الرقمي وضرورة وضع حدود واضحة للعلاقات خاصة ما يتعلق بتوثيق اللحظات ومشاركتها تجنبا للمشاكل المستقبلية، مقترحا أن يكون هناك ممثلون قانونيون لشبكات التواصل الاجتماعي في المغرب لتسهيل التعامل مع الشكاوى وحماية الضحايا بشكل أفضل.

ضعف الحماية القانونية
وأفادت المحامية والحقوقية، سعاد بطل، في تصريح لـ"أصوات مغاربية"، بأن الإطار القانوني في البلاد يجرم العنف ضد النساء بكل أشكاله مثل العنف النفسي والجسدي والاقتصادي، مستدركة "إلا أنه لم يشمل العنف الرقمي بنص صريح مما يجعل إثبات العنف الإلكتروني يمثل تحديا صعبا ويساهم في تنامي هذه الظاهرة".

وتسجل بطل في حديثها "ضعف الحماية القانونية لضحايا العنف الرقمي نظرا لغياب تعريف واضح في القانون وضعف تنفيذ العقوبات رغم كونها مخففة"، منتقدة ما جاء في القانون الجنائي من فصول غير رادعة لجريمة العنف الرقمي ضد النساء سواء من حيث الجزاء أو الحماية أو آليات التنفيذ.

وتشدد المحامية على ضرورة مراجعة المساطر القانونية التي تقف عاجزة في مكافحة هذه الظاهرة عبر تسهيل مسطرة التبليغ وحماية المبلغين وتشديد العقوبات وإنصاف الضحايا بتوفير مؤسسات الدعم النفسي للمواكبة والشعور بالأمان الثقة.

المصدر: موقع الحرة