أنثروبولوجي مغربي: جنس بشري منسي استوطن شمال أفريقيا قبل الأمازيغ!
خلّف نشر كتاب "الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة" لرائد الأنثروبولوجيا المغربي، عبد الله حمودي، سنة 1997 حماسا كبيرا تجاوز حدود الأكاديميا والصحافة.
وفي الأصل، يحاول الكتاب الذي تربع على رأس الكتب الأكثر قراءة في المغرب لفترة، تفكيك أسباب السلطوية في المجتمعات العربية عبر تشريح علاقات اجتماعية مبنيّة على الولاء والخدمة، وصولا إلى التجلي الأبرز لنموذج "السلطوية" في علاقة "الشيخ بالمريد" داخل الزوايا الصوفية المنتشرة بشدة في المغرب.
ورغم أن أذهان الكثيرين غالبا ما تربط الكاتب بنظرية "الشيخ والمريد"، إلا أن عبد الله حمودي ألفّ كتبا عديدة حول الأنثروبولوجيا والهوية، مثل "الهوية والحداثة"، و"موسم الحج إلى مكّة" الذي ترجم إلى لغات عدة، بالإضافة إلى كتابه الأخير "المسافة والتحليل: في صياغة أنثروبولوجيا عربية".
"أصوات مغاربية" أجرت مقابلة مع أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة برنستون الأميركية، عبد الله حمودي، حول إشكالية الهوية في المنطقة المغاربية وأسباب الصراعات الأيديولوجية والسياسية بين المكونات المغاربية حول التراث وبعض الرموز التاريخية، بالإضافة إلى القضية الأمازيغية.
إليكم نص المقابلة:
في كتبك يظهر اهتمام خاص بأنثروبولوجيا وثقافة الشعوب المغاربية كأنما هي دولة واحدة لا تعطلها سوى الصراعات السياسية. كيف تنظر اليوم إلى مستقبل الاتحاد المغاربي؟
الوحدة المغاربية لا توجد سوى على الورق منذ مؤتمر مراكش في 1989. أمنيتي هي أن أرى هذه الوحدة تتحقق بين شعوب المنطقة.
الوحدة المغاربية لا توجد سوى على الورق منذ مؤتمر مراكش في 1989
كتبتُ منذ فترة مقالة بالفرنسية بعنوان "المغرب الكبير.. الحلم المتناقض"، أي أن الوحدة توجد بين هذه الشعوب، لكن فعليا السياسة تعطل هذا الاندماج. الشعوب الخمسة موحدة في جوانب ثقافية ولغوية وتاريخية، لكن على المستوى السياسي فإن الاتحاد المغاربي بقي حبرا على ورق أيضا في مستويات أخرى.
هناك من يدفع باتجاه تغيير اسم منظمة "اتحاد المغرب العربي" باعتبار أنها تقصي المكون العرقي الأمازيغي، كيف تنظر إلى هذا النقاش؟
هذا نقاش يجب أن يتم الخوض فيه بجديّة. طبعا، أنا نفسي عربي اللسان، لكن أحبذ تسميته بـ"المغرب الكبير"، وهذه تسمية جيدة. من جانب آخر، هناك من يريد تسمية هذه المنطقة "تامزغا"، لكن حدود تامزغا لا تنتهي عند ليبيا، إنما تنتهي في مصر شرقا وفي مالي والنيجر جنوبا، حسب معتقد هؤلاء.
بعض النشطاء الأمازيغ أيضا طالبوا بتغيير اسم وكالة الأنباء الرسمية في المغرب، وآخرون ذهبوا إلى حد المطالبة بالخروج من جامعة الدول العربية. هل هذه المطالب مشروعة؟ وهل هي ممكنة؟
إذا كانت هذه المطالب مشروعة، فهناك دائما طرق لتحقيقها، لكن هل هي ممكنة؟ لا أعرف. ما أقوله هو أنني كشخص يعتبر نفسه عربيا، لم أنظر في يوم من الأيام إلى الأمازيغ كأشخاص مختلفين يحملون هوية غريبة عني. ربما هذه تربيتي، أو لأنني ترعرعت في وسط عربي يعتبر الجميع مغاربة ومسلمين.
العرب والأمازيغ جمعتهم عبر قرون زيجات مختلطة وروابط اجتماعية واقتصادية وثقافية يصعب حصرها
صحيح أن الجميع يعرف الشخص العربي من الأمازيغي من خلال اختلاف الألسنة، وصحيح أيضا أن هناك تحيّزات بين الطرفين، لكن هذا يوجد حتى بين الإخوة من أم واحدة. والعرب والأمازيغ جمعتهم عبر قرون زيجات مختلطة وروابط اجتماعية واقتصادية وثقافية يصعب حصرها.
إذن، مطالب بعض الجمعيات الأمازيغية مشروعة، لكن ما أتمناه هو أن يتم التعاطي مع هذا الموضوع بالحوار وبطريقة ديمقراطية.
طبعا، هناك عناصر متطرفة تدعو العرب إلى الرحيل تماما نحو شبه الجزيرة العربية، باعتبار أن المنطقة أمازيغية وليست عربية. شخصيا، لا أؤمن بأن هذا النوع من الخطابات مجدي، وأن النظر إلى الهوية بشكل مطلق سيُفضي إلى شيء ذي معنى.
الأمازيغ سبقوا العرب إلى شمال أفريقيا، لكن الدراسات الأركيولوجية أثبت اليوم أن الأمازيغ أيضا جاءوا من منطقة أخرى
نعم، الأمازيغ سبقوا العرب إلى شمال أفريقيا، لكن الدراسات الأركيولوجية أثبت اليوم أن الأمازيغ أيضا جاءوا من منطقة أخرى، وأن هناك جنسا بشريا منسيا سكن المنطقة قبل الأمازيغ. لا أقول هذا لأنزَع الشرعية عن مطالب الحركات الأمازيغية.
بالحديث عن موضوع الهوية، ماذا يعني أن تكون مغاربيا اليوم، وبالأخص ماذا يعني أن تكون مواطنا مغربيا تتعايش داخله روافد مختلفة تتذبذب بين الأمازيغية والعربية والصحراوية واليهودية؟
ألفتُ كتابا حول "الهوية والحداثة" وكباحث في الأنتربولوجيا أقول لك إن الإمساك بمفهوم الهوية مسألة جد معقدة بسبب "الطبيعة التملّصية" لهذا المصطلح. ورغم أن الهوية تحرك الناس بقوة، إلا أن تحديدها بدقة مسألة صعبة المنال.
لكن جوابي هو أن الدم والجينات ليست محددة لهوية الأشخاص. إذن، الأمر يرجع إلى الشخص لتحديد هويته الخاصة. على سبيل المثال، والدتي تنحدر من منطقة سوس (جنوب المغرب). وفي بلدتنا، الجميع يلقبها "حبيبة السوسية"، لكنها تعتبر نفسها عربية، لأنها ترعرعت في منطقة تتحدث اللغة العربية وعائلتها لم تعد تتحدث الأمازيغية. وفي الوقت نفسه، فهي فخورة بجذورها السوسية.
شخصيا، لم أحس أبدا بأنني أمازيغي، إنما أعتبرُ نفسي عربيا. وعندما أتحدث عن العربية أو الأمازيغية فإنني لا أتحدث عن العرق، إنما عن اللسان. في المغرب، هكذا هي الأمور، فأنت عربي أو أمازيغي بناء على اللغة التي تتحدث بها وليس بناء على العرق أو الدم.
موضوع الهوية في المنطقة المغاربية متشابك، لكنه أصبح أكثر تعقيدا في السنوات الأخيرة
إذن، موضوع الهوية في المنطقة المغاربية متشابك، لكنه أصبح أكثر تعقيدا في السنوات الأخيرة بسبب المحاولات القوية للكثيرين من أجل إثبات هويتهم.
البعض يحصر الهوية في العرق والدم وأحيانا في اللغة والدين أيضا. بالنسبة لك شخصيا، ما هي العناصر المحددة للهوية؟
بالطبع، العرق جد مهم لتحديد الهوية. مثلا، من بين الأمازيغ- الذين اشتغلت معهم- يوجد أشخاص من ذوي البشرة السوداء. وفي السنوات الأخيرة، الكثير منهم أصبحوا يعتبرون أنفسهم "حراطين" أكثر من كونهم "أمازيغ".
إذن، هوية الحراطين جد قوية في المنطقة المغاربية. أصبحوا أكثر نشاطا وقوة في العمل السياسي ولديهم وزن انتخابي كبير. نعم، إنهم يتحدثون الأمازيغية مثل باقي الأمازيغ، لكنهم يعتبرون أن هويتهم "حراطينيّة".
رغم ذلك، فإن "العرق" كمحدد للهوية مسألة معقدة أيضا. والسبب هو أن لون البشرة مسألة غير متمايزة تماما، فأين يبدأ اللون الأبيض وأين ينتهي؟ وأين يبدأ اللون الأسود وأين ينتهي؟
"العرق" كمحدد للهوية مسألة معقدة أيضا. والسبب هو أن لون البشرة مسألة غير متمايزة تماما
بالإضافة إلى ذلك، فإن "النمط الظاهري phenotype"، مثل ملامح الوجه وشكل الجمجمة وغيرها من محددات النظرية العرقية، مسألة معقدة جدا.
وعلاوة على العرق، هناك أيضا "ما يُحسه الإنسان في نفسه" و "ما يصبو إليه في المستقبل" كمحدد آخر للهوية. وحتى هذه النظرة للذات غير مستقرة إنما هي معرضة لتغيير وتعديل مستمرين.
أنت تلاحظ هنا أن الماضي ليس هو المحدد الأول والأخير للهوية، إنما يلعب المستقبل ورغبات الشخص وتصوراته لما يجب أن يكون، دورا في هوية الإنسان كذلك.
في الأخير، فإن الهوية التي يحاول الناس إثباتها بناء على تصور للماضي هي انتقائية، إذ يتم اختيار بعض الأشياء وترك أشياء أخرى من أجل التفاخر والتباهي. وفي هذا الصدد يجب أن أشير إلى أنه لا توجد هوية إلا بهوية مضادة. وبعض الهويات تنظر بشكل احتقاري للهويات الأخرى، خاصة بين الدول الجارة.
في السنوات الأخيرة، ظهرت صراعات أخرى على الشبكات الاجتماعية حول تراث المنطقة ورموزها التاريخية ومن يمتلك هذا الرصيد التاريخي. برأيك، هل الصراع حول طبق "الكسكس" أو جنسية "ابن خلدون" مجرد امتداد للصراعات السياسية؟
أفهم ما تقصده جيدا. أعتقد أن مجتمعاتنا عاشت تغييرات كبيرة - خلال مرحلة الاستعمار - إلى درجة جعلت النقاشات حول من يمتلك بعض العناصر التاريخية أو التراثية مسألة حتمية. وهذه الصراعات ستتعمّق بشكل كبير في المستقبل، وقد تؤدي إلى ظهور نزعات تطرفية شوفينية، إذا لم نفتح حوارا جديا بطريقة مقبولة تحترم وجهات نظر الجميع. حاليا، تبدأ هذه النقاشات بطريقة تنفي وجود الآخر تماما.
في الماضي كان الناس يمزحون مع بعضهم البعض عندما يقولون إن الكسكس الجزائري أو المغربي أفضل من التونسي أو العكس، لكن الآن أخذ هذا الموضوع طابعا عنيفا
لكن هناك أيضا حسابات سياسية ومصالح تغذي هذه الصراعات. على سبيل المثال، "الكسكس" تحول إلى معركة سياسية. صحيح أنه في الماضي كان الناس يمزحون مع بعضهم البعض عندما يقولون إن الكسكس الجزائري أو المغربي أفضل من التونسي أو العكس، لكن الآن أخذ هذا الموضوع طابعا عنيفا.
في كتابك "حكاية حجّ… موسم في مكّة" يظهر عبد الله حمودي متأرجحا بين الباحث الأنثربولوجي والمؤمن المسلم. خلال هذه التجربة، أيهما تغلب على الآخر، أو بمعنى أدق هل نظرتَ إلى الحج بعدسات إيمانية أم أنثروبولوجية؟
الكثيرون يسألون بطريقة غير مباشرة، وأشكرك على أنك طرحت هذا السؤال بطريقة مباشرة. جوابي هو أنني عندما ذهبت إلى الحج كنت في الستينات من عمري. ذهبت حاملا الأفكار التي ترعرعت بها في بلد عربي مسلم. من جانب آخر، فإن الوسط الذي نشأت فيه كان مختلفا. مثلا، لم يسبق لوالدي أن أجبرني على الصلاة، رغم أنه وضعني في الكتّاب لتعلّم القرآن.
لاحقا، درست الفرنسية، لأنها لغة مهمة في المغرب، واطّلعت على الأدب الغربي وتشرّبت الفلسفة الغربية والإسلامية. بقيت إذن حاملا في نفسي الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية بدون أن أحاول التفريق بينهما.
عندما غادرت إلى الحج، فقد ظل معي الجانب الروحي للإسلام، وهو مختلف عن الممارسة الشعائرية العادية. ولم أخف ذلك أبدا. كنت أجلس مع شيخ الزاوية الناصرية ويسألني إن كنت على وضوء فأُجيب بالنفي، ويسألني إن كنت أصلي فأجيب أيضا بالنفي. عندئذ يطلب مني، بكل لطف، أن أنتظر ريثما ينهي الصلاة. أنتظره بكل احترام. وبعد الصلاة، يطلب مني أن ألتحق به ونناقش مطولا مواضيع كثيرة مثل الشعر والصوفية والقرآن. كنت أقوم بهذا لسنوات عدة مع علماء دين وشيوخ آخرين.
عندما قررت الذهاب إلى الحج، كنت أنوي القيام بذلك كباحث أنثروبولوجي، ولكن أيضا كشخص مسلم يحمل هموما وجودية
عندما قررت الذهاب إلى الحج، كنت أنوي القيام بذلك كباحث أنثروبولوجي، ولكن أيضا كشخص مسلم يحمل هموما وجودية. وقبل أن أذهب، أخبرتُ مرافقي بأنني أعتزم تأليف كتاب حول هذه التجربة. وعندما كنت في مكة، كنت أبدأ الكتاب على الساعة الرابعة صباحا إلى أن يحين موعد الصلاة.
مرّ أزيد من عقدين على نشر كتاب "الشيخ والمريد"، هل ما زلت تؤمن بأن نظرية "الشيخ" و"المريد" تفسّر أصول السلطوية في العالم العربي، خاصة بعد الانتقادات التي أشارت إلى أن السلطوية في المجتمعات الشرقية سابقة لظهور الصوفية، وأن بعض المجتمعات غير العربية عرفت التصوف واعتنقت الديمقراطية مبكرا؟
الكثير من النقاد اعتبروا أن الكتاب "ثقافي" في العمق، في حين أن السياسة هي ميدان المصالح والبراغماتية. الحقيقة، أن نظرية الشيخ والمريد ليست نظرية شاملة لتفسير ظاهرة الاستبداد، لكنها نظرية تضرب على وتر مهم. والكتاب قُرئ على نحو واسع وهو في طبعته السابعة، ولا يزال يباع في المغرب.
العلاقة بين الشيخ والمريد انتقلت إلى الميدان السياسي في الحالة المغربية عبر ميكانيزمات معينة
طبعا، البعض وجد أن الكتاب غير مرضيّ في تأويله للسياسة، لكن حتى هؤلاء يعتقدون أنه يستحق النقاش. لقد كنت واضحا في مقدمة الكتاب، الكتاب ليس نظرية شاملة في السياسة، إنما محاولة تأويل (جدلية الشيخ والمريد) لفهم أصل السلطوية في العالم العربي. الكتاب أيضا يُصرّ على أن العلاقة بين الشيخ والمريد انتقلت إلى الميدان السياسي في الحالة المغربية عبر ميكانيزمات معينة. وهنا، لا أقول إن الملك هو "الشيخ" والوزير هو "المريد". ببساطة، ما قلته هو أن علاقة وُجدت - في الأصل - بالزاويا الصوفية انتقلت إلى حلبة السياسة.
إذن، لا أعتقد أنني أقف بشكل كامل مع جميع الخلاصات التي وردت في الكتاب. وعلى سبيل المثال، خلال الربيع العربي، بدا واضحا أن الشباب يرفض هذه السلطوية، مما دفعه إلى الخروج إلى الشارع. لكن رغم ذلك مازلت مصراً على أن الكتاب يشرح بشكل جيد الخلاصات التوصيفية للاستبداد في المنطقة، فجميع الأنظمة العربية تقع تحت نير "الاستبداد المعصرن" باستثناء تونس، التي تعيش نوعا من الديمقراطية.
- المصدر: أصوات مغاربية