عاد ملف "الأموال المنهوبة" إلى واجهة النقاش بالأوساط التونسية بعد "تراشق" بالبيانات، بين وزارة الخارجية التونسية والمنظمة الرقابية "أنا يقظ" المتخصصة في قضايا مكافحة الفساد المالي، في أعقاب إعلان الرئيس التونسي عن خطوات جديدة لمواجهة الجرائم الاقتصادية في البلاد.
وبعد بيان أول، انتقدت فيه المنظمة الرقابية غير الحكومية ما اعتبرته "الفشل الذريع" للسلطات التونسية في استرجاع الأموال المجمدة بالخارج، و"غياب سياسة واضحة" في التعامل مع الملف على المستوى الدبلوماسي الذي يعد من "الصلاحيات الحصرية" للرئيس، قيس سعيد.
ردت وزارة الخارجية التونسية على منظمة "أنا يقظ"، معتبرة أن بيانها "يؤكد بوضوح أجندتها السياسية التي ليست لها أية صِلة بالمصلحة المشروعة للشعب التونسي في استرداد هذه الأموال"، على حد تعبيرها.
وعبرت "أنا يقظ" عن استنكارها لـ"الحصيلة السلبيّة" لوزير الخارجية الذي كان "المعني الأول بالملف" بصفته المسؤول عن السياسات الدبلوماسية للبلاد، مشيرة أيضا إلى أنه "شغل قبلها منصب سفير تونس ببروكسيل ولدى الاتحاد الأوروبي، حيث جمدت أرصدة وأموال بن علي وعائلته".
واعتبرت الخارجية التونسية أن بيان المنظمة "يفضح سوء النية والجهل بالإجراءات القضائية والدبلوماسية"، كما "يقوّض مصداقية محرِّريه، وكذلك الأطراف الأجنبية التي تقف وراء هذه المنظمات والتي تواصل تمويلها ودعمها بشتى الوسائل".
وعادت المنظمة غير الحكومية للتفاعل مع رد الخارجية التونسية، معربة عن "استغرابها الشديد من المستوى الّذي أصبحت عليه الدبلوماسيّة التونسية التي أخذت الأمور بشكل شخصي، وأصبحت تعالج كبرياء الأشخاص عن طريق البلاغات الرسميّة للدولة التونسية".
وأضافت "أنا يقظ" في بيان، الجمعة، أنها تعمل على ملف استرجاع الأموال المنهوبة والمجمّدة بالخارج منذ سنة 2013، وأنّها طالما "كانت حريصة على التنبيه والإشارة إلى أهميّة العمل عليه"، داعية الوزارة إلى الإجابة على محتوى بيانها وتفسير "أسباب فشلها" منذ 2011، في تحقيق نجاحات تذكر في ملف الأموال المنهوبة".
"شروط غير بريئة"
وبعد مرور أكثر من 12 سنة على الثورة التونسية، لم تنجح الحكومات التونسية المتعاقبة منذ عام 2011، في استرداد الجزء الأكبر من الأموال المهربة من قبل عائلة بن علي وحاشيته، والتي تقدر مؤسسات رقابية بأنها تصل إلى 23 مليار دولار.
وكثفت السلطات التونسية خلال السنوات الأخيرة، جهودها من أجل استعادة الأموال المنهوبة سواء بالداخل والخارج، غير أن تعقيدات إدارية وقانونية، تحول دون إصدار أحكام نهائية بالإفراج، وفقا للرئاسة التونسية.
وبداية الأسبوع الجاري، استنكر الرئيس التونسي قيس سعيد، ما اعتبرها "الإجراءات المطولة والشروط غير البريئة للدول والمصارف التي توجد بها الأموال المنهوبة"، موضحا أن "بعضها يطلب حكما حضوريا ضد المتهمين في حين أنها تعلم أنهم فارون بالخارج".
وتابع بيان الرئاسة التونسية أن التجربة "أثبتت أن الأحكام التي يكتب لها أن تصدر في بعض الدول، لا تنفّذ إلا بعد عقود طويلة، ولا يسترجع الشعب الذي نهبت أمواله إلا بقية باقية من فتات".
وتتمركز معظم الممتلكات والأموال "المنهوبة" بكل من سويسرا وفرنسا وكندا وبلجيكا، بالإضافة إلى ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا ولبنان ولوكسمبورغ، بحسب ما كشفه البنك المركزي التونسي في عام 2015.
"عمليات معقدة"
القيادي في حزب التيار الديمقراطي، هشام العجبوني، يرى أن عمليات استعادة هذه الأموال "معقدة جدا"، لأن المتورطين في جرائم تهريبها أسسوا شركات واجهة وعمليات مالية جد معقدة يصعب من خلال تتبع هذه الأموال ورصدها، متأسفا لـ"تأخر حلحلة الملف مباشرة بعد الثورة".
بدوره، يشير الخبير الاقتصادي التونسي، رضا شنكدالي، إلى أن معالجة قضايا هذه الأموال كان ينبغي أن تتم في السنوات الأولى التي أعقبت الثورة التونسية، مشيرا إلى أن "المسألة أصبحت اليوم جد معقدة".
ويضيف شنكدالي أنه بعد كل هذه السنوات أصبح استرداد هذه الأموال "أكثر صعوبة"، في ظل نهاية الفترة التي أقرتها بعض الدول لإصدار قرارات قضائية برفع التجميد عن الأرصدة البنكية التي أعلنت عن حجزها بعد الثورة.
وأعادت لبنان إلى تونس مبلغ 28 مليون دولار هو رصيد، ليلى الطرابلسي، أرملة بن علي، في بنوك لبنانية في عام 2013، فيما يبقى إجمالي الأموال التي تم استردادها بعد الثروة غير معلن، وفقا لفرانس برس.
وكانت سويسرا ثاني بلد يعيد أموال منهوبة تطالب تونس باسترجاعها منذ الاطاحة بالنظام السابق، ولم يتجاوز حجم ما استردته الحكومة التونسية من سويسرا، 4 ملايين دولار، رغم أن حجم الأموال التي رفعت عنها السلطات السويسرية قرار التجميد، يصل إلى عشرات الملايين، بحسب وكالة فرانس برس.
وأشار سعيد، بحسب بيان الرئاسة التونسية، أنه "لو استرجع الشعب التونسي هذه الأموال التي بآلاف المليارات من الدينار، من حسابات بنكية وعقارات ومنقولات، لما عاش في هذه الأزمة المالية"، مبرزا أن "أموال الشعب عندهم وهم يريدون إقراضنا بشروطهم".
في هذا الجانب، يشدد الخبير الاقتصادي التونسي على أن الملف أخذ "حجما أكبر مما يستحق"، مضيفا أن "الوعود التي قدمت للشعب التونسي بشأنه هذه الأموال المنهوبة لا تعكس الواقع".
ويوضح المتحدث ذاته "حتى لو تمكنا من استردادها كلها فإنها لن تكون حلا ينهي الأزمة الحادة التي تمر منها البلاد"، مضيفا بإمكانها "تمويل احتياجات في ميزانية الدولة، وبعد أن تنتهي سنجد أنفسنا أمام نفس المشاكل الاقتصادية مرة أخرى".
"هروب إلى الأمام"
وأنشأ سعيد "اللجنة الوطنية للصلح الجزائي" في 2022 وعيّن في نوفمبر الماضي، أعضاءها وتتمثل مهامهم في إبرام صلح جزائي مع المتورطين في الفساد من رجال أعمال قبل ثورة 2011، والذين سبق أن أعدت الحكومة قائمة بأسمائهم في العام 2012.
ويقوم الصلح على إبرام اتفاق بين المتورطين والدولة على أساس استرجاع الأموال التي حصلوا عليها، مقابل إسقاط الملاحقة القضائية.
وتوظف الأموال المسترجعة في الاستثمارات في المناطق المهمشة في البلاد.
في هذا الجانب، يضيف الخبير الاقتصادي، أن "رجال أعمال تورطوا في هذه الجرائم انضموا حاليا إلى أحزاب وبينهم من دخل البرلمان"، إضافة إلى "آخرين توفوا وشركات أفلست"، ما جعل اللجنة التي أحدثها الرئيس، قيس سعيد، قبل سنة "لا تقوم بأدوارها".
ودعا الرئيس التونسي، الاثنين، بعد اجتماع مع محمد الرقيق، وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية، وعلي عبّاس، المكلف العام بنزاعات الدولة، إلى أن "يكون العمل الدبلوماسي موازيا للعمل القضائي"، كما طالب بطرح قضايا الأموال المنهوبة في إطار المنظمات الدولية الأممية والإقليمية لتوحيد مواقف الدول المتضررة من الاستيلاء على ثروات شعوبها.
السياسي التونسي، هشام العجبوني يضيف في تصريحه لموقع "الحرة"، أن معالجة الملف "كانت خاطئة" منذ البداية، موضحا أنه "كان ينبغي تكليف مكاتب محاماة دولية ومعروفة لمتابعة هذه الأموال والمطالبة بها، حيث لم يكن بإمكان السلطات أو الإدارة التونسية الخبرة الكافية للقيام بهذه العملية على أكمل وجه".
وينتقد المتحدث ذاته توجه الرئيس قيس سعيد لـ"بناء كل سرديته على استرجاع الأموال المنهوبة وبيع الأوهام ودغدغة المشاعر"، موضحا أن "هذه خطوات للتغطية عن الفشل الاقتصادي وغياب الحلول للمشاكل التي تعرفها البلاد".
وتونس، المثقلة بديون تناهز 80 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي، حصلت على موافقة مبدئية من صندوق النقد الدولي في منتصف أكتوبر الماضي للحصول على قرض يقارب ملياري دولار، لكن المفاوضات متعثرة منذ ذلك التاريخ لعدم وجود التزام واضح من السلطات بتنفيذ برنامج الإصلاحات الهيكلية.
في هذا الجانب، يشير السياسي التونسي إلى أن على الدولة التونسية التركيز على تنمية الاقتصاد المحلي وإحداث مناصب عمل وبناء اقتصاد يخلق الثروة، و"ليس مواصلة الهروب إلى الأمام وبيع الأوهام للشعب التونسي".
المصدر: الحرة/خاص