الجيش الفرنسي
جنود فرنسيون بالجزائر في إحدى العمليات العسكرية خلال مرحلة الاستعمار

ترفض السلطات الرسمية الفرنسية الاعتراف بأحداث القمع والقتل بالجزائر خلال فترة الاحتلال (1830-1962) كـ"جريمة دولة"، وتحمّل مسؤوليتها لأشخاص خدموا في جيشها أو شرطتها أو أي من مصالحها الأمنية والعسكرية وتصفها بـ"العمل الفردي المعزول".

فما الذي يجعل فرنسا ترفض تحمل مسؤولياتها التاريخية في الجزائر كدولة، خصوصا وأنها اعترفت عبر برلمانها سنة 2005 بقانون سمي "قانون تمجيد الاستعمار"؟ 

اعترافات خارج مسؤولية الدولة!

فأمس الخميس، تبنت الجمعية الوطنية الفرنسية (الغرفة السفلى للبرلمان) قرارا "يندد بالقمع الدامي والقاتل في حق الجزائريين، تحت سلطة مدير الشرطة موريس بابون في 17 أكتوبر 1961" في باريس، والذي قتل فيه بين ثلاثين وأكثر من 200 متظاهر سلمي، بحسب مؤرخين.

ولم ترد عبارة في نص قرار الاعتراف بهذه الحداث جملة "جريمة دولة"، وهو النص الذي تطلبت صياغته نقاشات متكررة مع الرئاسة الفرنسية، وفق ما جاء في برقية لوكالة الأنباء الفرنسية.

وليست هذه المرة الأولى، التي تعترف فيها فرنسا بأحداث 17 أكتوبر 1961، عندما تعرض نحو 30 ألف جزائري جاؤوا للتظاهر سلميا في باريس ضد احتلال فرنسا لبلادهم، لقمع عنيف من الشرطة. 

ففي أكتوبر 2021، اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بهذه الأحداث، لكنه قال إنها "جرائم ارتكبت تحت سلطة قائد شرطة باريس موريس بابون"، ووصفها بأنها "لا تغتفر بالنسبة للجمهورية".

وفي سبتمبر 2018 أقرّت فرنسا بأنها اعتمدت "نظاما" بالجزائر استخدم فيه "التعذيب"، وسلم الرئيس إيمانويل ماكرون إعلانا لأرملة أستاذ الرياضيات الفرنسي موريس أودان، المناضل في صفوف الثورة الجزائرية، يطلب فيه منها "الصفح"، بعدما ظلت الحكومات الفرنسية تتكتم على مصيره منذ اختفائه عقب اعتقاله من طرف وحدات الجيش الفرنسي العام 1957، لكنه لم يرد في الإعلان الذي تسلمته جوزيت أودان عبارة "جريمة دولة"، رغم اعتراف الرئيس الأسبق فرانسوا هولاند في 2014 بأن أودان "مات قيد الاعتقال".

وفي مارس 2021 اعترف الرئيس ماكرون بأنّ المحامي والزعيم القومي الجزائري علي بومنجل "تعرّض للتعذيب والقتل" على أيدي الجيش الفرنسي العام 1957، وأنه لم ينتحر كما حاولت باريس تصوير الجريمة في حينه، دون أن ترد عابرة "جريمة دولة" في الاعتراف.

وقبل ماكرون أحيى الرئيس فرنسوا هولاند في العام 2012 "ذكرى ضحايا القمع الدامي" الذي تعرض له هؤلاء المتظاهرون من أجل "الحق في الاستقلال"، واعترف في خطاب أمام البرلمان الجزائري بغرفتيه بـ"جرائم الاستعمار" دون أن ينسبها للدولة الفرنسية.

وفي فبراير 2005 صادق البرلمان الفرنسي بغرفتيه على "قانون تمجيد الاستعمار"، الذي تحدث عن ما سماه "الدور الإيجابي للوجود الفرنسي في ما وراء البحار وخصوصا في شمال أفريقيا"، وهو ما أثار غضبا كبيرا في الجزائر.

وأدانه البرلمان الجزائري القانون الفرنسي، كما رفضه الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة في خطاب قال فيه "نرفض مزاعم الاستعمار.. هل يعقل أن أحدا يذبح شعبا بأكمله ويذبح هوية بأكملها ويغيبها عن الوجود، ثم يقول إن هذا العمل كان شيئا إيجابيا؟ هذا يعني أننا وصلنا للوقاحة".

بوقاعدة: الخشية من الاعتذار والتعويض

في الموضوع قال أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر توفيق بوقاعدة، إن "الاعتراف الفرنسي الجديد خطوة مهمة في طريق المصالحة، التي يسعى إليها البلدان، ولكنها غير كافية".

لكن بوقاعدة يستطرد بأن هذا الاعتراف وغيره "لا يقرّ بأن ما ارتكبه الاحتلال الفرنسي بالجزائر كان جريمة دولة، والسبب الحقيقي وراء هذا هو خشية فرنسا الرسمية من أن يقود الاعتراف إلى تقديم الاعتذار عن فترة الاحتلال الطويلة (1830-1962)، وسينجرّ عن الاعتذار مطالب جزائرية بالتعويض، وهو ما رفضه الفرنسيون مرات عديدة".

واسترسل الأكاديمي الجزائري في اتصال مع "أصوات مغاربية" قائلا "فرنسا لن تقوى على تحمّل التعويضات الضخمة جدا إذا ما ذهبت القضية إلى المحاكم الدولية المختصة، لذلك يوجد إجماع لدى النخبة السياسية المتعاقبة على عدم الاعتراف". 

حيلة لطي ملف الماضي

من جهته قال أستاذ التاريخ بجامعة سطيف شرق الجزائر، العمروت خميلي، إن فرنسا تلجأ إلى "حيلة الاعتراف خارج مسؤولية الدولة، حتى تطوي ماضيها الأسود في الجزائر فتلصقه بأفراد وتتنصل منها كدولة".

وأضاف خميلي في حديث مع "أصوات مغاربية"، بأن جرائم  كثيرة مثل التعذيب والإخفاء والتوسع الاستعماري وغيرها "ألصقت بالجنرالات بيجو ولامورسيار وكافنياك وغيرهم وليس بالجيش الفرنسي كمؤسسة تابعة لدولة فرنسا".

وختم المتحدث بالتأكيد على أن "الأمر ينطبق على الأحداث المتعلقة بالجزائر على الأراضي الفرنسية، فأحداث أكتوبر 1961 كانت قمعا فرنسيا استهدف جزائريين، وهو لا يختلف عن قمع الجزائريين بالجزائر، وللدفاع عن شرفها على أرضها لجأت كعادتها إلى إلصاق ما حدث بشخص رئيس شرطة باريس".

المصدر: أصوات مغاربية

مواضيع ذات صلة

خطر الإرهاب يتهدد منطقة الساحل وضمنها الجزائر
خطر الإرهاب يتهدد منطقة الساحل وضمنها الجزائر

تمر الإثنين 16 سبتمبر 25 سنة على "استفتاء الوئام المدني" الذي أقرته الجزائر "آلية للمصالحة" مع الجماعات المتشددة.

وتتزامن الذكرى مع فوز الرئيس عبد المجيد تبون بولاية ثانية، وهو الذي كان قد أمر الحكومة بـ"إعادة النظر في قانون 'لم الشمل' لفائدة الأشخاص الذين سلموا أنفسهم"، في أغسطس 2022، إلا أن القانون لم الجديد يصدر بعد.

وعول الرئيس الجزائري على قانون "لم الشمل" لتحديد طرق التعامل مع المتشددين الذين يسلمون أنفسهم، وذلك بعد انقضاء الحيز الزمني لتطبيق قانون "الوئام المدني"، وفق بيان لمجلس الوزراء آنذاك.

وسبق لتبون أن أعلن في لقاء دوري مع وسائل إعلام محلية نهاية يوليو 2022 أن هذه المبادرة "ستكون امتدادا لقوانين الرحمة والوئام المدني والمصالحة الوطنية، وستشمل كل من تم تغليطهم وأدركوا بعدها أن مستقبلهم مع الجزائر، وليس مع بعض الأطراف الخارجية".

وتعود قوانين المصالحة الوطنية في الجزائر إلى عهد الرئيس الأسبق ليامين زروال الذي أصدر قانون "الرحمة" في فبراير 1995، ثم قانون "الوئام المدني" الذي تبناه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وعرضه لاستفتاء 16 سبتمبر 1999، تلاه ميثاق "السلم والمصالحة" في سبتمبر 2005. وشجعت هذه القوانين مئات المتشددين المسلحين على الاستسلام والتخلي الطوعي عن أسلحتهم.

ومع تزايد أعداد المتشددين الذين يتم توقيفهم من قبل وحدات الجيش الجزائري (تحييد 30 مسلحا خلال السداسي الأول من 2024)، أو الذين يسلمون أنفسهم، تثار تساؤلات بشأن الإطار القانوني للتعامل معهم، بين من يرى إمكانية إصدار قانون جديد ينظم الأمر، وبين من يعتبر أن التغييرات السياسية والأمنية "طوت صفحة الوئام المدني والمصالحة مع المتشددين".

"روح المصالحة" 

وتعليقا على هذا النقاش، يؤكد الحقوقي فاروق قسنطيني أن "روح المصالح باقية في الجزائر"، لافتا في حديثه لـ"أصوات مغاربية" إلى "أهمية الحلول السلمية في معالجة قضايا الإرهاب والتشدد الديني بالجزائر".

ويتوقع قسنطيني إمكانية أن تلجأ الحكومة إلى "عرض مشروع قانون تكميلي للوئام المدني والمصالحة من أجل استكمال ملف العفو المشروط الذي تبنته الدولة سابقا".

وأشار المتحدث إلى أن "نجاح مشاريع المصالحة السابقة في حقن الدماء بالجزائر، سيكون حافزا أمام الرئيس عبد المجيد تبون لعرض مشروع جديد للتكفل بالمسلحين الذين سلموا أنفسهم خلال السنوات الأخيرة".

"صفحة مطوية"

ويرى المحلل السياسي، فاتح بن حمو، أن التعامل مع الحالات الجديدة وفق قانون الوئام المدني "لا يبدو ممكنا اليوم، بحكم أن هذا القانون يعتبر صفحة مطوية في الجزائر".

ويتابع بن حمو قائلا لـ"أصوات مغاربية" إن قانون الوئام المدني "حقق جزءا كبيرا من أهدافه قبل 25 سنة من اليوم، ولا يمكن إعادة العمل به لاختلاف الظروف والأولويات".

ويعتقد المتحدث أن إمكانية صدور قانون للمصالحة "أمر لن يتحقق على الأقل في المديين القريب والمتوسط، بحكم أن الأولوية الحالية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية التي يعمل عليها الجميع، بينما تتواصل عمليات مكافحة الإرهاب في شقها الأمني".

 

المصدر: أصوات مغاربية